الاحتلال والهجرة ودكتاتوريّتا الدولة والدين والمحنة هي السبب
من الأمور التي لا يمكن أن نتجاوزها في بنية الثقافة العراقية حديثا، هو حجم الفراغ أو الهوة المتزايدة بمرور الوقت بين النخبة الثقافية والجيل الناشئ الذي سيُعتمد عليه لتأسيس جيل عراقي من الممكن ان ينهض بالواقع المعرفي والثقافي في ظل تجربة نامية، ويبدو أن هذا الوضع واضح للعيان عند إجراء أي إحصاء أولي أو تقريبي لاعداد الادباء الشباب ما دون الثلاثين في العراق، ومقارنة هذه النسبة بأعداد الشباب من المثقفين والادباء في السنوات الماضية. وهذا يعطي مؤشرا للوهلة الاولى بأن المشهد الثقافي العراقي قد أخذ في كثير من ملاحمه يتأثر بين الحين والآخر بموجات العنف والدمار الثقافي والحاجة الاقتصادية التي أصابت ولدرجة كبيرة بنية الثقافة العراقية في العقود الماضية، والتهمت بدورها الاساس المعرفي الذي يمثل البذرة الاولى في أي تأسيس مستقبلي يُعوّل عليه لتفعيل دور الشباب العراقي وتوعيتهم لما يلعبه المثقف في صياغة الاسئلة الحاسمة والجوهرية في بلد كالعراق يمرّ بتجربة فتية قد تمثل نقطة الارتكاز لصناعة مناخ وطني يحتضن كلّ تنوعات الطيف الاجتماعي في ما بعد. ما أسباب تراجع أعداد الادباء العراقيين دون الثلاثين مقارنة بالسنوات السابقة؟ حتى لا نكاد نرى في أغلب الامسيات الأدبية او التجمعات الثقافية أديبا شابا، فهل أصبحت ثقافتنا هي الاخرى غير قادرة على الإنتاج والتواصل؟ ولماذا تحاول النخب الثقافية والسياسية العراقية النظر للموضوع بعين الاهمال واللامبالاة أو الصمت أحيانا؟ وما هو دور المؤسسة الثقافية في العراق تجاه هذا الأمر الذي يهددنا فعليا؟ وهل يمكن معالجته سريعا قبل أن نتحول الى هامش في الثقافة العربية والعالمية؟ تداعيات هذا الملف وهواجسه نفتحه مع أدباء ومثقفين من داخل العراق وخارجه لنرى ما ستكون أجابتهم وردود فعلهم إزاء هذا الامر؟ التفتيت الثقافي والمنفى يعتقد الشاعر العراقي المغترب باسم فرات (أستراليا): أن الظروف التي مرّ بها العراق في العقود الأخيرة تسببت بتفتيت كتلة المثقفين ومَن هو في طور الاعداد ليلحق بالنخبة المثقفة، فتوزعوا مرغمين ليس في أربعين بلداً بل في كل بلدان العالم التي ازدحمت بآلامهم وأحلامهم. ويرى أيضا: أن هذه الظروف أعاقت ظهور أسماء جديدة مميزة لتشكل نخبة تعمل معاً فيبرز صوتها واضحاً، ولكننا لو جمعنا هذه الأصوات فسنكتشف أنها هائلة وليست نادرة. وواصل فرات القول: سؤالك يدعوني لطرح سؤال أظنّه يلامس الجرح، وهو: مَن منا يعرف محسن مهدي وصالح جواد آل طعمة، وكلاهما من كبار المثقفين في كربلاء، إن هذا التفتيت الذي تعاني منه الثقافة العراقية حرمنا من أهم أمر فيها للتطور وبروز الأسماء التي تضيف للمنجز، وأعني التواصل، مما وَلّدَ شرخاً واضحاً للناظر سريعاً للمشهد الثقافي العراقي. لكن المشهد في نظره قد يحمل شيئا من الايجابية، فيستدرك: من أصيب بداء التنقيب والبحث وعدم الركون