|
|
في البراري حيث البرق لسعدي يوسف : لا أحد يجاريه في استئصال الضروري من الألم |
|
|
|
|
تاريخ النشر
10/06/2010 06:00 AM
|
|
|
يبقي الشاعر سعدي يوسف مسافة كافية بين كائنات المدن "الموقتة" التي يقطنها. فهو الشاعر المنفي، يتماهى بشكل طوعي ورياضي رشيق مع مكانه "الجديد"، منفاه، ومظاهره كذلك. شعره يمثل أقصى حالات الخضوع الديبلوماسي لسلطة المكان، فهو يعقد اواصر عميقة مع "بلدانه" الأخرى، من دون أن يغلق الباب على وطنه العراق. قد لا نجد شاعراً يمتلك قدرة سعدي يوسف على تأمل حياة بديلة يتقاسمها مع السكان الآخرين، سكان المكان الاصليين. قد لا نجد شاعراً يجاريه في استئصال الضروري من الالم، لتوظيفه في الصورة الشعرية البصرية، غير المجازية، احتفاءً بلحظة ما. الزمن عنده يتضاءل، ويقطع روابطه - لوهلة اولى مخادعة - مع إرث الهوية، والمكتسب الثقافي والسياسي لهذا الشاعر. تالياً، هو يقطع روابطه مع زمن ماض، وآخر مستقبلي، فيما تتكثف الحياة كلها في لحظة المشهد، او مشهد اللحظة، وهي لحظة يتحينها سعدي يوسف، فلا تخلو عنده من لازمة الإنسان، الحركة، التنقل في تفاصيل المكان، الذي يحدده كذلك. فالأزمنة الصغيرة، التي يتم تحميضها شعريا بعد إرفاقها بحجة وجود الإنسان الآخر المتحرك، كشرط في فلسفة سببية، تتجمد في كادر الفسحة الضيقة، أي المكان المحدد جغرافيا. لنقل إنه المكان الذي يحاصره سعدي يوسف في قصيدته، بالضبط كما يحاصر اللحظة ويأسرها. ما يثير الاهتمام في ديوانه الاخير "في البراري حيث البرق" الصادر عن "دار الجمل"، هو الاستبعاد المتعمد وشبه التام للمجاز والاستعارات، لصالح عنصرين لم يحد الشاعر عنهما كثيرا في الثلاثة العقود الاخيرة من كتابته: الإيقاع، أي الموسيقى والتفعيلة، والصورة في شكليها المعاصر والسابق. الاخيران محكومان بما يراه الشاعر ضرورياً تكوين مشهديته، ومن ثم سردها، قبل مهرها بختم موقفه الإنساني. حتى تكاد تتحول بعض قصائده حكائيات مقتضبة جدا، تسيل وفق الإيقاع المفضوح، الذي يمسك بالنص كما يمسك جنزير دراجة هوائية بعجلتيها. لكن هذه المرونة المشوِّشة للقارئ، لسهولة النص وبساطته وانسيابيته، حتى ليكاد يسأل إن كان ما يقرأه شعرا، لا تأتي إلا مضبوطة بخبرة الشاعر الطويلة وتطويعه مفردات اللغة العربية واشتقاقاتها لسد حاجة الإيقاع. فالإيقاع، لتماسكه وإصرار الشاعر على إبقائه، يبدو كأنه كائن يُشترط وجوده بتعطشه دوما، فهو الساعي لابتلاع الصور الشعرية. في معنى ما، يبدو النص كأنه تحصيل حاصل للإيقاع الذي يحتل الاولوية، فَتُصَبُّ الجملة في قالبه الجاهز، ومن خلفها ينحشر المجاز إن استطاع. الأكيد أن ليس ثمة مقاييس للقصيدة المكتوبة حديثا، وهي واحدة من إشكاليات الشعر وآفاته. إلا أن ذلك لا يمثل تبريرا لشاعر رفيع مثل سعدي يوسف، الذي نهل من أسلوبه شعراء كثر، ولا يخفى على أحد إعجاب الشاعر محمود درويش به، بل تأثره ببعض مفاصل شعره. إتكال الشاعر العراقي على التصوير، يمثل غاية لبناء النص. فإذ يتكون نصه من جزءين، يؤدي الجزء الاول مهمة محددة، وهي تمهيد القارئ وإدخاله بصريا في خلفية الشاعر وأسباب كتابته. هذا الجزء يكون في مجمله فيزيائيا، وليس ما ورائيا. قراءته تتطلب بالطبع تقنية معينة ومتمهلة، لاستدعاء الصور الشعرية في المخيلة، ولبناء المكان والظروف واللحظة (الصباح، المساء، الليل، الغرفة المعتمة)، أي بناء اولى مستويات النص، وهو المستوى الأرضي، الممسوك بعناصر الهواء والتراب والنار الماء، الذي لا يمكننا إلا التأمل فيه قبل ولوج الجزء الثاني من النص. إذ لا يكفي أن تقرأ، بل أن تؤلف المخيلة الشعرية خاصتك، لتتماهى بشكل تام، مع ذاكرة المؤلف، قبل أن تخطو إلى الجزء "الأصعب" والأشد كثافة، الذي يقفل عادة بشكل مجازي، تالياً يكون محددا في مستوى غير أرضي، ولا علاقة له بقوانين الفيزياء، ولا علاقة له بالحاجة إلى عنصر حياتي من العناصر الاربعة. فهو جزء "شعري" بامتياز، يشحذ قوة المخيلة، والإحساس، من دون أن يشترط حكما نهائيا في شأن ما يود الشاعر قوله. إلا أن الجزء الثالث غير الموجود على الورقة، متروك للقارئ نفسه، وهنا تكمن المهمة في الربط ما بين الجزءين الأولين. أي في مرحلة، حيث ينوجد العقل في مساحة ما بعد قراءة النص وليس أثناءها، ويتطلب منه هذا الأمر أن يحدد عوامل الربط، ويفك وثاق الجزء الاول من القصيدة والجزء الثاني، في اتجاه تشكيل كينونة شعرية مجازية، تترك للقارئ وحده، بدل من ان تفرض عليه. ذلك أن هذا اللعب مع المساحات البصرية، واليومية واللحظوية، وهو لعب صعب ويشترط عوامل عدة، يضخه الشاعر في القصيدة لأسباب أهمها: إحساسه الحاد القادر على الحفر في اللحظات "العادية" (ظاهريا) التي تتربص به في منفاه، فتشكل كل واحدة منها وجبة شعرية محتملة للاختبار. ثانيها، حاجته لفهم العلاقة الملتبسة بين مثلث الأمكنة "المستجدة" وسعدي يوسف، الكائن الفردي ومكتسبه الثقافي عراقيا. ثالثها: كثافة التجارب التي يخوضها الشاعر بطريقة مباشرة (يومية، اجتماعية على نطاق الجيران والمبنى والحي، إيروتيكية، وكحولية)، التي إما يمر بها بنفسه وإما يقف مراقبا لها، وإن وضعت في إطار ذاتي يوحي بأنها شخصية بحتة. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ مازن معروف
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|