|
|
سيكولوجية قطع الكهرباء عن الروح العراقية! |
|
|
|
|
تاريخ النشر
29/06/2010 06:00 AM
|
|
|
قدّم "لينين" زعيم الثورة الروسية 1917 معادلته الشهيرة التي صارت فيما بعد مثاراً للنقاش والإعجاب حيناً وللتندر السياسي حيناً آخر، إذ قال: ((الشيوعية= سلطة السوفييتات + كهربة البلاد)). وبعيداً عن المناقشة الايديولوجية والاقتصادية لمفهوم الشيوعية، فمن المؤكد أن كهربة روسيا وبقية الجمهوريات السوفياتية آنذاك قد أسهم حقاً في تأسيس تلك الدولة العظمى التي قفزت خلال أربعين عاماً تخللتها حربان مدمرتان: الأهلية والعالمية الثانية، من الاستعانة بالمحراث اليدوي عشية الثورة إلى توظيف أعقد أنواع التكنولوجيا في غزو الفضاء بشرياً على يد "يوري غاغارين" 1961م. إلا إن العراقيين اليوم لا يراودهم بالتأكيد حلم "لينين" بتطبيق المبدأ الشيوعي الخالد: ((من كلٍ حسب قدرته، ولكلٍ حسب حاجته))، بل أن أقصى ما يتمنونه في أحلام يقظتهم هو تحقيق حد أدنى من الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي، وهذا يتطلب بدوره حداً أدنى من استقرار منظومة الطاقة الكهربائية بوصفها المغذي المادي المباشر لديمومة الحياة البشرية بأبنيتها الفزيولوجية والاجتماعية والثقافية، إذ لا صحة جسمية أو نفسية ولا تعليم ولا راحة بدنية ولا نشاطات اجتماعية أو جمالية أو ذهنية عليا، وبالتالي لا كرامة بشرية، دونما كهرباء تسري في عروق هذه الحضارة كما يسري الدم النقي في شرايين المخ! فماذا تحقق من كهربة العراق؟ وصل معدل تجهيز التيار الكهربائي هذا الأسبوع إلى (1-4) ساعات فقط يومياً في بغداد (باستثناء المنطقة الخضراء) ومدن أخرى، في تفاقم تراجيدي لأزمة ما تزال مستمرة بكيفيات ودرجات مختلفة منذ حرب الكويت 1991م، حافرةً أخدوداً عميقاً في الوعي واللاوعي الجمعيينِ لأجيال من العراقيين. وهنا تبرز أمامنا فرضيتان لتفسير الأزمة: - إما إنها انقطاع "موضوعي" لا مفر منه بسبب الحروب وتقويض البنى التحتية والفساد والفوضى الإدارية وتصدع أجهزة الدولة الخدمية! - أو إنها قطع متعمد له قصديته المخطط لها لغايات اجتماعية ونفسية معينة! ولأن الفرضية الأولى باتت بديهيةً يجترها جميع المهتمين بالأزمة من عوام وإعلاميين ومسؤولين في الدولة، فإن تحليلنا الحالي يتجه إلى تسليط الضوء على الفرضية الثانية دون أن ينكر منطقية الفرضية الأولى وتفاعلها الوظيفي مع الفرضية الثانية، مستنداً في ذلك إلى عدد من المعطيات النفسية-الاجتماعية الملموسة الناجمة عن الاستمرار الغرائبي لهذه الأزمة، على الرغم من مليارات الدولارات التي أنفقت لتأهيل المنظومة الكهربائية خلال السنوات السبعة الماضية. كما ينطلق تحليلنا من مسلّمة أن البرامج السياسية للنخب الحاكمة في الشرق الأوسط من حكومات محلية وجيوش احتلال لا يمكن أن تخضع لمبدأ المصادفة العشوائية ولا يمكن عزلها عن نظريات علم النفس ذات الصلة بسيكولوجيا المجتمع. فما يسمى بجداول القطع "المبرمج" للكهرباء (وهي تسمية "مهذبة" أطلقتها الماكنة الإعلامية للنظام السياسي السابق للإشارة