|
|
عن كتاب التدوين التاريخي في العراق |
|
|
|
|
تاريخ النشر
02/07/2010 06:00 AM
|
|
|
صدر عن "دار الوراق" كتاب جديد للباحث طارق نافع الحمداني عنوانه "التدوين التاريخي في العراق"، يلقي الضوء على العصور المظلمة التي عرفتها بلاد الرافدين من العصر المغولي الى العصر العثماني. وُصفت هذه الفترات بـ"دور الإدبار"، وغابت ملامحها بسبب ما أصابها من إغفال، وقد أشار المؤرخ عبد الله بن فتح الله البغدادي إلى هذا الإغفال في القرن الثالث عشر بقوله: "إن كثرة الفتن وتواتر المحن بأرض العراق لم يضبط أحد تواريخها لانعدام أهل العلم ومن ينظر فيه". تضاءلت الحركة الفكرية في العراق في العهد المغولي، غير أنها لم تنطفئ تماما. لم يحاول الحكّام الجدد القضاء على اللغة العربية، فظلت لغة البحث والدراسة والتأليف في ظل حكم الإيلخانيين، وبقيت كذلك في ظل سلطة الجلائريين التي استمرت من عام 1339 إلى عام 1413. تعرضت بغداد في تلك الحقبة من تاريخها إلى الغزو التيموري الذي أدى إلى هجرة عدد كبير من كتّابها وعلمائها إلى بلاد الشام ومصر والحجاز، وباتت الحركة الفكرية تعتمد على تراث الإسلاف وترداده. سعى الحكّام إلى إبراز تبريز وشيراز، وأهملوا مدن العراق وحواضره، واستمرت هذه الحال في عهد الصفويين، فدخلت بلاد الرافدين في مرحلة "دور الإدبار"، كما قال عبد الله بن فتح الله البغدادي، وهو الدور الذي بدأ مع "انقراض دولة العرب وابتداء دولة الترك"، "وحركة الإدبار تدل على إدبار الزمان وسوء حاله، والحالة هذه ما يوجد عام إلا أنحس من العام الماضي". في القرن السابع عشر، فرض الحكم العثماني اللغة التركية لغة رسمية، وتبع هذا القرار ظهور بعض المؤلفات العراقية بهذه اللغة. انعدمت حركة التجديد، غير أن النشاط الثقافي لم يندثر تماما، وذلك بفضل رعاية بعض الأسر المحلية الحاكمة، مثل آل أفراسياب في البصرة. في منتصف القرن الثامن عشر، سيطر المماليك على السلطة، واستمروا في الحكم حتى عام 1813. انتعشت الثقافة، وشهدت تقدما ملموسا بفضل رعاية هذه السلطة التي تجلّت في وجه خاص في ظل حكم داود باشا الذي شجع الشعراء والفقهاء والعلماء والأدباء. تزامنت هذه "النهضة" مع بروز أسر عائلية عُرفت بنشاطاتها الفكرية المتعددة، وأبرزها آل الحيدري وآل الألوسي وآل السويدي. تحولات العراق يتناول طارق نافع الحمداني مرحلتين أساسيتين من مراحل هذا التاريخ المظلم. تمتد الأولى من نهاية الخلافة العباسية وسقوط بغداد إلى نهاية القرن الخامس عشر، وتمتد الثانية من النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى عصر العراق الحديث. شهدت المرحلة الأولى ظهور عدد من المؤرخين، منهم من لم يتطرق إلى العهد المغولي، ومنهم من لم يتوان عن انتقادهم، ومنهم من جاراهم، ومنهم من اختار الانتقال إلى دول الجوار. أبرز مؤرخي الفئة الأولى ابن السباعي والكازروني وابن قنينو، وأشهر ممثلي الفئة الثانية ابن الفوطي، اما أشهر المناوئين للمغول فهو ابن الطقطقي. تبقى فئة المهاجرين، ويمثلها ابن البزوري. يلقي الباحث الضوء على تجربتين من هذه التجارب، وهي تجربة عبد الرزاق بن احمد الذي اشتهر باسم ابن الفوطي، وتجربة عبدالله بن فتح الله البغدادي المعروف بالغياثي. اكتسب هذا المؤرخان شهرة واسعة لكونهما كتبا بصفة شاهد عيان للأحداث التي عاصراها، لكنهما اختلفا في الأسلوب المعتمد في تدوين هذه الأحداث. اعتمد ابن الفوطي طريقة العرض بحسب تسلسل السنوات، وهي الطريقة التي تُعرف بـ"الحوليات"، بينما اختار الغياثي كتابة التاريخ بحسب تسلسل الدول والأسر الحاكمة. من جهة أخرى، كتب ابن الفوطي بلغة عربية صحيحة حوت بعض المؤثرات الأعجمية على عكس الغياثي الذي اعتمد لغة "ركيكة" طغى عليها أسلوب العامية وكثرت فيها التعابير الفارسية. تشكل هاتان الشهادتان مرجعا أساسيا للتعرف الى تاريخ العراق بعد سقوط بغداد، ذلك أن المؤلفات "العربية" التي تتعرض لهذه الفترة تبقى قليلة للغاية. من مرحلة نهاية العصور