[ ماذا عنك وعن "إرادة" المنسّقة العراقية للورشة؟ لماذا لم تشاركا بخريطة حياتكما الخاصة؟
- الواقع ان "إرادة" أنجزت خريطة التحولات الخاصة بها ولكنني لم أضعها في الفيلم نظراً الى ضيق الوقت. أما أنا فحضرت خريطتي، وكذلك "نوارة" المترجمة والمتطوعة الأميركية، ولكن لم يكن من وقت كافٍ خلال الورشة لعرضها.
[ الملاحظ في حكايات النساء اختلاف درجات البوح بينهن. فمنهن من تحدّثن عن أمور تخصهن مباشرة ومنهن من اقتصرت حكايتها على مآسي المحيطين بها. هل كان بعضهن أقل جهوزية لتعرية الذات؟
- أعتقد ان هذا متصل بالسن والتجربة. بعض الشابات أقل معاناة من غيرهن. وبعض الشخصيات اقمن حواجز أكثر من أخريات.
[ اللافت في الفيلم ابتعاده، او ابتعاد النساء، من الحديث المكثّف عن الأميركيين. فهل كان مقصوداً أن تذهب التجربة أبعد من الحديث المتداول والمتوقع عن "الاحتلال" "والاميركان"؟
- لم يكن مقصوداً ولكن هذا ما حدث. بمعنى آخر، لو ان النساء تحدثن عن ذلك لظهر في الفيلم لأنه جزء من توثيق التجربة. في أحد العروض، سألني أحدهم: "اين هو الغضب من الاحتلال الاميركي؟" وبرأيي ان الغضب، مهما كان شعوراً انسانياً وتلقائياً، الا انه مسطح. المسألة أكثر تعقيداً من الإحتلال. ربما في الفلوجة، معظم العنف سببه الجيش الأميركي. ولكن في بغداد والبصرة والموصل العنف مصدره الميليشيات والمتطرفون. وأعتقد ان هذه النظرة المستغربة الى خلو احاديث النساء من الغضب على الأميركيين نموذجي بالنسبة الى المقيمين في الخارج. أنا عشت في فلسطين فترات طويلة والناس هناك لا يتحدّثون عن الاحتلال طوال 24 ساعة. ثمة حياة يومية للعراقيين وللفلسطينيين ومعاناة تفصيلية لا يختزلها الاحتلال كما نتوقع وان كنا في معظم الأحيان مسببها. الاحتلال حاضر دائماً ولكن ليس على شكل خطابات.
[ ومع ذلك هناك مشهد في الفيلم حيث يبكي بعض النساء يوم إعدام صدام حسين.
- ما من أحد بين النساء مساندة لصدام. كلهن عانين من نظامه ولكن الإعدام كان شيئاً مخيفاً بالنسبة إليهن لأنهن كان يخشين رد الفعل. فقد حدث يوم العيد بما ينم عن سلوك استفزازي. كما انه تعبير عن الخوف من الآتي المجهول والاسوأ بالنسبة اليهن. صدام مجرم بامتياز ولا نقاش في ذلك. ولكن محاكمته كانت مهزلة. الشعب العراقي يحتاج الى العدالة ولكن ما حصل كان انتقاماً، يزكي دائرة العنف. هذا هو برأيي سر خوف العراقيين. انه إحساسهم بأن قيم الديمقراطية والعدالة التي يرغبون بها انما هي مجرد استعراض خارجي فيما الأفعال على الارض موغلة في العنف.
بين صورتين
خلال جلسات التدريب الأولى، عرضت يوجيني دولبيرغ صوراً فوتوغرافية اما المشاركات لتحريك النقاش حول خصائص الصورة وطرق تأويلها. من أبرز تلك مناقشتها للضوء والعتمة وموقع المصور. على صعيد آخر، تفتح تلك العناوين للمشاهد منافذ أخرى لرؤية الفيلم من موقعه كصورة متحركة محورها الصورة الفوتوغرافية، والعلاقة الجدلية بينهما.
[ هل كان الهاجس الفني الذي ناقشته "يوجيني" مع المشاركات في ما يخص الصورة الفوتوغرافية جزءاً من هاجسك في صناعة صورة هذا الفيلم؟
- هذا هاجس لم يفارقني أبداً. فحين كانت يوجيني تتحدث عن الضوء والظلام، كنت أفكر في الفرق بين الصورة المتحركة والأخرى الفوتوغرافية وهو بالطبع عامل الزمن. ولكن علي الاعتراف بأنني لست مصورة محترفة لهذا هنالك شعور بأن صورة الفيلم خام وخشنة. وبينما كانت النساء يقمن بـ"تركيب" صورهن الفوتوغرافية، كنت أنا اصور فقط واشتغل على فكرة الزمن. في مواضع محددة، اشتغلت على التركيب في مشاهد متسلسلة. وهنا، يشعر المشاهد بخصوصية كل صورة بعيداً من الوصف التقني. ولكن يكفي الشعور بأن ثمة إحساساً عصياً على الصورة الفوتوغرافية وفي متناول الصورة المتحركة والعكس ليصل المعنى.
