(...... ما من جيل ، منذ مدة طويلة ، حلم بالحياة واللذة والحرية بجرأة كجرأة هذا الجيل ، ثم كان حظه من الحياة أسوأ من هذا الجيل ، او تألم اكثر مما تألم هذا الجيل، او عرف عبودية اثقل من العبودية التي عرفها ) - من كتاب "جسر على نهر درينا " تأليف : ايفو اندريتش ترجمة سامي الدروبي .
الحّت الدكتورة سها ، ( تسمى هكذا ) أثناء الغداء ، على الطلب ، من الزوجة المضيفة ، اخبارها عن كيفية الحصول على قبول من احدى المدارس الداخلية ببريطانيا ، من اجل ادخال ابنتها فيها ذات الثلاثة عشر ربيعا . اعترضت الصبية بوجل : - أخاف ان افشل باللغة الانكليزية . - تفشلين ؟ ! انت احسن طالبة في صفك ببغداد بهذه المادة . اخرستها وبقي الحاضرون في حاجة الى اقناع : - درجاتها دائما بالتسعين ، دائما ، دائما ، كيف تفشلين باللغة الانكليزية ؟! انت في حاجة الى مجرد شهرين فقط ، لا اكثر ولا اقل ، لتصبحي بلبلا باللغة الانكليزية .صمتت الصبية . الموضوع لا يتعلق باللغة الانكليزية فحسب ، كان هناك الداخلي الموحش ، البلد الغريب ، فراق الاهل والوطن والاصدقاء . هذه كلها اشياء مهمة لا تستطيع ان تبوح بها . الام عاجزة عن ملاحظتها والفتاة لا تنطق بها جهرا لئلا تواجه بعاصفة رد عنيف من ام دكتوراه بعلم الاجتماع . استمرت مؤكدة صحة رأيها وصوابه . ثقتها عظيمة بنفسها وبأولادها ، سواء شاءوا ام ابوا :- انت مثل اخيك الكبير " حامد " . يدرس في مدينة " كاردف " الكومبيوتر ، ووجدنا عنده مايقرب من الف كتاب . يقرأ كل شيْء . العلوم ، الآداب ، كافكا ، النثر ، الشعر ، كافكا ( اعيد اسم كافكا للمرة الثانية ) يقرأ كل شيء ، كل شيء .تدخل الوالد الضيف لمساعدة الام ، الجالس معها ، على سفرة الغداء،ايضا ، أراد ان يفهم الحضور ماهية هذا الشاب المطلع على كل شيء : - مع العلم هو ملتزم سياسيا - طبيعي ، ولولا هذا لما سمحوا له بالمجيء في البعثة الحكومية للدراسة ببريطانيا . ردت الام بامتنان ، ارتفع حاجب المضيف العراقي المغترب بلندن منذ سنوات . فتح باب لابد من اغلاقه . اندفع الزوج متحمسا للدفاع عن ابنه كي لا تذهب الظنون بالحاضرين بعيدا . لا يؤخذ كلامه على محمل الخطأ على اعتبار ان ابنه اناني وانتهازي : - وهو مؤمن بافكاره . لو كان " حامد " بالعراق ، الآن ، لما تردد في التطوع والانتماء الى صفوف المحاربين بجبهة القتال ، لاشك . تساقطت كلماته على اذن زوجته كرذاذ خفيف في ارض جدباء . تأوهت متحسرة ثم عادت لالتهام ما تبقى من طعام في انائها ، مطمئنة . الولد الكبير ناء عن العراق الآف الاميال . البنت ، ايضا ، ستدخل مدرسة داخلية بريطانية . بقي الولد الصغير معهما ، عمره لا يتجاوز الست سنوات ، يلعب في تلك اللحظة مع قطة اهل الدار قربهما بين الكراسي ، لا مجال لأن يؤخذ الى الحرب عندما يعودان الى العراق معه قريبا ، خفيفي الاحمال ، ولو على حساب الفرقة المضنية لاثنين من فلذة كبديهما . على اية حال ، كل شيء يهون ولا ان يتعرض ابناؤهما لنيران حرب لا يعلم سوى الله مداها ، اججت دون استشارة احد من اباء وامهات الجنود الذين سيطحنون بها دون اكتراث . لقد فكر الزوجان بكل شيء قبل ان يتزوجا ، الا ان يموت اولادهما في حرب شعواء .