|
|
الهوية البغدادية.... ماذا تبقى منها؟ |
|
|
|
|
تاريخ النشر
08/06/2010 06:00 AM
|
|
|
((بغداد لا تزال أسوأ مدن العالم في تدهور مستويات المعيشة وعدم الاستقرار وتدني مستويات الأمن)): ورد هذا التقويم في تقرير مؤسسة "ميرسر" لجودة مستويات المعيشة Quality of Living الصادر في 26 مايس 2010م ، ليقرر أن بغداد احتلت الرقم (221) أي المرتبة الأخيرة بين هذه المدن، طبقاً لمعايير الاستقرار السياسي، ومعدلات الجريمة، والقيود على الحرية الشخصية، والصحة، والتعليم، والنظافة، والكهرباء، ومياه الشرب، والتخلص من النفايات، والزحام المروري، ودور السينما، والمطاعم، والسكن، وخدمات الصيانة، والمناخ. من هنا نتساءل: هل اندثرت الهوية البغدادية نهائياً بعد أن سُحقتْ ديموغرافيتها الأنيقة بتأثير فظاظة الهجرات والتهجير منها وإليها، وتناسل الحروب، ونرجسية الدكتاتورية، وسادية الاحتلال، وسيكوباثية العنف السياسي-الديني؟ أم إن الهوية البغدادية كامنةٌ ومتأصلةٌ في العقل الباطن لما تبقى من سكانها الأصليين إلى الحد الذي سيجعلها تنتشل المدينةَ من الرثاثة الغارقة فيها حالياً، وتعيد لها مناخها السوسيوجمالي الذي هو مزيج من قيم الفن والعقلانية والتمدن؟! لا تتيسر إجابة مؤكدة ومباشرة عن هذا السؤال المزدوج، في ظل الفوضى المجتمعية الحالية، إذ تبدو كل الاحتمالات قائمة، غير أن تحليلاً سيكولوجياً ابتدائياً لما آلت إليه أوضاع المدينة البغدادية، قد يسهم في إضاءة بعض الجوانب المتعسرة من هذا السؤال؛ مع التوكيد أن المقصود بمفهوم "الهوية البغدادية" هو ذلك الطابع الحضاري المدني العلماني الناتج عن السلوك الاجتماعي لسكان بغداد، في الحقبة التي أعقبت تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921م وانتهت مع بدايات عسكرة المجتمع العراقي 1980م، بما أفرزته تلك الحقبة من فن وأدب وعمارة وسياسة، ومن منظومات قيمية تنويرية متمثلة بتنامي قيم العلم والجمال والحداثة والوطنية المجتمعية والتآخي الديني (باستثناء تهجير اليهود أواخر الأربعينيات) وحرية المرأة وبدايات انبثاق مفهوم "المواطنة" لدى الفرد العراقي. وقبل الخوض في تحليلنا هذا، لا بد من التنويه بأنه يتعارض مع الفكرة النمطية الواسعة الانتشار لدى الباحثين الاجتماعيين في العراق، القائلة ان "ترييف" بغداد، أي استمرار هجرة سكان الريف إليها واستيطانهم فيها على مدى أكثر من ستين عاماً، هو العامل المفسر لتراجع هويتها المتمدنة, علماً أن هذه الفكرة لا تخلو من صواب في بعض تطبيقاتها الجزئية. فالقيم المدينية لا تعني بالضرورة التقدم أو التحضر أو النظام على الدوام، إنما يتعلق الأمر بالمضمون العقلاني للسلوك سواء كان ريفياً أو حضرياً. كما ان التخلف والرثاثة والفوضى يمكن أن تكون جميعاً نتاجاً مباشراً لسيكولوجية الإنسان المحروم والمهمش بصرف النظر عن انتمائه الريفي أو الحضري. فالحضارات العراقية المدنية القديمة نشأت جميعاً في أصولها من التجمعات الزراعية الأولى على ضفاف الرافدين. وفي