بقلم بهروز دراغاهي -لوس انجلز تايز
عندما اخترقت الدبابات الاميركية حيها، واتلفت الطرق مجتثة الدولة، بقيت ابتسام حمودي ترفض الهجرة واللحاق بالكثير من زملائها الاغنياء. وعندما سيطر الرجال المسلحون المتشحون بالسواد على الحي المختلط دينيا الذي تسكنه غرب بغداد، وحولوه الى ساحة للقتل، فانها لم تتركهم يبعدونها عن بلدها الذي احبته.
وحتى عندما قتلوا زوجها، اذ اردوه قتيلا فيما كان يغادر عمله، قاتلتهم بحزنها وبقيت في العراق متأملة ان تأتي الايام الاحلى.
لكن الجمود السياسي بعد الانتخابات يهدد بجر العراق الى العنف والغموض الذي خبرته ابتسام حمودي. وخلال هذه الشهور راحت المهندسة السابقة والناشطة في حقوق الانسان تخطط لاخذ مدخراتها وما ورثته من العائلة، واصغر بناتها الثلاث، لكي تستقر في الاردن او سوريا.
وتقول السيدة حمودي «انا اعرف ما الذي يجري، وليس من المحتمل ان تكون هناك نتيجة طيبة، وهذا الوقت سيكون اسوأ من الذي قبله».
وخلال الشهور الـثلاثين الماضية من الأمن النسبيِ والتقدم الاقتصادي، خرجت الطبقة المتوسطة والمثقفون في العراق، من مخابئ الحرب والمنفى، وراحوا يتهادون في البلدة دون حاجة الى ارتداء الحجاب مثلا، وينطلقون في مناطق التسوق الجديدة.
لكن فيما يراقب هؤلاء معسكر رئيس الوزراء نوري المالكي وحلفاءه الذين يسيطرون على الاجهزة الامنية مزاحمين اياد علاوي الذي يدعمه السنة ممن ساندوا المتمردين سابقا، فان الطبقة الوسطى تعد نفسها للتواري في الظل ثانية.
نعم لقد غيرت الازمة طابع البلد، ذاك الذي كان يملؤه الامل قبل بضعة شهور فقط. ناهيك عن ان الانسحاب الوشيك للقوات الاميركية، كما يقول عراقيون، قد يحدث فراغا سيترك الدراما السياسية متقرحة لسنوات. ولقد كيفت سنوات المعاناة الهائلة العراقيين وجعلتهم مستعدين للاسوأ، او على الاقل هيأتهم لحماية انفسهم من الاحباط.
ويقول وحيد ثاني 43 عاما وهو مهندس في وزارة الاسكان كان يمضي فترات العصر في مطعم صديقه للوجبات الخفيفة «كلنا نتمنى ان لاتعود الامور الى ما كانت عليه، لكن الاشارت التي نشهدها تدل على اننا سنواجه وضعية سيئة مرة اخرى. نحن متشائمون بسبب الأمور التي نشاهدها. النزاعات هنا ابدية، لا يمكن التوصل فيها الى حل».
وقبل الازمة وحينما كان افراد عوائل الطبقة الوسطى يجتمعون في المتنزهات الجديدة مع اطفالهم، حتى ان بعض الشابات كان بمقدورهن السير لوحدهن، فان الكثيرين واتتهم الجرأة للحلم بعراق آمن ومزدهر مثل جيرانه الاغنياء في الجنوب والشمال. لكن كل خرق في الامن كان ينخر التقدم ويكشف عن امكانية لتهشم المكاسب التي انجزت منذ اواخر عام 2007 حين بدأ العنف بالانحسار.
لقد اخذ العنف بالتصاعد ثانية، ولقد قفزت نسبة القتلى بزيادة 50% من آذار الى نيسان طبقا للاحصائيات الحكومية. وفي العاشر من ايار الجاري، مات مئة شخص في يوم من التفجيرات واطلاق النار، وكان هو اليوم الاسوأ منذ السنة الماضية في العراق.
ولقد جعلت سلسلة اغتيالات محيرة لرجال دين سنة، المسؤولين في العراق يتساءلون ان كانت القاعدة او مقاتلين شيعة قد قاموا بعمليات القتل هذه. وفي يوم الاثنين الماضي تم قطع رأس رجل دين في مسجده.
اما ليلة الأربعاء فقد قتلت سيارة مفخخةَ ستة أشخاص وجرحت على الأقل عشرة آخرين في مطعم في بلدة المسيب جنوب بغداد.
ويردد العشرات من العراقيين من كل انحاء البلاد انه سواء عاد العراق للغرق في اليأس او امكن التقدم للامام برجل عرجاء، فان الغم يهدد بتحطيم هذا الامل القليل عند العراقيين.
ويقول الحلاق حسن رحيم (40 عاما) والذي عاد من ليبيا قبل سنتين ويفكر بالعودة اليها مجددا «لقد قدمنا تضحيات، وقد وضعنا حياتنا على المحك عندما ذهبنا للانتخابات وصوتنا للشخص المناسب حقا، ولم ينجح ذلك. لقد قامرنا ولكن ليس هناك من فائز سوى الجالسين في المنطقة الخضراء (المركز الاداري الشبيه بالقلعة الذي يتواجد فيه السياسيون المتخاصمون)».