هذه مسألة لا تخطر ببال احد من المتزوجين في الليلة الاولى لفرح عرسهماعلى الاطلاق. - اعجبني ما قرأت في احدى الصحف الانكليزية ، قبل ايام ، عندما ذكر الكاتب ان اي شخص يطلب من الآخرين الذهاب للحرب ، عوضا عنه ، للدفاع عن افكاره ومبادئه ، فمن اللازم ان يكون موضع شك! قال المضيف ذلك وهو مبتسم ، متوقعا ان يحذو الآخرون حذوه . انتبهت امرأته للمطبة ’ اهذا كلام مناسب !؟ انها غلطة . الا ترى كيف جمد الضيوف في اماكنهم ؟ ارجو ان لايشعراحد من الحضور انه المقصود ؟ انهمكت بايصال الطعام لهم ، محاولة ابعادهم عن الاحساس بالنغز ، كلوا ، كلوا ، ذوقوا ، من هذه الاكلة التي طبختها لكم ، ربما تعجبكم . تقدم الاواني بالاطعمة المتنوعة ، نحو صدورهم ، للترغيب . كفى كلاما يحمل تفسيرين . وهل هذا وقته . بدوره ، يريد الزائر الزوج، اغلاق الموضوع الذي فتح ، على حين غفلة ، فقد تشعب اكثر مما ينبغي . كفى اهتماما بالحروب . حقيقة ، انه مهتم الان ، بتكملة احاديثه التي بدأها قبل لحظات ، قبل ان يضطر لتغييرها من دون رضاه . آن الاوان ان يعود اليها ، مرحا ، مستمتعا ، قبل ان تستولي على الجالسين الرغبة في خوض قضايا الساعة بمخاطرها الجمة ، مستحسنا عدم ذكرها ، محبذا عادة النسيان واغلاق الملفات. الاان المضيف لم يمهله طويلا لاستكمال خطته والعودة لنواياه القال والقيل لي . انبرى مقاطعا اياه كالغراب المتهيئ للصياح : - مولانا ما رأيك بمن قتل ابنه لرفضه الذهاب للحرب . هذه مسألة لم تذكرلا في التاريخ القديم او في الحديث . علاوة على ذلك ، اعطته الدولة وساما على فعلته . تصور . يا دكتورة سها هل سمعت من قبل شيئا كهذا في دراستك بعلم الاجتماع ؟ ! عزاء وسخام . لماذا تدخلنا في هذا الاحراج ؟ ماذا فعلنا لك ؟! تضايق الضيف الزوج من ياقته كقيد . ذابت شخصيته مع زوجته المتقابله معه على المنضدة كشمعتين تدمعان . تذكرا الوسام وصورة الاحتفال الذي نقل بالمناسبة على شاشة التلفزيون . ما اصعب المنظر . ما الذي بقي كي يعيش الانسان من اجله ؟ خبرونا ؟ وهل دفاع المرء عن وطنه الا للمحافظة على ذريته . ماذا بقي للانسان كي يعيش من اجله ؟ قولوا لنا ، أولم يصبح الامر معكوسا ؟ هذه خواطر مدلهمة متجمعة في قرارة نفسيهما ، كثيرا ما يتناولها كل واحد منهما على انفراد ، ومن دون صحبة . تختلف تماما عن الاحاديث المشتركة الاخرى ، ذات الاخذ والرد ، القبول والاستنكار واحيانا الصياح والضجة . يطرحان ، مثلا ، فيما بينهما ، ما يحتاجانه في بيتهما الضخم الكامل الاثاث ، هل يحتاجان الى تبديل سيارتهما هذه السنة ؟ اما آن الاوان لتغييرها ؟ يعرج الزوج ، احيانا ، للمسامرة والاستئناس، حول اخبار بعض العوائل المعروفة بالمدينة والتي لا يزال بعض افرادها متواجدين ولم يهاجروا مع اولادهم بسبب الحرب ، او لشدة الضغوط والمضايقات . يتسلى باخبارهم والتي سيدلقها كما تسكب المرأة المترفة الشاي والحليب بأكواب بلور . كان يتحدث ، قبل قليل ، بهذا الصدد ، قبل ان يفتق الموضوع الكريه ويخرج الرأس ذو الهيئة النافرة من الشق :
- باعوا البستان بثلاثة الآف دينار . بستانا فاخرا ، قرب بغداد . فيه كمثرى وتفاح ورمان ، تين وعنب وبرتقال، لو باعوه بعدئذ لقدر سعره اضعاف هذا المبلغ ، لو ، فقط ، صبروا قليلا . او ان يقول : - تزوجت واحدا من بيت الشمام . هو اخو حسين الشمام . لابد من ان تكون قد سمعت به . لا ، لا ، حسين لم يتزوج حتى اليوم . هذه هي الاحاديث اللذيذة التي يحبها الناس فيما بينهم . وتطمئنهم . امور تنمو وتتطور وتزول، احيانا ، ببساطة . علاقات دافئة حيوانية ، لا عواقب وراءها . ليست خارقة للطبيعة البشرية . ويمكن ان يتصورها اي عقل سوي . لكن المضيف ، على ما يبدو ، يريد ان يستكمل دورة النقاش السابق ، ليس مهتما ببيت حسين الشمام او ببيع البستان ، يحاول ان يتتبع مسار الرأس القبيح المنفرالذي ظهر فجأة . لم يشعر معه الزوجان الضيفان بالامان . لا ، لا، لا داعي لهذا الموضوع الآن ، راغبين في ان تكون حالهما كحال ما نظمه الشاعر في زمانه: تعالي ننهب اللذات من غفلات دنيانا
