لم أحسب أن سيل اللغو الذي علقت في خضمه سيملأ جوفي الخاوي بمزيد من الهراء, فكففت عن الإنصات ساخطا على لحظة موافقتي على حضور هذا المهرجان السقيم. كانت جمل الخطيب القميء عرجاء وأثقل مما تحتمل طبلة أذني فهمست رادا على مواويله السمجة: فأفئ وتأتئ وطوح بذراعيك ما شاء لك وتكلم بما شئت فلن أعيرك سمعي. أشحت بوجهي عنه لاعنا أقدامه التي دنست خشبة المسرح ومضيت أتأمل بعين خبيرة تفاصيل دقيقة لا يفطن لها الغرباء عن المسرح عادة, فهذه المقاعد هي ذاتها التي جلست عليها قبل ربع قرن تقريبا, لم يتغير البلاط ولا النقوش ولا الستارة إلا أني شعرت بانطفاء روح التحدي المقترن بذلك الخوف المقدس الذي كان يشع في فضائه الرحب, صُدمت لعدم اكتراث المسرح الوقور بما يدور على خشبته, لم يكن منكسرا هكذا ومحبطا من قبل, لا أظن أن الزيف قد محق تلك الجذوة المتأصلة فيه, فقد أريق بالأمس من الزيف على هذه الخشبة أضعاف ما يراق منه اليوم. لم اردع انفراج شفتي بابتسامة باهتة حين تراءى لي مساء ذاك اليوم اللاهب الذي دلفت فيه باب هذا المسرح للمرة الأولى, كنت قد اقتنيت بطاقتي ووقفت بإزاء المقصف ممسكا بقنينة مرطبات مثلجة منتظرا بدء العرض المسرحي حين تقدم نحوي شاب أنيق يبدو ذكيا ومتنعما, سألني بعد تحية مهذبة عن بعض التفاصيل الصغيرة التي تخص المسرحية التي ستعرض بعد قليل, لم أحر جوابا لكني تداركت الموقف بضحكة ذات مغزى تفهمها الرجل الذي أشرق وجهه الفتي بابتسامة مضيئة وقال: نحن في الهوى سواء, فانا كذلك في عجلة من أمري, فحين أصل من جبهة الحرب اهرع حالا لأشبع نهمي من الحياة لشعوري الأكيد إني لن البث طويلا حتى أواجه لغما مموها أو قناصا متربصا أو شظية ساخنة, أتعلم ماذا يعني العيش في كنف شبح فرقة الإعدام الكامنة في خط جبهتنا الخلفي وكوابيس تقارير الرفاق المميتة, أرأيت؟ أنت لست وحدك لا تملك وقتا لتبذره في التفحص والانتقاء والتوقف عند لوحات الإعلانات. رغم تعاطفي مع هذا الشاب لكني خطت فمي تماما, فأذان الحيطان مرهفة, لهذا امتنعت عن مجاراته في الحديث عن أهوال جبهات الحرب المشتعلة منذ ما ينيف عن سنة. قطع حديثه ونظر إليّ مستنكرا صمتي فقلت له: أتعلم أني لم آتي إلى هنا إلا لكي أنسى (لساعات) حياتي البائسة في خنادق جبهة شرق ميسان فلما الخوض فيما ينكأ الجراح ثم أمسكت بقبضة يده الناعمة بمودة ودعوته إلى قاعة العرض. عبثا قاومت سنة أثقلت أجفاني وكدت استسلم للنوم لكن فرقعة التصفيق أطفأت ومضة ذكرياتي وقادت بصري نحو منصة الخطابة, كان متحدثا آخر أطلق لسانا, وقد امتاز عن سابقه المترهل بوجهه الأسمر الصقيل والمألوف الذي طالما غيرت قناة التلفزيون حال رؤيتي له, كانت عيناه الماكرتان تتواطآن مع صوته الحاد في إخضاع سمعي لسطوته فحاولت التشاغل عنهما بمراقبة انفه الطويل وشفتيه الرقيقتين وبزته الأجنبية الفاخرة لكني كنت انجرف رغم انفي نحو كمائن لسانه بين الفينة والأخرى. لقد أثار إعجابي حقا لمهارته في ترقيص الكلم بحنكة مهرج خبير