[ ألهذا الاختلاف بين الصورتين وقرب الصورة المتحركة من المتلقي دور في فهم استحواذ الفيلم على الاهتمام اكثر من المعرض؟ هذا على الأقل ما لمسته خلال عملية البحث بواسطة الإنترنت.
- لا شك في ان قنوات عرض الفيلم اي كان وتواصله مع جمهور ما أسهل من معرض. ولكن في هذه الحالة بالذات، ثمة اسباب خارجية ليس أقلها التمويل. فإقامة معرض تحتاج الى تمويل وكذلك الكتاب الذي كان من المقرر ان يصدر في توقيت متزامن مع المعرض ولكنه لم يحدث ايضاً بسبب التمويل.
المونتاج
في نهاية المرحلة الأولى من التدريب، اختارت كل مشاركة الموضوع الذي ستعمل عليه في العراق. والموضوع هو اختيار هاجس او مشكلة من وحي حياتهن والتعبير عنه بالصور الفوتوغرافية والكتابة الحرة المرافقة للصور. الى العراق عدن بما يشبه مهمة عمل، عدن بعدها الى سوريا لعرضها على يوجيني.
[ ألم تكن فكرة مرافقة النساء الى العراق واردة عندك؟
- هذا ما اقترحته علي يوجيني التي لم تتدخل ابداً في صنع الفيلم. لم أقتنع في البداية لأنني عرفت ان ذلك سيسبب مشكلة لجهة طول الفيلم. ولكنني قررت القيام بخطة بديلة وهي إعطاء "إرادة" كاميرا صغيرة وتدريبها عليها تدريب أولي. كانت مهمة "إرادة" متابعة المشاركات في العراق والتنقل بينهن. عادت "إرادة" بنحو عشر ساعات من التصوير، تابعت خلالها المشاركات وأهاليهن. في النسخة الأولية للفيلم التي بلغت ثلاث ساعات، وضعت هذا الجزء. ولكنني في قرارة نفسي شعرت انها قصة "إرادة" وليست قصتي. فهي بشكل ما تقوم على إعادة اكتشاف "إرادة" لبلادها من خلال عدسة الكاميرا التي تحملها للمرة الأولى. هكذا قررت حذف هذا الجزء ولكنني أدرجته ضمن الـ"دي.في.دي" الخاص بالفيلم كعمل مستقل في عنوان "رحلة إرادة".
الجزء الثاني من الورشة كان مختلفاً. معظم الأشياء قيلت في الجزء الأول ولم يبقَ سوى متابعة التفاصيل العملية في الجزء الثاني. سؤالي يتعلق بالمونتاج الذي منح الفيلم برأيي الايقاع والسلاسة والتركيب التي لا نقع عليها في أفلام "الجمعيات الأهلية" اذا جاز التعبير والتي خرج فيلمك بشكل او بآخر من عباءتها. كيف وضعت خطة المونتاج؟ ولكن قبلها كم ساعة تصوير تجمّعت لديك؟
خرج الفيلم من 130 ساعة تصوير. الخط الأساسي والواضح في المونتاج هو التسلسل الزمني للورشة اي المرحلة الأولى بما فيها من تدريب وخارطة الحياة وتمارين وسواها ومن ثم المرحلة الثانية. في الخط الثاني، اشتغلت على فكرة تبدل الفصول وهي فكرة خطرت لي لاحقاً عندما اكتشفت صلتها بالتحول الذي رافق النساء. فالمرحلة الأولى كانت في الشتاء وكنا نشعر بالبرد دوماً. والورشة تطلّبت في هذه المرحلة رجوع النساء الى دواخلهن كما لو كنا يلتففن حول أنفسهن، والخضوع لنوع من الرحلة العلاجية مع تمكنهن من تجسيد معاناتهن في قوالب فنية ابداعية. عندما عدن الى سوريا، كان الفصل ربيعاً وتقاطع ذلك مع تفتّح تجاربهن وتجدد حيواتهن.
على الصعيد الدرامي، الجزء الثاني أهدأ لأن الأصعب كان قد مر. الهدوء والمساحة منحاني فرصة التقرب من الطفلة "ديمة" ابنة "إرادة". فهي طفلة استثنائية بالفعل بطرافتها وحدة ذكائها. فوجدت فيها النموذج العكسي للنساء. "اضحك بدل أن أبكي" قالت لي في ما تحول "الدرس". ليس المطلوب ان ننسى، ولكن ثمة امكانية للحياة على الرغم من كل شيء. هذا ما تختزنه "ديمة". في النهاية، كان التحدي الاساسي في صنع هذا الفيلم وتوليفه الحفاظ على القصص الفردية في التجربة الجماعية. كل شخصية بمثابة خيط بلون خاص، قمت بحياكتها في نسيج. التجربة الانسانية ليست فردية بل تتقاطع مع تجارب أخرى وتروي تاريخاً. هكذا هي الحياة بالنسبة الي، لوحة تجمع الفردي والجماعي والتاريخ.