يا ليت . دعنا من المطاليب الكثيرة ، رجاءً وبتوسل . إنها مسألة تحتاج الى حظ . نحن ضيوف عندك ، تذكر . يجب أن نكون مؤدبين ايضاً . يا غريب كن الاديب . اصفر وجه الدكتورة سها ، انخمش انفها وتجعد فمها . لماذا لا يدعنا نأكل الطعام براحة ؟! ماذا يريد منا اكثر ؟ واجهت المشكلة ، كشأنها في كل مرة ، عندما تقتحم بصدرها العريض ذي القلائد ، المعارك عوضا عن زوجها. انها دائما ، وكما يعرف ، قادرة على حل الامور المعقدة برويه وشجاعة. قالت اخيرا ، متفطنة لارضاء المضيف ، ولتصفي حسابها معه ، بالتي هي احسن :
- شاهدنا ثلاث نساء ايرانيات مفرفشاتا امس ، تصورنا أنهن عربيات لعظم الشبه بيننا وبينهن ، اكتشفنا ،بعدئذ ، وبعد الابتسامات ، انهن لا يتكلمن لغتنا ، فقد قالت احداهن :" عيد قرباني " فعرفنا انها تقصد عيد الاضحى ، فهذا ميعاده كما نعرف . عجبا ما معنى " عيد قرباني " بالضبط ، في اللغة الفارسية ؟ لا يهم . نعق الغراب مرة اخرى ، وكان قد بدأ صافنا لبرهة وجيزة ، مصغيا لكلامها . رد عليها بجواب لا علاقة له بسؤالها : - نعم ، تصوري ، ان ابنك سيقاتل يوما ابن هذه المرأة من جيرانك . عزاء مرة اخرى . اغلق من هنا فيفتق من هنا . هكذا نربح ! صار طعم فم دكتورة سها مرا . تناولت قدح عصير البرتقال لشربه . بدأ المضيف يتفلسف . راهيا يناقش فكرة الحروب ، متحاورا كارسطو اليونان . لم لا ؟ ! جالس مرتاح ببيته بلندن . اولاده معه ، كل شيء على مايرام . ظل يتلذذ بالافكار وكأنه ينتقي الكرز الناضج . الزوجان مذعوران خائفان مما سيأتي به من شيء مجهول : - بقدر ما يكتشفون علاجات لامراض الجدري والحصبة والسعال الديكي والتيفوئيد والكوليرا والسل ، والآن هم يبحثون عن علآج للسرطان ومرض الايدز ، لكنهم للاسف ، غير مهتمين باكتشاف علاج لمكافحة الرغبة في اشعال الحروب . بل العكس انهم دائما يكتشفون اسلحة دمار فتاكة للقضاء على الانسان .ميل . تنفس الزوجان الضيفان الصعداء . كلام عام شامل . لا غبار عليه . تشجع الزوج للادلاء بآرائه ، ايضا ، لم لا ؟ لديه حصة للاضافة الى هذا المعنى بالخصوص. شعر انه حر ليتكلم ، لماذا وهب الله اللسان للانسان ؟! الفرصة ، بالنسبة اليه ، قليلا ما تسنح. دعينا نتكلم ، انا بئر حكي . يريد ان يسرد عليهم حادثة مدفونة في اعماقه . سمعها ذات يوم ، ولم يتفوه بها من شدة الحذر ، انها معه الآن ، يريد ان يشكو، يحتج عليها ، تماما كحاجة الشعوب المحرومة من التعبير الرغبة في الخروج بالمظاهرات . الجالسون معه احرار، اصحابه هم ومن دون سوابق ، الخطر بعيد. انحلت عقدة لسانه . نسي نفسه ، ومن اي بلد جاء . والى اين هو راجع . اهمل العادة المجبر عليها ، والتي صارت شبه مزمنة ، لاحكام اغلاق فمه و ربطه بالكمامات . ذهب خنوعه السابق . عادت له القصة القديمة التي شاء ان يخفيها عن اقرب الناس اليه . انها تلح ، تريد الظهور بشجاعة المظلوم عندما يشعر ان هناك اصغاء : - أتعرف ما حصل لصديقنا طارق المسكين ؟ انت تذكره بالتأكيد، كان معنا في الثانوية . جاء من مدينة العمارة ، كما تعرف . أتتذكره ؟ كان ناجحا الاول في النهائي ، فقبل في كلية الطب منسبا على الكلية العسكرية كي تدفع اجور الدراسة عنه . المهم ، اثناء ما كان في الصف الثاني توفي والده فجأة . تاركا عائلة كاملة لا معيل لها . اراد طارق ان يترك الدراسة من اجل امه واخوانه . سمع البعض فاوصل الخبر الى الكلية العسكرية ثم الى اسماع الزعيم عبد الكريم قاسم . وكان الاخير بمثابة رئيس للجمهورية آنذاك . استدعاه وسأله لماذا ستترك كلية الطب وانت متفوق فيها ؟ اجابه ان راتبه كطالب لا يتجاوز السبعة دنانير بينما لو عين معلما للابتدائية سيكون راتبة اكثرمن ذلك بثلاثة اضعاف .اقترح عليه قاسم ، آنذاك ، ان يبقى في كلية الطب وسيدفع له من جيبه الخاص الفرق بين المبلغين - كانت ، كما تعرفون ، لعبد الكريم قاسم مآثر كهذه - بعد سقوط حكم الاخير سنة 1963 ومجيء البعثيين للسلطة بالدبابات مثلما جاء من قبل قاسم ، ولكن بقسوة وعنف اكثر ، قبض على طارق بتهمة كونه قاسميا ، ثم تطورت التهمة الى كونه شيوعيا ، ولم ينقذه احد من الاعدام الا اثنان من زملائه كانا بعثيين ويعرفانه جيدا ، دافعا عنه امام المحكمة فاطلق سراحه . لكن الحكم عليه اقتضى ان يمارس مهنة الطب بعد تخرجه من الجامعة في مناطق المعارك العسكرية فارسل الى شمال العراق . قيل لي ، بعدئذ ، انه بينما كان واقفا ، في احدى المرات ، مع احد كبار الضباط على قمة جبل عال هناك ، تراءى لهما شخصان يسيران معا من بعيد في اسفل الوادي ، فشك بأمرهما وامر الضابط استدعاءهما اليه لمعرفة هويتهما ، تبين ، عندما جيء بهما ، انهما راع مع ابنه الذي لايتجاوزعمره الست سنوات ، فما كان ، بعد التحقيق ، الا ان رمي الولد الصغير من اعلى الجبل امام ابيه الراعي ليعطي درسا بليغا بالابتعاد عن القوات الحكومية مستقبلا وليكون عظة للاخرين. وهنا ، فجأة ، ابتدأ طارق بالتقيؤ امام الحاضرين ، واستمر على ذلك ، بدون انقطاع . نقل الى المستشفى فورا ، وسرعان ماتدهورت حالته الصحية تماما ، ارسل الى لبنان للعلاج بعدئذ ، لكنه توفي بعد فترة قصيرة ، حسبما سمعت . - بني آدم ، بني آدم ! رددالمضيف بخفوت ثم بصوت واضح . " ميو " صاحت القطة التي كان الطفل يلعب معها بصوت مشروخ ثم هرولت هاربة من المكان . اجفلت الحضور كلهم فسارعت الام ناصحة : - عزيزي ، الم اقل لك الا تعذبها . - لم افعل شيئا سوى اني اريد ان اضع حبلا حول رقبتها . ثم بدأ يبكي . اين المفر ؟ وقفت الام حيرى تريد اسكاته ، تحاول الخروج من بين الكراسي الملتصقة بالمنضدة ، صارت سيقانها راخية . لماذا تخيفني يا شاطر ؟ وعلاوة على ذلك ، يقول عمر الطفل لا يتجاوز الست سنوات مسافة ضيقة في الغرفة اللندنية الصغيرة المحتشدة بالاثاث . قلصت بطنها قدرالامكان، وفكرت امام الحضور ، بصوت عال ، على ضرورة تخفيف وزنها . ضحك البعض منها وعلى رغبتها في تحقيق المعجزات . صار خيرا ، تملصت من الموقف اخيرا وقد غفر لها ما تقدم وما تأخر من ذنوب السمنة لكثرة المعاناة . تشجعت آملة انهم نسوا ما رواه زوجها قبل هنيهات ، وهي ترجو اثناء ذلك ، الا يفتح احد من الحضور بوقه مرة ثانية الا بالدعاء لاهل البيت والثناء . ظلت تكرر وهي على وشك ان تحضن الطفل : - مائدة لذيذة ، لتكن ، دائما ، مملوءة بالحبور والمسرات . لندن 5 / 1998 |