فهو يعرض مفاهيم الدولة الحديثة بما يتوافق مع ذوق المرحوم جدي تارة ثم يدعو بعد هنيهة إلى تطبيق اللبرالية الغربية في أعلى مراحلها فترحمت على روح ابن العربي وتذكرت قوله: لقد صارَ قلبي قابلا كل صورةٍ فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائــــــف وألواح توراة ومصحف قرآن حقا انه كان موهوبا إذ لم يغفل عن مداهنة الجنس اللطيف بتبني قضايا المرأة بعد أن شاهد كثافة النساء اللاتي انتشرن في أرجاء القاعة, مرتديات أزياء مختلفة كاختلاف انتمائهن السياسي, ومن حسن الحظ كانت الحسناء التي احتلت المقعد المجاور لمقعدي ذات تحصيل جامعي عال ومجاملة أتاح لي تبادل الحديث معها استراق النظر إلى ساقيها الجميلين. كان المشرفون على المهرجان يدسون برشاقة وهدوء علب العصائر والمعجنات في أفواه الأكداس البشرية المتعبة بما يكفل ردع التثاؤب الذي استشرى بعد ارتقاء الخطيب الثالث خشبة المسرح. أسهب عريف الحفل في التعريف بالخطيب وانجازاته الأكاديمية على خلاف تقديمه الموجز للخطيبين السابقين فبدا الأمر كأنه ترويج لوجه سياسي جديد, ولا غرابة في ذلك فقد اتسعت الساحة السياسية اتساعا مذهلا مما ألهب الطلب على العمالة السياسية وفتح الباب على مصراعيه للراغبين بممارسة هذه المهنة (المربحة). كان الخطيب المسكين يجاهد لتجفيف عرق جبهته ووجنتيه بمنديل ابيض لم يفارق يده اليسرى طيلة وقوفه خلف منصة الخطابة وقد خلع نظارته الداكنة والسميكة العدسات فتوافقت كروية أعضاء جسده الممتلئ مع جحوظ عينيه اللتين كانتا تتوسلان شد انتباه الجمهور. ولا ادري إن كانت ضربة حظ أو ضربة معلم تلك الجملة التي ألهبت حماس الجمهور فجأة, فضجت القاعة بالتصفيق والهتاف الذي استمر لدقائق, ونهض الجمهور إجلالا للأستاذ الخطيب, فأحيط بي وبالسيدة الجميلة التي كانت تجلس على يساري وحُجبت عنا منصة الخطابة, ولم يعد الهدوء إلى القاعة إلا بعد احمرار أكف المصفقين. ولم يتخلف عن المشاركة في هوس تعظيم الخطيب حتى الرجل الخمسيني ذو الشعر الرمادي الذي كان يحتل المقعد المحاذي لمقعدي إذ تخلى عن وقاره وأطلق عددا من الأهازيج. رمقت السيدة بطرفي مبديا إعجابي بحيائها الأنثوي الذي ردعها كما توقعت عن الانخراط في جوقة المتزلفين لكن الشرر المتطاير من عينيها الواسعتين واضطرام صفحة وجهها الذي زاده التجهم بهاءً كظم ابتسامتي المجاملة , فنأيت عنها متقوقعا في مقعدي. احتضن عريف الحفل منصة الخطابة بذراعيه منحنيا نحو لاقطة الصوت وقبل أن يفتح فاه انبثقت السيدة الجميلة كزوبعة هائجة مرعدة لتجلد أطروحة الأستاذ تقريعا وتفنيدا وتسفيها بصوتها الحاد الذي لم يشوه الغضب عذوبته وقبل أن تنفذ سهام كنانتها تصاعدت همهمة جاري الخمسيني الوقور تأييدا لها وثناء عليها ثم لم يتمالك نفسه فأطلق العنان لكفيّه مفجرا تصفيقا هادرا سرعان ما شاركه فيه الذين توردت اكفهم قبل قليل وتسامقت قامات الرجال تحية للسيدة الجميلة ليحاط بي وتُحجب عن نظري منصة الخطابة مرة أخرى. 31\7\2009 |