" سأرجئ صعودي إلى رحيق انتظاراتك حتى أصيرك لقاء ألوذ بذاكرتي لأستغفر نزق الحب فترتب أنت آثام يديك ممرات ألم غريب فبين معابد الغدر وانجليزيتي البريئة صرنا ثنائيا للكوميديا السوداء حيث تقبع انتصاراتك باهتة .. فوق كتفي ... " ............ كانت مفاجأة لي وأنا أتجول عبر رحلة تمتد أكثر من ثلاثين عاما تفصل ما بيني وما بين طفلة حملتها ارض الجنوب على ذراعيها اللينتين ..وعمدتها زرقة سماواتها العميقة . تلك الطفلة هي خلود المطلبي.. صبية غادرت سماءها الأولى لترتمي في أحضان ضباب مدن انجلترا الرمادي . لم أكن أعرف أن غرين أنهار الجنوب قد انبت زهرة الشعر المباركة على شفتيها لتحملها معها تعويذة تحميها من جليد ورياح تلك الأقاصي البعيدة . وتحرس ذاكرتها حتى لا تتفتت تحت ثقل أظلاف المنافي الموحشة . لقد ظلت زهرة الشعر التي حملتها "خلود " معها تنمو في تلك الأقاصي البعيدة وتمد جذورها رغم هشاشتها عبر أراض قد تلين كقماشة بحر " المانش " وقد تقسو وتتصلب كصخور جبال " الألب ، قد تشرق عليها شمس خجولة وقد تنقض عليها أكثر من عاصفة ثلجية . ,ورغم كل هذه المناخات الشرسة ظلت الشاعرة تمسك بزهرتها تلك وكأنها الحبل السري الذي يربط مابين زرقة سمائها الأولى ومابين سماء متجهمة وكدرة هي حاضنتها الجديدة ,ولكي توفر لزهرتها الطفلة أفضل المناخات فقد عمدت إلى عملية استحضار شمس طفولتها الأولى حتى ولو في مظهرها التخيلي حتى توقف زحف عتمة الخارج إليها , وحافظت على لغتها المعمدة بلثغة الطفولة حتى لا تضغط عليها تلك اللغة الغريبة التي قد تبدو مربكة في بنائها اللفظي والتشكيلي أذا ما قورنت بلغتها الأصل التي تبتل بندى غناء آخر الليل تردده صبية تطحن القمح ,أو يتهجد به صاحب زورق عائد بحمولته من القصب وطيور " الحذاف " حيث تتجه أغانيه كرسائل حب صوب امرأة ربما غلبها النعاس بعد أن انتظرته طويلا .. هكذا استطاعت الشاعرة أن توحد بين سماءين تغاير كل منهما الأخرى ,سماء بريئة ومفتوحة على الزرقة والشمس ودفء الهواء وبين سمائها الجديدة التي تمثل النقيض ,ومن هنا توفرت في قصائد الشاعرة وحدة الطبيعة كبيت وملاذ , ووحدة الحلم الإنساني الذي بإمكانه أن يؤسس عالما من الجمال والبساطة والفن . من هنا نجد أنفسنا ونحن نقرأ "خلود المطلبي " أمام شاعرة تركت لسجيتها وبراءتها الأولى أن توفر لنصها ملاذا آمنا ينقذه من الوقوع في التغريب ,أو الدخول في متاهة اللغة ,أو الانسحاق تحت ثقل منجز شعري معين . أو مدرسة فرضتها ظروف مغايرة لواقع عاشته الشاعرة طفولة وصبا وشبابا . في قصيدة الشاعرة " اشتعالات الجسد " ورغم موضوعها الوجودي ذي البناء الفلسفي نجد غنائية هادئة وتشكيلا يرتفع باللغة إلى مستوى عال من الابهار من خلال انثيالاتها الصورية ورموزها التي تجمع بين العمق والوضوح : " محزن جدا أنك لن تقول لي / مرة