إلى قطع الكهرباء لساعات محددة يومياً على نحو نادراً ما يكون منتظماً وغالباً ما يكون عشوائياً)، هو في جوهره تطبيق "مبتكر" لجداول التعزيز Schedules of Reinforcement التي اكتشفها عالم النفس السلوكي الأمريكي "بورهوس سكنر"B. F. Skinner (1904-1990)م، مستخدماً إياها ببراعة كبيرة في تشكيل سلوك الحيوانات كالفئران والحمام، معمماً هذا التكنيك فيما بعد على السلوك البشري، ضمن ما صار يُعرف بمذهب "الحتمية الاجتماعية"، إذ يقول "سكنر" أن السلوك البشري جبري تحدده الأحداث البيئية، أما حرية الإنسان فمحض وهم. وقد لخص رؤيته هذه في رواية يوتوبية له بعنوان Walden Two 1948م عن مجتمع فاضل جرى بناؤه تجريبياً على أساس جداول التعزيز. يُقصد بجداول التعزيز أن تُقدم مكافأة (تعزيز) للكائن الحي حينما تتبدى منه عفوياً استجابة معينة خلال مدة زمنية ثابتة أو متغيرة، أو بعد أن يكرر تلك الاستجابة لعدد ثابت أو متغير من المرات. وعندها سيتشكل سلوكه تدريجياً وتلقائياً كما تتشكل قطعة النحت بأصابع النحات، عبر مسارات يحددها مهندس السلوك المختص. فنرى مثلاً حصان السيرك يدور حول نفسه لمدة (5) ثوان ثم يحني رأسه لمدة (3) ثوان ثم يرفع قائمتاه لمدة (4) ثوان، لا لإنه يرغب واعياً بإمتاع الجمهور، ولكنه لأنه تعلّم عبر جداول تعزيز سابقة تعرّضَ لها أن حصوله على المكافأة (تفاحة مثلاً) أصبح مرهوناً بانتهائه النمطي من كل تلك الحركات التي قد تكون مرهقةً له لكنها تبدو مدهشة و"ذكية" للمشاهد. أما في المجتمعات البشرية، فإن نجاح عملية الترويض يبقى مرهوناً بالمستوى الثقافي لمواطني تلك المجتمعات، إذ كلما ازداد تفكير الفرد تشعباً وكبرت ذخيرته المعرفية، انخفض احتمال خضوعه للترويض. وقد جرى فعلاً تشكيل جزء مهم من السلوك الاجتماعي للعراقيين ضمن جداول ترويضية غير ثابتة زمنياً، مماثلة لجداول "سكنر"، بوشر بها منذ عقدين من الزمن، إذ فقدوا مرونة الكينونة الحياتية التلقائية المسترخية التي تتيحها الكهرباء الدائمية التدفق، وأمسوا يقننون مواقيت كل نشاطاتهم اليومية (العمل/ النوم/ تناول الطعام/ الدراسة/ الزيارات الاجتماعية/ مشاهدة التلفاز/ النشاطات الثقافية/ العلاقات العاطفية/ مراجعة الطبيب/ الأعمال المنزلية...) على نحو وسواسي-قهري رتيب، بانتظار مجيء الكهرباء (التي مصدرها الدولة أو المولدات الأهلية على حد سواء) بوصفها "الجائزة" التي تهون من أجلها كل أنواع المعاناة التي تسبقها. فأصبح الصبر والتقنين والحذف والتأجيل والإلغاء والإنكار والتخلي هي "القاعدة" المتاحة للعيش، فيما باتت التلقائية والمبادرة والإشباع والإبداع والثقة بالحياة هي الاستثناءات شبه الغائبة! وبمعنى أكثر تحديداً، جرت محاولة "تدجين" العراقيين على قبول أدنى الحقوق البديهية (كمجيء الكهرباء) كما لو إنها "جوائز" كبرى لا يمكن نيلها إلا بعد مرورهم الميكانيكي الحتمي بجداول التخلي عن نيل الحقوق. يقول مبرمج السلوك الذي يشرف على هذه الجداول: ((الكهرباء هي المكافأة العرضية الوقتية لمعاناتكم الضرورية الدائمية يا عراقيين، ولا