الوسطى، ننتقل إلى القرن التاسع عشر وما شهده من اتجاهات فكرية. يتطرق المؤرخ في بحثه إلى الدور السياسي لعلماء بغداد في تلك الحقبة، مركزا على تجربة أبي الثناء الألوسي، البغدادي الشافعي، أشهر مجتهدي عصره. تميز بمواهب جمة، وتخصص في ميادين عديدة، وبرع فيها كلها. تقلد الافتاء في بغداد في عام 1832، وناصر العثمانيين من دون أن يتملق لهم، فانتقد مساوئ حكمهم وواجههم، فعزله السلطان. انقطع للعلم، وترك مؤلفات مهمة في التفسير واللغة، أشهرها "روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني". برع باللغة العربية واعتمد السجع الذي كان حلية الكتّاب، ثم عاد وتخلى عنه وقال عند سفره إلى اسطنبول ومروره بديار بكر: "وإني مللتُ السجْعَ من أجلِ أنه/ لمعظم أهل الروم قد كسد السجع وكم فقرة قد احكمتها قريحتي/ تلوت بأرجاها فما ساغها سمع" عاصر أبو الثناء الألوسي انتفاضة بغداد عام 1832، وهي الانتفاضة التي تزعمها العالم عبد الغني جميل، وتغنى بها شعرا عبد الغفار الأخرس الذي ندّد بظلم حكام العراق ومساوئهم، وقال: "متى ينجلي هذا الظلام الذي أرى/ ويكشف عن وجه الصباح نقابه وتلمع بعد اليأس بارقة المنى/ ويصدق من وعد الرجاء كذابه ومن لي بدهر لا يزال محاربي/ تُفَلُّ مواضيه وتنبو حِرابُهُ" وقال في وصف حال بلده: "بلد كبار ملوكه بقر/ صاروا ولاة النهي والأمر أصبحت أشقى بين أظهرهم/ فكأني أصبحت في أسر يرقى الدني إلى مراتبهم/ حتى يريك النعل في الصدر" وقال أيضا في وصف بغداد: "لهفي على بغداد من بلدة/ قد عشعش العز بها ثم طار واليوم لا مأوى لذي فاقة/ فيها ولا في أهلها مستجار حل بها قوم وهم في عمىً/ ما ميزوا أشرارها والخيار وأصبح القرد بها مقتدى/ يلعب بالألباب لعب القمار وللخنا لما غدت مربضاً/ قد سجد الليث بها للحمار والكرخ قد أقفر من أهله/ من بعد ما كانوا كورد البهار" يستعرض طارق نافع حمداني مواقف أبي الثناء الألوسي السياسية، ويخصص باباً شاملاً لمسيرته الفكرية، ثم ينتقل إلى النجف ويستعرض تجربة علم آخر من أعلام العراق، هو جعفر الشيخ باقر آل محبوبة، مؤلف "ماضي النجف وحاضرها". يُعتبر هذا الكتاب مرجعا للتعرف الى تاريخ النجف وما قام فيها من مدارس ومساجد ومطابع وصحف ومكتبات، وفيه تأريخ للحوادث التي عرفتها المنطقة وعرض لسير أهل العلم والأدب فيها. بذل مؤلف الكتاب جهدا جبارا لجمع المصادر المتنوعة ومراجعتها، وقال في وصف "اسلوبه" في التنقيب والتأليف: "وإني لاقيت المتاعب والمشاق في جمع هذه الاوراق، ونقبت عن محتوياتها كثيرا، وسافرت في طلبها عدة أسفار، ولم يكن من همي تزويق الألفاظ الفارغة وتنميق العبارات المهرجة، وإنما غرضي بيان الحقيقة وتدوينها، ولو كان بأساليب قديمة بعيدة عن ذوقنا الحاضر". النزعة العربية يختم الباحث كتابه بفصل خصصه لدراسة "مقدمات وأصول الفكر القومي في العراق الحديث والمعاصر". يستشهد المؤرخ بقول الشاعر عبد الخفار الأخرس: "وبنات أفكار لنا عربية/ رخصت لدى الأعجام وهن غوالي"، ويرى فيه تعبيرا عن صعود "النزعة العربية" التي ستتجوهر في مطلع القرن العشرين. تشكل تجربة المؤرخ عباس العزاوي خير مدخل لدراسة هذه المرحلة، وهو صاحب الكتاب الضخم "تاريخ العراق بين احتلالين" الذي صدر في ثمانية أجزاء، وفيه عرض لفترة ثمانية قرون من تاريخ العراق، ما بين الغزو المغولي لبغداد عام 1258 إلى الإحتلال البريطاني لهذه البلاد عام 1917. يعيد طارق نافع الحمداني الاعتبار إلى هذا المؤرخ الرائد الذي "لم ينل من الاهتمام ما يستحقه"، ويستعرض تطور منهجيته في البحث والتأليف، ويختم حديثه عنه بقوله: "وعلى اية حال، فإن ثقافة الغزاوي الواسعة جعلته قادرا بمرور الزمن على تطوير منهجه التاريخي، الذي أصبح في خدمة المادة الضخمة التي جمعها من نوادر المخطوطات والوثائق والكتب غير المعروفة آنذاك. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ محمود الزيباوي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|