أخرى / Hi / لأن بحر " المانش " الذي تجمد فجأة / قد ابتلع الخمسة عشر عاما كلها / تلك التي كنا سنتبادل فيها الأدوار / مرة تكون أنت أبي / ومرة أخرى / أصير بها أمك .. " ان نصوص " خلود المطلبي " تمثل مغامرة شعرية في أكثر مناطق الحس الإنساني وعورة وشقاء مع هذا تظل تحتفظ بنقائها التصويري المنسجم مع الموضوعات الأثيرة على قلب الشاعرة والتي تتواءم مع وعيها الذاتي. ان لغتها تتوهج فقط وتوهج اللغة هنا يتكشف من خلال عريها عن كل ما يحاول الآخرون أن يستروا به تشوهات جسد قصيدتهم . " إكليل شوك / كأقدامه العاريات / محض مصادفة هي / محض خيال هو ........... ". إن وقفة تأملية أمام منجز الشاعرة تظهر لنا قوة منجزها الشعري ,وفرض حضوره على وعي متلقيه ,وبالرغم من ان تجربتها تخلقت ونمت في بيئة يعمل فيها الشعر ضد الشعر إلا أنها ظلت مخلصة للآصرة التي تربطها بالقارئ لا على حساب تشكيلات نصها الفنية ولكن عبر صدق التجربة , وعفوية تعبيرية تؤسس للإبقاء على العلاقة السرية التي تربط بين منتج النص ومتلقيه , لقد ألغت الشاعرة الحد الفاصل بين الأنا والنحن حتى تخرج على شعار " النخبة المتلقية " وقد تحقق هذا بالرغم من أن ضمير الفرد المتكلم ظل حاضرا في أغلب نصوصها ,ولكن هذه الأنا تتحول إلى الأنا الكلية في عبورها من الذاتي إلى الموضوعي ومن الخاص إلى العام كما هي الحال في أبنية نصها الشعري الذي يتواءم فيه الغنائي والواقعي والحكائي والرمزي دون أن يطغى احدهما على الآخر : " وبما أن جميع الملوك مراوغون / فعليك ِ إذن أن تعترفي / بأن " هنري الثامن " لم يكن المراوغ الوحيد / كما أن " بولين " لم تصعد البرج مرة واحدة /كما خيل لنا سابقا ..". في هذا النص تنتزع الشاعرة نفسها من مراوغة الملوك وإغراءاتهم حتى لا تتحول إلى أميرة قتيلة مثل "بولين " التي ألقي بها من أعالي البرج ,إنها تريد أن تظل متألقة وأن تقام الاحتفالات على شرفها وشرف سلالتها البهية ,وهنا يبلغ نص الشاعرة قمة تألقه الفني المبهر ,فبالرغم من خوضها في موضوع موغل في واقعيته ,وممكن جدا أن يقود النص نحو مناطق هشة ومنكشفة إلا أنها غطت ..وبمعالجة بنائية وتصويرية خلاقة .. على الحدث المتداول والمألوف : " سأتألق دون عناء الليلة / تاج من زهيرات " الجريس " فوق رأسي يكفي ليظن الرجل الذي ظل يراقبني طوال الليل / ويبدي إعجابه بابتسامات وقحة بأنني ابنة إحدى الممالك السالفة / وأن الاحتفال الذي أقيم / كان على شرف سلالتي البهية / ولذلك تسابق الجميع لإرضائي .......... " لم تعلن الشاعرة داخل نصها عن حرس مدجج بالسلاح يقدم لها التحية ,إنها تخرج من دائرة الملوك المراوغين قتلة الأميرات لتدخل مملكتها الخاصة فالاحتفال يقام على سلالتها الشعرية وليست سلالة الحاكمين . إن قصيدة " خلود المطلبي " قصيدة حية ومتحركة فهي تؤنسن أكثر الأشياء