مجال للتفكير بحياة متدفقة ليس فيها انقطاع للكهرباء. عليكم أن تنشغلوا بمسألة متى وكيف سيتم الحصول على هذه "المكافأة" التي تتحكم بها قوى غامضة غير مشخصنة، وليس لكم أن تتفكروا بأسباب غيابها معظم الوقت! عليكم أن تفقدوا كبريائكم الآدمي، وأن تفقدوا الرغبة بالاعتراض، وأن يصبح هذان الفقدانان أمرين "مألوفين" ما دام قد جرى تخليقهما تدريجياً عبر تكنيك تحويل الكهرباء -أي الحياة نفسها- إلى "رشوة" أو "مكرمة"، تُعطى أو تحجب حسب جداول زمنية متغيرة يحركها منطق العشوائية القصدية)). إنها محاولة لمكننة السلوك البشري، وإفراغه من مضمونه الإنساني الكامن، واستلابه بيولوجياً ونفسياً عبر تقنية تقطير الحياة في فم الإنسان، وصولاً به إلى فقدان الأمل والعجز المتعلم والاكتئاب الجمعي والخواء الوجودي المر، أي تعطيل المشروع الحضاري والجمالي للجماعة العراقية، وإحالته إلى محض جدول انتظارات خائبة لساعات القطع "المبرمج". فلكي تحصل أيها العراقي على الكهرباء، عليك أن تعاني وتُهان وتتحنط ويُنكل بكرامتك وتموت روحياً. فالألم الثابت والقهر المستمر هما طريقك الوحيد لقطاف راحة ما مؤقتة. فأي فلسفة عبثية لمعنى الحياة، جرت محاولة فرضها على هذا المجتمع؟ّ إن الفئران التي طبّق عليها "سكنر" تجاربه وجداوله قدمت أنساقاً من قوانين سلوكية محايدة يمكن توظيفها لتحرير الجوهر الإنساني أو تشويهه تبعاً للمنظور الغرضي للمؤسسة. فجرى استثمارها من المؤسسة الرأسمالية الأمريكية لإدامة مشاريعها الكولونيالية الساعية لتسليع الإنسان وتعليبه وحتى "تحوينه" في كل البلدان التي وطأتها جزمتهم السادية على نحو مباشر أو غير مباشر، ومنها العراق. لكن العراقيين لم يعشقوا آلامهم كما خُطط لهم، ولم يفتتنوا بها، بل ظلوا (بحكم التراكم الحضاري في الشخصية العراقية) مشاكسين لقسوة تلك الجداول المكتوبة بحبر المخططين لحشرهم في اسطبل القطيع. فاستمر أطفال مدرسة الموسيقى والباليه ببغداد يتدربون على مقطوعات "باخ" حتى في العتمة والأجواء الخانقة، وواصل تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات دراستهم على ضوء الفوانيس النفطية وتحت درجات حرارة تفوق قدرة التحمل البشري حراً وبرداً، وثابر الأدباء والفنانون والباحثون والمفكرون والإعلاميون على اقتناص الرؤى العقلية العليا رغم التسمم الحياتي الشامل الذي أشاعه قطع الكهرباء عن الجسد العراقي. وأخيراً، انطلقت الأسبوع الحالي تظاهراتُ احتجاج غير مسبوقة على "قتل" الكهرباء في بغداد والبصرة والناصرية، سواء بصيغة أعمال شغب منفلتة أو بصيغ سلمية رمزية ممسرحة بالغة الدلالة والجمال. إن البنية المعتقدية للفكر الرأسمالي لا تستطيع أن تتعامل مع "المنطق الجدلي" ولا أن تنفتح عليه. ولذلك فهي لا تستطيع أن تفهم كيف يخرج التقدم من التخلف، والأمل من اليأس، والتحرر من الاستعباد. وكلها معطيات باتت تؤرشف يومياً جدليةَ الحياة العراقية. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ د. فارس كمال نظمي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|