استعير من سهيل سامي نادر مفردة ( كفخة) لوصف حالة المثقف العراقي ( إلا فيما ندر) قبل وبعد الاحتلال. المفردة هي في حقيقة معانيها المذلة تشكل عبارة طويلة. أطول من موسوعة بمجلدات لا تُحصى. هي ذاتها لا تكف عن التنفس داخل كيس معتم أو في ظلمة علبة. بلاد واحدة لا تتسع لها. لا تكفي تلك البلاد لتكون سجنا. في انتظار صفعة جديدة، كنا نتماهى مع ترددات الصفعة السابقة. اللاحقة ستكون أكثر اثارة. معها سنكون أشد انسجاما مع الرثاء المتواصل. تمرين مستمر على الخنوع والعبودية المستحبة. الحزبيون منا على الأقل كانت بطولاتهم نوعا من الاشفاق على الذات التي كانت تنقص في استمرار. ' أعوذ بالله من أنا' لم يقلها أحد منا غير أنها كانت مضمرة في سلوكنا. كانت الأنا عدوا. كره المجتمع المثقفين من أبنائه مثل ذنب. مثل لوثة. مَن يصفع مَن؟ كانت الريبة هي حبل الحلبة التي لن يقف أحد خارجها. مشى الكثيرون الاف الكيلومترات بعيدا عن تلك البلاد ذات المناخ الجاف غير أنهم بطريقة أو بأخرى لم يغادروا تلك الحلبة. كانت الصفعات تنبعث من أعماقهم. ( الكفخة) ليست صفعة إلا بطريقة مجازية، ذلك لأنها تنطوي على معنى أكثر اذلالا حين تتخذ طابعا تجريديا. ضربة تتجاوز الجسدي إلى الروحي. تذهب من الزائل والمؤقت إلى الدائم والابدي. حدث يتعلق بالكرامة الانسانية. ليتنا ركنا البطولة جانبا واعترفنا بما كان يقع لنا ومن حولنا قبل أن يلتهمنا الوحش ويصيبنا الداء.
2
في الصف الأول متوسط ( السابع حسب التصنيف الدولي) كنا ندرس تاريخ العراق القديم بلغة طه باقر، كما يخيل إلي الآن. وباقر هو واحد من اعظم العارفين بأسرار ذلك السفر العظيم. كان ذلك الكتاب بمئات الصفحات، ثقيلا ومتجهما ومليئا بالأسماء الغريبة التي يصعب حفظها وبالحكايات التي تشبه الالغاز. الآن حين أتذكر ذلك الكتاب أشعر بالفخر، ذلك لأن مؤلفه كتبه بضمير مرتاح وبحرية العالم وحيرته. كان كتابا مؤلما لانه يقول الحقيقة كاملة، حسب أدوات القياس المتوفرة حين تأليفه. مع الدعوة لاعادة كتابة التاريخ التي أفتى بها رأس النظام السياسي في ثمانينيات القرن العشرين وتبناها عدد من كتبة التاريخ ومدرسيه في الجامعات العراقية قل الألم، إذ غاب جزء عظيم من تلك الحقيقة. غياب السومريين من الملعب خفف الوطأة. اختفى شعب الاسئلة الوجودية القادم من السماء ( حسب حذلقات بعض علماء التاريخ الالمان) من الدرس. قيل يومها أن ملوك اور يشكلون عقدة لرأس النظام بسبب غموض أصولهم ( قد يكون ذلك القول فرية والله أعلم). ولأننا نهتم بالأصول كثيرا فقد قطعنا الشك باليقين واحرقناالشجرة بسبب تفاحة سقطت قبل أوان القطاف. كانت تلك ( كفخة) مزدوجة: لفتة تحتال على الزمن. صُفعت الفكرة المتحفية في اطار من التحقير الذي يشمل الحاضر والمستقبل. هو ذا شعب لطالما كان مصدرا للخيال الشعبي يتم حذفه لنقص في الأصول.