إنّ النخبةَ السياسيةَ مدركة جيدا لردة فعل الطبقة المتوسطةَ، والبعضِ بَدأ بتهييج الناس على السياسيين لكي يتقدموا للأمام من اجل تشكيل الحكومة.
وتقول النائبة السابقة وعضوة المجلس الاعلى ليلى الخفاجي عن المثقفين والطبقة المتوسطة العراقية «لقد انتهت مسؤوليتهم يوم الانتخابات في السابع من اذار، انهم اناس مسؤولون واذكياء جدا وعملوا ما كان عليهم ان يعملوه لكنهم لم يروا من ثمرة».
وتضيف الخفاجي «كل يوم أربعاء، يجتمع زعيم الحزب عمار الحكيم، بناخبي الطبقة المتوسطة في محاولة لمعرفة آرائهم وللتخفيف من مخاوفَهم. لكن الازمةَ بدأت بتغيير حسابات الناس الإقتصادية المستقبلية».
اما الرسام باقر الشيخ والذي تباع كل واحدة من لوحاته بنحو ألفي دولار داخل العراق وخارجه، فإنه عاد للعراق مباشرة قبل الاحتلال الاميركي وبقي خلال سنوات التمرد والحرب الطائفية والازمات السياسية، لكنه قرر الان مغادرة العراق لانه بالدرجة الاساس لايؤمن بان الحكومة ستكون قادرة على تحسين المدارس لكي تتعلم بناته بشكل صحيح.
ويقول في محترفه الخاص (حلم) فيما كانت الحيطان مغطاة برسوم زيتية لنساء عاريات ومناظر طبيعية «لقد شعرت اني انتمي لهذا البلد، وكان لي امل بان هذا البلد سينجح». ويمضي في القول وهو يضغط بيديه على جانبي رأسه «لكن لم يعد هناك امل، لقد حاولنا تغيير الحكومة عن طريق الاننتخابات، والناس نفسهم راحوا يعودون. انها اشارة على ان الدستور قد فشل».
والاشارات تكثر بان هذه الطبقة المتوسطة الماهرة المثقفة ماضية بالانسحاب من الحياة العامة.
والسيدة ابتسام حمودي الارملة التي تترأس المنتدى الديمقراطي للحوار المدني وحقوق الانسان تقول انها توصلت لقناعة بان الكلام عن حقوق نساء العراق وعن الحرمان من كل شئ هو كلام لاطائل من ورائه حين تكون الحالة السياسية بمثل هذا التصلب».
وقالت بالانكليزية «ان المستحيل ان تكون الحالة جيدة، ولقد التقيت كل السياسيين تقريبا، واذا اردت ان تعرف رأيي، فاني سادعهم يغادرون البلد. وانا اؤمن باننا نحتاج شخصا مثل صدام حسين، فهو الشخص الوحيد القادر على اصلاح الشعب العراقي».
وبالاضافة إلى خيبة الآمال بتجربة العراق الديمقراطية، فان المأزق السياسي يهدد اقتصاد البلاد الضعيف. فالاستثمار الأجنبيِ والمحليِ على هزالته يتباطأ لحد التوقف فيما تنتظر الشركات العراقية والأجنبية انتهاء العاصفة السياسية قبل اتخاذ القرارات الإستراتيجية.
ويقول سالم محمد العبيدي 40 عاما وهو مسؤول من وزارة التعليم في كركوك «ان الحالة السياسية الآن في العراق تلقي بظلالها على السمات العامة للحياة العراقية، وتشهد الحركة التجارية توقفا تاما وتتجمد مثل الحالة السياسية العراقية».
وهناك عراقيون تملأ الاموال جيوبهم لكنهم يصرفون قليلا، ويحتفظون بها لمستقبل مظلم محتمل. والعديد منهم توقفوا عن السفر او الذهاب للخارج او وضع خطط طويلة المدى.
ويقول عبد الرزاق خلف صاحب محل صيرفة من البصرة التي تعرضت لاسوأ عنف منذ سنوات في العاشر من الشهر الجاري «لقد مر اكثر من شهرين ولم ير الناس اي بارقة امل او امرا جيدا، من اولئك الذين صوتنا لهم».
وفي شارعِ الصناعة حيث يقع المركز الرئيس لتسوق الالكترونيات في العاصمة بغداد يتشكى الباعة من ان زبائنهم من الوزارات وبقية الاعمال التجارية قد توقفوا عن تقديم طلبات شراء حاسبات او حاسبات محمولة او اجهزة مراقبة.
اما بقية المناطق التجارية فان الزحام فيها بات اقل مما كان سابقا اذ تختار العوائل الحذرة، تمضية الامسيات قريبا من المنازل. اما اصحاب المحلات فقد ضاقوا ذرعا بحلقات المدخنين المتبطلين الذين يتكاثرون منضمين الى زملائهم الذين يجتمعون على طول الارصفة الخالية من الزبائن.
ويقول احمد محمد 36 عاما وهو اختصاصي اتصالات وحواسيب يعمل في بيع اجهزة استنساخ كانون «يتخوف الشارع الان من عودة الطائفية، ويمكن ان اصف الحالة بانها قنبلة موقوتة ولا احد يعرف متى ستنفجر».
ترجمة عبد علي سلمان |