أرض الخراب وأرض السينما
غير بعيد من تجربة يوجيني دولبيرغ، اقامت ميسون باجه جي ورشة عمل في العراق مع زميلها ومواطنها المخرج قاسم عبد. افتتح الاثنان في العام 2004 مدرسة للتدريب السينمائي في بغداد، استقبلت الشباب مجاناً للتدرب على التصوير وصنع أفلامهم الخاصة. شارك بعض هذه الأفلام في مهرجانات عدة ومنها ما نال جوائز. وبعد مرحلة من الإقفال لاسباب أمنية، أعادت المدرسة فتح أبوابها مطلع العام 2009 وتحضر باجه جي لمهرجان متنقل داخل العراق لأفلام طلابها. العام 2004، سجل قبلها عودتها الى العراق للمرة الأولى بعد 35 عاماً من الخروج. حينها، رافقت والدها الدبلوماسي والسياسي عدنان باجه جي الذي عين رئيساً لمجلس الحكم العراقي في العام 2003. في زيارتها الأولى تلك بعد غياب طويل، أنجزت "العودة الى بلاد العجائب"، متسللة الى أماكن الطفولة ومستنطقة الناس العاديين حول آمالهم وآلامهم وتوقعاتهم. كان ذلك فيلمها الرابع بعد "نساء عراقيات: أصوات من المنفى" و"العيش مع الماضي" و"رحلة ايرانية".
[ أنشأت مدرسة التدريب مع زميلك المخرج قاسم عبد بهدف يشبه أهداف ورشة التدريب الفوتوغرافي: الإرتقاء بالألم الى مرتبة التعبير الإبداعي. هل أفلامك هي كذلك بالنسبة اليك؟
- أعتقد انها كذلك. الشلل النفسي والعجز كانا بشكل او بآخر منطلق تجربتي الأولى. قبلها كنت أعمل في مجال المونتاج وغيره ولكنني أخرجت فيلمي الاول بعد حرب الخليج 1991 وخرج في العام 1994. كنت اشاهد التلفاز ليل نهار. وهالني ان ارى ان ساعات البث الطويلة خالية من البشر. كانت صدمة حقيقية، خرج منها "نساء عراقيات: اصوات من المنفى" الذي على بساطته أعطاني صوتاً. السينما بهذا المعنى مهمة جداً. لا تحل المشكلات ولا تزيل الألم ولكنها تخترق الاحساس بالعجز وحالة الموت إزاء الدمار الخارجي والنفسي.
[ ومتى بدأ هاجس الفن والسينما بعيداً من القضية والتعبير عن الألم؟
- أعتقد انه كان موجوداً دائماً بدليل ان افلامي ليست كلها عن العراق ولا كلها عن "المنفى" الذي يشكل موضوع معظم المخرجين العراقيين من جيلي المقيمين في الخارج. ثم ان العمل الوثائقي بالنسبة الي يكتنز هذا الجانب لأنه صعب وايجابي ومتناقض وغامض في آنٍ معاً. مهما فعلت او حرصت على ألا أكون "استغلالية" الا أن عملي في النهاية هو "خطف" حياة الآخرين من أجل الرواية. وهذا صعب لأنه ايضاً غير متوقع. ويقيني انه على عكس ما يقال دائماً، المخرج لا يملك السيطرة الكاملة. العمل الوثائقي أشبه بالسباحة في النهر ومحاولات التطويع القسرية تنتهي الى فراغ. الوثائقي اكتشاف في كل مرة ولا مجال فيه للوصول الى نتيجة او خلاصة. حتى وجهة نظري قد تكون متناقضة ومتبدلة. هذا في رأيي جزء من العمل يجب اظهاره بدلاً من تغطيته بهدف الخروج بصورة لمّاعة. أريد المشاهد ان يخوض الرحلة معي، ان يجلب اليها تجربته ورؤيته. هذا ما يجعل الفيلم الوثائقي حياً.
[ هل تزعجك الأفلام الأجنبية المنجزة في العراق أو عنه؟
- كلا لا تزعجني الأفلام الأميركية مثلاً لأنها تتحدث عن الاميركيين وعن الجنود. العراق مجرد خلفية ويمكن ان يكون كوسوفو او اي مكان آخر مزقته الحرب. ولكن ما يزعجني هي الأفلام او التقارير التي تدعي انها تقدم وجهة نظر داخلية كما تفعل "بي.بي.سي" عندما تعطي كاميرا صغيرة لمواطن عراقي ليصور ومن ثم تعرض ما صوره. اي هي وجهة النظر في هذا؟ ومن تخص فعلاً؟