العصر الحديث، نجد أن المدينة السويدية الحالية شبه الفاضلة، بتكوينها الديموغرافي والطوبوغرافي، هي مزيج فريد من تلاقح الريف بالحضر، إذ تصطف داخل ستوكهولم العاصمة العمارات السكنية المرفهة وعشرات المتاحف الفخمة ومحطات المترو الإلكترونية، إلى جانب الغابات والمزارع والبحيرات والتجمعات السكنية الريفية، في بانوراما معمارية وسوسيولوجية باهرة أنجزتها الاشتراكية الديمقراطية السويدية محققةً أرقى نظام للحماية الاجتماعية في العالم تخصص فيه رواتب للأشجار والكلاب فضلاً عن البشر! إن الحديث عن هوية بغدادية يظل ناقصاً ما لم يجر استكماله بالحديث عن شخصية بغدادية ترسم تلك الهوية وتحدد لها وجودها من عدمه. وهذا يعني التطرق إلى عنصرين نخبويين أحدهما ثقافي والآخر سياسي، رافقا بروز تلك الشخصية تأثيراً وتأثراً خلال الحقبة (1921- 1980)م، ويُعزى كلاهما إلى النزعة العلمانية الحداثوية للدولة العراقية آنذاك، هما: 1- العنصر النخبوي الثقافي: أدى بروز رجالات التكنوقراط والأكاديميين، واشتداد عود الطبقة الوسطى، وانبثاق الحداثة الثقافية على أشدها (حركة الشعر العربي الحديث/ جماعات الفن التشكيلي/ المقام العراقي والأغنية البغدادية/المكتبات والصالونات الأدبية ومقاهي المثقفين/ المسارح ودور السينما الفخمة) إلى اكتساب الشخصية البغدادية لخصائص التذوق الجمالي والمهارة الحِرفية، وميلها لتبجيل ذوي الاختصاصات العلمية، والانفتاح على المستجدات الحضارية، وتغليب قيم التمدن، والنزوع المتزايد للاستعانة بسلطة القانون المدني بديلاً عن الولاءات العِِرقية والعشائرية والدينية والمذهبية. 2- العنصر النخبوي السياسي: تزامنَ نمو الشخصية البغدادية الاجتماعية مع بزوغ ما يسمى بـ((البغدادية السياسية))، وهو مصطلح أطلقه مؤخراً الدكتور "حيدر سعيد"، وأظنه يريد به تلك النخب السياسية التي انبثقت وتطورت ضمن إطار المكان البغدادي، فنشأت مشبعةً بقيمه المدينية بصرف النظر عن توجهاتها وصراعاتها الايديولوجية (ملكية/ جمهورية/ ليبرالية/ محافظة/ شيوعية/ بعثية)، إذ أصبحث المحافل الارستقراطية، والجامعات والمدارس، ونقابات المحامين والمعلمين والعمال، واتحادات الأدباء والفنانين والصحفيين، وحتى السجون والمقاهي والنوادي الاجتماعية (وجميعها من مكونات المجتمع والدولة المدنيين)، أصبحت حاضنات لتلك النخب التي نشأت تكوينياً في الرحم البغدادي، صعوداً وانحساراً. فما الذي تبقّى اليوم من هذه العنصرين اللذين ارتبط بهما تكوينياً نشوءُ الشخصية البغدادية؟ لقد اضمحلت "النخبوية الثقافية" في الهوية البغدادية إلى حد كبير، هجرةً وتهجيراً وقمعاً واغتيالاً وانكفاءً وضموراً وهروباً، على مدى ثلاثة عقود من الحراك المجتمعي القائم على العنف والفوضى والظلم الاجتماعي؛ فيما توارت "البغدادية السياسية" تدريجياً، ابتداءً من "البدوية السياسية" (1980 – 2003)م بفظاظتها الأوتوقراطية التي ثلمت العقلانية المجتمعية العراقية، وانتهاءً بـ"اللاهوتية السياسية" المتسرطنة عن