للدعة، فسوف يبهره المشهد، وهذا الرأي لا ينفي وجود سلبيات أحاطت بالأسماء الجديدة حتمتها ظروف البلد وصعود طبقة العسكر المترفين للسلطة. الاحتلال والفوضى ويقول الكاتب والاكاديمي علاء مشذوب: إن الثقافة العراقية درجت منذ الخمسينيات تقريبا على نظام التجييل لمبدعيها ليقال عن المبدع الفلاني إنه من الجيل الستيني وفلان من الجيل السبعيني ... ولكن لا يمكن إطلاق هذا المفهوم على الثقافة بالعموم كونها نبعاً مستفيضاً ومستمرا بالتدفق وغير مرهون بشخص أو طبقة أو جيل لأنها جزء من حركة المجتمع والعالم. واوضح أن: وضع الثقافة من بعد التغيير 2003 يُنبئ بمشهد ثقافي مشوه تتجاذبه الأهواء نتيجة عدم الاستقرار كونه مشفوعاً بالاحتلال والذي يختلف على هذا الأخير كمصطلح الكثير، بالرغم من اعتراف الأمم المتحدة بأن العراق بلد محتل ولكني أجد هذا المصطلح لا يروق لبعض المثقفين نتيجة ما عانوه من قمع وتعذيب وتكتيم للأفواه إبان الفترة السابقة، وهم يجدون الآن فسحة من الحرية والتعبير من خلال ما أتى به الاحتلال في رأيهم وهو حرية الإعلام وكذلك الانترنيت والتواصل مع الآخرين. وأردف: هناك رافد مهم وإضافي جديد دخل بعد التغيير وهو طبقة مثقفة ومهمة وغنية بتجاربها كونها احتكت بتجارب العرب والغرب وتداخلت مع الوضع الجديد في العراق وانتشرت في الوسط الثقافي كونها جزءا منها، واعتبرت رافداً جديداً يزاوج في ثقافته لينتج ثقافة لم يعتد عليها الكثير من قبل. وحين سألناه عن الوعي الذي يحمله الجيل الجديد أجاب: إن الفوضى جعلت الجيل الناشئ الذي يمكن عده محسوبا على العقد الأول بعد الألفية الثانية في تشتت من التحديد، فتارةً تراه يكتب في الأدب وأخرى في الصحافة وأخيرا في السياسة والفن وهذا ليس بعيب، وربما تعتبر مندوحة في نظر البعض ولكنه يعني عدم التخصص والبروز في مجال معين نتيجة التشتت الذي قد يؤدي الى الضياع والتيه. وانتهى بالقول: وفي رأي ليس ببعيد يتفق الكاتب والصحافي العراقي نجم النّاصري (بيروت) ويبين في الوقت نفسه عدة أسباب تظافرت لبروز هذه الحالة كان من اهما بتقديره: هجرة الشباب العــراقي الى المنافي البعيدة حيث المجتمعات المختلفة، وتدهور مستــوى التعليم والتربية في العراق، وشيوع الاميّة بين طبقات المجتــمع نتيجة للحروب الطويلة التي خضناها، وأيضا انتــشار ظاهرة الثقافة الشعبية بين النّاس، والحاجة الماديــة والفقر الاقتصادي بسبب الحصار الذي عانى منه الفـرد العراقي. إضافة الى النظام السياسي الذي جثم على صدر العراق لفترة من الزمن أفقر الثقافة العراقية وجمدها واختصرها في شخصه، أدى بالنتيجة الى تفكك النسيج الاجتماعي في العراق مما أفقد العراق هويته الثقافية، وأخيرا ما لعبه الاحتلال في هذا الجانب من حرق الذاكرة الوطنية وسرقة الآثار ومقومات الثقافة العراقية التي تعين الانسان العراقي بتكوين ثقافة حقيقة. انعدام الأفق فيما يرجع الإعلامي العراقي المقيم في بيروت (محمد الزيدي) الأسباب