صلابة وتمنحها اللون والحركة والرائحة وكأنها تعيد خلق الطبيعة بأنامل فنان تشكيلي : " الرصيف المتأرجح بين حدقتي عينيك ولافتات الدخان سيهرول هو الآخر " إن ما نعرفه عن بنية الرصيف المادية هي بنية شديدة الكثافة والتحجر لكن وحين تقود الشاعرة رصيفها إلى منطقة وعيها المهدد بالخوف يتخلى عن سكونه المادي , وهكذا يتحول إلى كائن حي يهرول متخفيا "بين العيون ولافتات الدخان". لقد تحول رصيف الشاعرة إلى لوحة تشكيلية تقرب من لوحات عباقرة الفن السريالي وتصل سرياليتها ذروة غرائبيتها في هذا الشطر الشعري : " ولن يتوقف عن اللهاث وراء جوع العواصف وأشرطة عجالة خوفك ......... ". وبالرغم من أن الجانب الإخباري الذي يختص بالمعالجة النثرية يبدو واضحا إلا أن الغرائبية المصاغة شعريا حولته من مكون خبري إلى تشكيل استعاري يثير فينا مشاعر متناقضة من الدهشة والخوف ,وتختتم الشاعرة نصها بتكوين يتناص مع معلقة " امرئ القيس " وهو يصف " الثريا " ولكنه تناص إبداعي وليس تناصا تأثريا : " وستتدفق ارجوانية أذرعك الأخطبوطية من حبرها اللزج لتكبل كل اتجاهاتك في حلبات حبسها المغلقة " . وتمتاز جل قصائد الشاعرة بمفتتح أشاري يحيلنا إلى استخدامات كتابة النص القصصي الذي يتخلى عن بداياته ويدخلنا دونما أي تمهيد في ذروة الحدث الحكائي , الشيء المختلف عندها تأكيدها على مساحة شعرية محذوفة تشي بها مساحة " البياض " الذي تحملنا الشاعرة مسؤولية ملئه من خلال تداع تأملي إيحائي تنتجه سلطة مبدعة تشركنا في صياغة النص دون أن تجعلنا نتوقف عند تذوقه : " ها أنا أرسل إليك قبلاتي الكثيرة التي لن تصل إليك وأتنصت لنواقيس قلبي المتوحد قلبي الجبان الذي يخذلني كل مرة ........... " إن " هاء " التنبيه في " ها أنا " تكفي رغم صغرها أن تشير إلى اللحظة الراهنة التي تتحدث عنها دون أن تكون مضطرة إلى الإخبار عن زمن مغيب , لقد مرّ صوت الشاعرة مرورا سهلا فوق أكثر من منحنى حياتي ذاتي مستعينا بغنائية لا تنكفئ وراء ذاتيتها بقدر ما تتخطاها إلى الذات الأكثر اتساعا : " أيها السيد الفائق الجاذبية يا دليل الكواكب إلى القلوب ............ " لقد عمدت الشاعرة غنائيتها العذبة والساحرة بحس أسطوري مبتكر شكلت مخيلتها أكثر عناصره عمقا واتساعا . وأخيرا هل أستطيع أن أقول إن قصيدة " خلود المطلبي " ستؤثر بالقصيدة الانكليزية بعد أن تخترق حاجز اللغة حيث تبذر في حقولها شيئا من ملامح قصيدة شعرائنا العذريين , لتخفف من صلابة لغة العصر الذي يقف على فوهة رأس نووي مثلما تؤثر في قصيدتنا العربية الحديثة وهي تلقحها ببعض من عصر رومانسية " شيللي " و " اللورد بايرون " وغيرهما لتغرس في أعماقنا أكثر من حقل أخضر بعد أن ترفع عنها مخلفات الحروب , وتفتح في جدرانها أكثر من نافذة أغلقها الحزن الأسود.. أعتقد أنني أستطيع أن أقول ذلك بالتأكيد . |