3
أعود إلى حادثة تاريخية من نوع آخر. منتصف سبعينيات القرن الماضي نشر عبد الستار ناصر في مجلة ( الموقف الأدبي) السورية قصة بعنوان ( سيدنا الخليفة). قيل أنه كان يقصد شخص ( خير الله طلفاح) خال نائب الرئيس يومها ووالد زوجته ومحافظ بغداد. قُبض على ناصر والقي به في السجن. موقف اتحاد الادباء في العراق ( عبد الستار كان واحدا من أعضائه) من تلك الحادثة كان مثيرا للدهشة. لقد تم فصل الكاتب من الاتحاد، بل ان الاتحاد أصدر بيانا يشجب فيه فعلة الكاتب الدنيئة . وهو ما صارت تفعله العوائل ومن ثم القبائل حين بدأت تعلن براءتها من بعض أبنائها الذين يعيشون خارج العراق ( اجراء دعائي لم يشمل المناوئين العلنيين للسلطة فحسب، بل ضم إليهم كل من اتهمته تقارير جواسيس النظام المندسين ببراعة بين صفوف المشردين من العراقيين بعدم الولاء). ذهب عبد الستار ناصر إلى السجن وحيدا، منبوذا من قبل المنظمة المهنية الوحيدة التي كان يحتم عليها وجودها واجب الدفاع عنه، أو على الأقل توكيل محام للدفاع الصوري عنه. هي ( كفخة) ناعمة هدمت معنى أن يكون للادباء نقابة مستقلة. لقد أبى الأدباء سوى أن يكونوا محترمين ولم يدافعوا عن زميلهم الطائش والمنحرف والسوقي الذي افترى على الحاج ( محافظ بغداد وخال النائب ومن ثم الرئيس) حين نشر على الملأ العربي فضائح سلوك ذلك الحاج. وهي فضائح ينبغي أن تسلينا ( صبغ سيقان الفتيات اللواتي يرتدين الميني جيب وشق بناطيل الفتيان وقص شعورهم الطويلة). خيال أندي وارهول بعيني شرطي.
3
أعود إلى عام 1969 حين ظهر زعيم القيادة المركزية للحزب الشيوعي على شاشة تلفزيون بغداد. ظهر جيفارا العراق بوجه منتفخ. ( كفخات) كثيرة تعرض لها الرجل الذي قاد الكفاح المسلح في الأهوار أقنعته بضرورة أن يقوم بتوجيه كفخته التاريخية إلى الجميع. وهي علامته في التاريخ الثقافي قبل التاريخ السياسي. لقد اعترف أنه بعد حوار ( معمق) مع السيد النائب ( صدام حسين يومها) قد اقتنع بخطأ ما يفعل ولذلك لجأ إلى الخط الوطني. حالة انعدام الوزن التي عاشها الزعيم الشيوعي تعطينا فكرة عن وزن المثقف العراقي يومها. أبعاد هلامية لحداثة صورية كاذبة. حداثة لا تضع المصير البشري نصب عينها. ورق ولوحات وصلصال وقوالب لصب البرونز وشعر ضجر من العيش في مدن الاسمنت التي لا وجود لها في العراق. لم يتساءل أحد من المثقفين المهزومين يومها عن مصير سكان الأهوار، الذين تسلل الهاربون من الخدمة العسكرية إلى مياههم الساكنة بحجة الكفاح المسلح ليدفعوا بهم في ما بعد إلى الالتحاق بأجدادهم السومريين. نبوءة لا تستثني ملكا. غاب المعدان أو محقوا كما حدث للسومريين في كتبنا المدرسية.