الغزو الأميركي 2003م والتي لم تعد ترى في بغداد أكثر من بقعة جغرافية ينبغي إثبات "جدارتها الإلهية" عليها! فصار المكان البغدادي إما معبداً أو متجراً أو نقطة عسكرية أو مبنى سكنياً يطمره الغبار والرماد والأسى. وأمسى الوقت البغدادي موزعاً بين درء الموت اليومي والانتظار العبثي للكهرباء "الوطنية". وتوجّب على البغداديات أن يكبتن تبغددهن العفوي، فيتلفعن بحجاب "وقائي" مبهرج، تفادياً لسادية أتباع ميليشات المكاتب الدينية المفتقرة لأي ترخيص قانوني يسوغ نشاطها. وبات على البغداديين أن يستبدلوا خضرة شارع أبي نؤاس المنعشة ومعمارية شارع الرشيد الأثيرة ورفقة شارع السعدون الحميمة، بمتاريس القمامة البشرية، والمباني المتفحمة المهجورة، والأرصفة المهشمة بعجلات الهمرات الأميركية، والحواجز الكونكريتية المصنوعة بأموال الفساد السياسي، ومواكب السلطة المحمية بشركات الأمن المستوردة، واللافتات الدينية المدمنة على اجترار الماضي وإنكار الحاضر، وعبوس التماثيل المنسية المحدقة في فراغ العدم. وأخيراً صار على البغدادي عند مروره بنقاط التفتيش الأمنية، أن يتطلع صامتاً عشرات المرات كل يوم، إلى قطع الملابس العسكرية والداخلية الرثة المنشورة على حبال الغسيل المشدودة إلى عوارض جسر الصرافية الحديدي، وقضبان شبابيك المتحف الوطني، وبوابات "مبنى الحكومة القديم" في مدخل شارع المتنبي! إن ما يحصل اليوم في بغداد وبقية أنحاء العراق، يمكن اختزاله بمقولة الصراع بين قيم التقدم وقيم التخلف، أو بين قيم الحداثة والتمدن وقيم التعصب وما قبل التمدن (أي غلبة المعيار الديني والطائفي والقبلي على المعيار البشري). إنه صراع بين ثقافتين، وبين منظورين فلسفيين اجتماعيين، دون أن يعني ذلك إنكار دور العامل الاقتصادي وما يمكن أن يتمظهر عنه من قوى دافعة باتجاه التمدن، كتنمية الطبقة الوسطى، ومكافحة الحرمان والفقر والتفاوت الاجتماعي، وإلغاء التمايز في الأبنية التحتية بين الريف والمدينة، وتحديث الدولة وإدماج التكنولوجيا في الحياة اليومية. إذا كانت بغداد بمعالمها الحضارية وتقاليدها المجتمعية قد تلاشت إلى حد كبير، فإن الهوية البغدادية لا تزال ألقةً في نفوس سكانها الأصليين بجميع أجيالهم، تثير فيهم نوستالجيا (حنيناً) دفينة نحو مناخ بغدادي حميم لا ينقطع ذكره أو تخيله لديهم، لاسيما ذكرياتهم عن ذلك التسكع المسالم في شوارعها المسترخية المنضبطة ذاتياً بمعايير التنوع والتحضر واللهفة إلى الآخر. ولأن هناك حدساً جمعياً لدى البغداديين بـ"طارئية" المد اللاهوتي السياسي الحالي بعد أن زال المد البدوي السياسي السابق، فمن المتوقع أن تبقى "الهوية البغدادية" مفهوماً نفسياً محركاً للجيل الحالي وللجيل الذي يليه على المستويات الدافعية والعاطفية والقيمية، حتى يتم التيقن من زوالها، أو إحيائها، أو اجتراحها بعناصر هوياتية جديدة . |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ د. فارس كمال نظمي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|