الحقيقية لندرة الأسماء الجديدة في المشهد الثقافي العراقي الى طبيعة ما يسميها الهزات العنيفة التي طرأت على ذلك المشهد بمختلف وجوهه وانعكاساتها على المثقف، لافتا إلى ان «هذه الهزات هي التي كانت حائلا نحو عدم بروز جيل جديد من المثقفين العراقيين الذين لهم القدرة على إغناء الثقافة العراقية والعربية على حد سواء». وقال : «بما أن الأدب ابن بيئته كما يقولون فإنني أعتقد أن طبيعة البيئة العراقية الحالية هي التي أثرت سلبا بواقع الثقافة العراقية وجعلت من بروز هذا الجيل يسير بإيقاع بطيء». بين دكتاتوريتين ويحاول الناشط السياسي العراقي (عواد كاظم) المقيم في المانيا ربط الامر بين ثنائية الدين والدولة اللذين يمارسان دكتاتورية في التعاطي مع المثقف العراقي فيقول: إن الامر يرجع لسببين اثنين، الاول يمثله النظام الدكتاتوري الذي كان يحارب كل مبدع ومثقف ان لم يكن يسبح في فضاء السلطة، ويمجد إنجازاتها وهي التي لم تنجز سوى الخراب والدمار للوطن والشعب، ولدينا من الاسماء الكثير التي عانت من هذا الامر، وهناك بطبيعة الحال شخصيات غابت في المهجر تم نسيانها. ويرى ان السبب الثاني: هو العامل الديني المعطل للعقل والابداع (الذي يختلف الكثير من المثقفين معي بشأنه) حيث رجل الدين الذي يقف بدوره موقفا سلبيا من الثقافة والمثقف اذا لم تكن ضمن الاطار الديني، إضافة الى ان كثيرا من الشباب قد سلم مفاتيح عقله الى رجل الدين، والثاني سلم عقله لكتب عمرها مئات السنين، وهذا انعكس بدوره على المجالات كافة. قطيعة التأسيس ويضيف الشاعر العراقي والصحافي (صحيفة الصباح العراقية) صلاح السيلاوي: لم تعد جغرافيا الأدب العراقي متخمة بتنافس الوجوه الجديدة، مثلما كانت تزخر بها في التسعينيات وما قبلها، فأينما توجهت ببصيرتك متفحصا تضاريس تلك الجغرافيا الثقافية، فلن تلمس وهج ملامح تلك الوجوه وشفافية أعمارها الصغيرة، وهي تحاول غرس نفسها في خصب العملية الإبداعية. في أغلب مناطق جغرافيتنا الثقافية، انقرضت كلمة (هذا وجه جديد) التي طالما كنا ومن سبقنا، نسمعها، غاب ذلك الوجه شعريا وقصصيا وروائيا. ومن خلال رؤية هذا الواقع يقول: لم أجد وأنا أتفحص مشهدنا الثقافي، أدباء تحت سن الثلاثين، ممن ينتمون إلى اتحاد الأدباء في بعض المحافظات، ولم تعد أغلب ملتقياتنا الثقافية تتنفس روح الشباب المتوهجة بالجدة والحداثة، كما شكت بعض أماسينا من شيخوخة واضحة، فيما وصل بعض منها إلى خرف ثقافي. وأضاف السيلاوي بما يخص المسافة بين النخب والجيل الناشئ فيوضح: ثمة قطيعة واضحة عن التأسيس لجيل أدبي جديد، يبدو أن النخب الثقافية لم تعر أهمية لفكرة ذلك التأسيس، في ظل مصارعتها أجواء الخراب والموت التي تغلف الحياة العراقية، منذ عقود طويلة، فكان توالد الأجيال يتم عبر تراكم الخبرات الإبداعية وتزاحم خطابها من دون تخطيط مسبق. ويلقي اللوم في أسئلته على دور وزارة الثقافة فيستفهم: ثمة أسئلة مهمة، هل رصدت الجهات المعنية بتفعيل الثقافة العراقية ورعايتها، مسألة شحة الجيل الثقافي الجديد؟ أتمتلك وزارة الثقافة النائمة كعادتها، واتحاد الأدباء إحصائية لأعداد الأدباء (صغار السن)؟ أكاد أجزم بعدم امتلاكها. ويتجه بالكلام فيذكر في هذا الجانب: سيقول المسؤولون الثقافيون: كل المحافظات مليئة بمراكز ثقافية متنوعة. أقول لهم: هذا يعني بعد إجراء الإحصائيات الدقيقة لأعداد المبدعين الشباب وإجراء المقارنات السالفة الذكر، أن تلك المراكز الثقافية بحاجة إلى إعادة نظر في ماهية خطابها الثقافي وكيفية طرحه. ويتجه الناقد الكاتب المسرحي عقيل ابو غريب بالامر واسبابه الى عدة محاور يعتقد أنها تساهم في إنتاج أسماء تصنع المستقبل الثقافي عراقيا فيخص منها: سأتكلم في البداية على صعيد الشعر والقصة والرواية والنقد، هنالك عدة اسباب أدت الى انحسار الحركة الثقافية في العراق واولها تهميش المثقف العراقي في فترة النظام السابق، وينسحب هذا التهميش للوقت الحاضر فحتى النظام الديموقراطي الجديد الذي بُني على اساس التشكيك في الانتماءات الحزبية والولاءات الطائفية، وأقصد المثقفين، قد بقيت عالقة فيهم وصمة الكتابة للسلطة الحاكمة آنذاك وتأيــيد مشــروعها السياسي والثقافي ابان الثمانينات والتسعينات من القــرن المنصرم . ويعتقد من الممكن ان تشترك الجهود المتمثلة: بمؤسسات تربوية وتعليمية أعني في هذا الكلام وزارة التربية ووزارة التعليم العالي اللتان تعدان بمثابة الرافد الاساسي لتزويد وأغناء المشهد الثقافي بالأسماء الجديدة، فمن لحظة التغيير التي حصلت على كل المعطيات في العراق سواء اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا لم تأخذ تلك المؤسسات وللأسف الشديد دورها الحقيقي واستحقاقها المنطقي الذي من المفترض ان تلعبه والمتمثل باحتضان الموهوبين من الشباب. ويربط بين هذه الاسباب وبين الجيل الجديد نفسه الذي يتحمل كذلك جزءا من الاسباب التي تعترض الثقافة في العراق فهو _ والقول لا زال لابي غريب: يمتلك رغبة شديدة في ظهور اسمه سريعا وقد اتاحت له الصحف العراقية الكثيرة هذا الانتشار السريع والمجاني عن طريق خوض غمار الكتابة الصحفية البسيطة والتي لا تحمل نضجا ووعيا معرفيا كالمقالة العابرة او التحقيق السريع والقاصر وغير مستوفي لشروط الابداع والكتابة المتعارف عليها في الوسط الثقافي . وختم ابو غريب حديثه عن دور المؤسسة الثقافية فهي بنظره تتحمل جزءا من التفاعل الذي يؤدي التواصل وصناعة الأسماء الجديدة. ويقول أخيراً: من الممكن أن يحرز المشهد الثقافي في العراق تقدما واضحا في ردم هذه المسافة التي باتت تتسع شيئا فشيئا بين نخب تمكنت من الظهور بعد سنوات من الصبر والمثابرة وجيل ناشئ تسارعت خطوات أيقاعه بنظر البعض، وينتظر منه الكثير لتحقيقة مستقبلا، ولكن يبدو الى أن الامر بحاجة الى تفاعل وجدية وعمل أكبر على مستوى أعلى من المؤسسات التي يتفق أغلب المثقفين بضرورة ابراز دورها وتأكيد أستعدادها لهذه المهمة . |