4
لم يكتب المغول في القرن الثالث عشر الميلادي تاريخنا باعتبارنا شعبا مهزوما. لم يكن المغول يوم أحرقوا عاصمة الخلافة العباسية يهوون الكتابة. ليتهم فعلوا. الآن يكتب أتباع الغزاة الجدد ( الامريكيين) تاريخ العراق بحذر عاطفي مريب. قيل أنهم ( حسب الوكالات) لا يذكرون في مناهج الدرس وقائع الغزو الامريكي الذي حدث للبلاد عام 2003، وذلك لان تلك الوقائع هي موضع خلاف وجدل بين العراقيين. هناك من يعتبر الغزو الامريكي احتلالا وهناك من يعتبره تحريرا. أحلى تحرير. ولأن المؤرخين الجدد يحترمون آراء القراء بديمقراطية لا مثيل لها، فإنهم يقفزون على النقاط الحرجة. ( العروبة) هي الأخرى نقطة خلاف في العراق. لذلك فقد تم التغاضي عن الكثير من الوقائع التي تثير شقاقا، بالأخص منها ما يؤدي إلى ازعاج الجارة ايران ( كتب المدارس العراقية تطبع فيها). أي متتبع حقيقي للتاريخ لا بد من أن يدرك أن عدم الاشارة إلى الصراع العربي ـ الفارسي يعني حذفا لجزء أساسي من تاريخ العراق. فلولا معركة القادسية التي جرت على أرض العراق لما انتشر الاسلام ولما انهدم ايوان كسرى في المدائن ( المدينة التي تقع قريبا من بغداد). هي ( كفخة) للعقل وللعاطفة. كفخة يرعاها الامريكيون حين يجردون شعبا من هويته ويهبونه اسلاما مستلهما من الحكايات الشفاهية. صارت كل الطرق تقود إلى كربلاء وليست إلى أور أو نينوى أو بابل أو الانبار أو ميسان. غسيل منظم للعقول الفتية يتيح لها الاستعداد المبكر لكفخات مقبلة لا محالة.
5
اعتقد اننا في العراق من الشعوب النادرة التي عرفت معنى الاحتلالات المتتالية. ( هل تعلمنا؟ هذا شيء آخر). قبل الهجرة بثلاثة الاف سنة مد العراقيون أيديهم الى السماء. قطفوا القطن الأزرق وصنعوا دمى لخيال ملائكة مرحين. رأيت تماثيل لهنري مور هي نسخة طبق الأصل عن دمى سومرية. بعد الهجرة بأعوام قليلة بنيت الكوفة والبصرة على أساس الاختلاف المعرفي فكان أن ظهرت المذاهب الاربعة وحركات المعتزلة وإخوان الصفا والخوارج والزنج وسواها من المدارس الفكرية التي احترمت العقل البشري واتاحت لوعي التاريخ نوعا مختلفا من السلوك والمعالجة. ألم تكن الاختام الاسطوانية نوعا من الترجمة ( السيرة) الشخصية؟ وهل علينا أن نصدق أن حكايات ' الف ليلة وليلة' لم يكن كتابها بغداديين؟ بيت الحكمة نوع من بابل مترجمة الى اللغات المعاصرة. بابل وهي قريبة من بغداد شهدت كتابة التوراة، فلمَ يعجز البغداديون عن كتابة ما يتشبه دنيويا بذلك الحدث الالهي؟. الآن بصمات الاصابع تُمحى. بصمات العيون تُزيف. ماذا عن بصمات القلوب؟ ملهاة ـ مأساة مستمرة. عشتار التي الهمت كل الملكات والالهات العشق تراقبنا بيأس. أم العاشقات. أم النساء جميعهن. أم الامهات الفاتنات كلهن هي في منأى عن أي اختلاف. العراقية أمي. ملكة بابل العربية التي تضم عبد الستار ناصر إلى مقتنيات صندوقها الخشبي من الدمى السومرية. سيقول العراقيون بعد فوات الأوان: نحن اخترعنا المهدي. ما معنى ذلك؟ هي كفخة متأخرة ليس إلا.