غزارة الإنتاج التي يتمتع بها الناقد والباحث والمترجم سعيد الغانمي هي خلاصة بحث متواصل ودؤوب يلج الغانمي فيه حد الذوبان. وهو يدرك ويتفاعل مع مبدأ البحث الدقيق عن كل ما هو جديد في المشهد الفكري العالمي المعاصر. فينقب متوخياً في بطون الكتب والإصدارات الغربية والعربية التي ترصد وتنشر الظواهر العلمية والاجتماعية والفكرية والبحثية.
ويعنى كذلك بأشياء من المسكوت عنها في عالم الأسطورة، مما يسعى إلى أن يجد له المنافذ التأويلية والألسنية واختلاف وجهات النظر المادية والتاريخية. ومن خلالها يفتح الغانمي أمام المهتمين والقراء في هذا الشأن من تلك الموسوعة المعرفية فضاءات متعددة وحيوية، نقف حيالها في أوجه شتى بين الرضا والانبهار أو ربما غير ذلك. لكن في كل الأحوال هناك إشباع لرغباتنا في معرفة واستبيان تلك المناهج في روح معاصرة، وما تمتع به الأستاذ الغانمي إنما هو حصيلة ما جاد به من روح تواقة في عالم المعرفة. فلم تثنه المعاناة الناجمة عن رحلته وترحاله المضني. فأصرّ على التواصل. ومنذ تسعينيات القرن الفائت، تاريخ مغادرته العراق، أي ثماني عشرة سنة، توثب الغانمي واستشف أن لا سبيل أمامه إلا التواصل العنيد مع الذات والآخر. وفي خلال هذه الغربة التي امتدت به من الدول العربية حتى مستقره، والله وحده يعلم إن كان الأخير، في غرب استراليا، استطاع الغانمي أن يرفد المكتبة العربية بكم ضخم ونوعي أثمر ما يزيد عن 46 كتاباً بين بحث ونقد وترجمة. وقد لقيت هذه الأعمال والإنجازات أصداء واسعة وترحيباً واحتفالاً بسعيد الغانمي كاتباً ومترجماً، لما تنطوي عليه من أفكار مهمة تصب في صميم الثقافة وجوهرها. وهذا بالضبط ما تحتاجه الثقافة العربية، التي تسعى إلى التواصل مع المنجز العالمي في حركته الدؤوب. وقد أجرينا حواراً متعدد الجوانب مع الغانمي فيما تناوله وكتب عنه. وبهدف أن يكون الحوار مع الغانمي حواراً شاملاً، ارتأيت أن يكون المحور الاول عن البداية، وهو ما أعتقد أنه المدخل الأساس للخوض في الأشياء الأخرى.
* فلنبدأ من لحظة التكوين والبداية عند سعيد الغانمي - لا أكتمك بأنني لا أحبّ الحديث عن ذاتي، ولم أفكر بذاتي بالمعنى النرجسي مطلقاً. لكني مع ذلك مولع بمراقبة خطواتي، ورصد توجهي، وممارسة نوع من النقد للذات لا يتوقف. ولست أُخفي أنني بلا بدايات. بداياتي لم تبدأ بعد. غير أن هذا لا يمنعني من الحديث عن "هاجس البدايات"، بدلاً من البدايات نفسها. ولعل هذا الهاجس تبلور في فكرة "الصراع". ففي أواخر الستينات وبداية السبعينات، كانت تتصارع الآيديولوجيات الإسلامية والماركسية – بمختلف طبعاتها من الماوية إلى القومية- والوجودية. كانت الثقافة العربية تعمل بلا كلل لكي نكون أصلاء ومعاصرين معاً. تصطرع الآيديولوجيات وتتحارب فوق أجسادنا لتهبنا المعاصرة أو الأصالة. كنا نقرأ ابن خلدون باعتباره ماركسياً، والشيرازي باعتباره داورينياً، ونثق بأن إلحاد سارتر هو نوع من التأليه المضمر الخجول. مع نفسي، كصبي يقرأ بشغف، كنت خلسة أرفع كلمة "صراع" وأضع بدلها كلمة "حوار". أتذكر مرة أنني كنت أقرأ عن "الحلم"، وقد قرأت فرويد وبافلوف وبرجسون. قلت لنفسي: لو اجتمع هؤلاء في مكان واحد، لأطلق كلٌّ منهم النار على الآخر. فهل بإمكاني أن أجمعهم ليجلسوا للحوار. بعد ما يقرب من أربعين سنة على هذه الجلسة التي لم تحدث إلا في خيال صبي مراهق، أشعر بأنني مدين لكلمة "حوار" هذه. والآن اختفت مصطلحات مثل "الجدل" و"الصراع" و"المواجهة"، لكن المبدأ الحواري والنقد التفاعلي وسلالة أخرى من المصطلحات الشبيهة ما زالت تحرك الناس ولم تختف.
* التكوين لديك خلاصة بحث مع الذات لتجد من خلاله حواراً متواصلاً. أين تكمن المباحث المتعددة وبأي إطار تسير؟ خصوصاً إذا كانت تصب في منطقة الموسوعية؟ - هذا سؤال مهم. ولكن ما معنى "التعدد"؟ هل التعدد خطأ أم صواب؟ حتى السبعينات والثمانينات، كان التعدد يوصف بأنه موسوعية. ثم فجأة صار التعدد دليلاً على القصور، ومؤشراً على غياب المنهج. وهنا علينا أن نميز بين الدلالات المتعددة للتعدد نفسه، وبعضها غير موجود في اللغات الأخرى. خذ، مثلاً، نحن نترجم كلمة (Multiculture)، وهو ميدان بحثي جديد لدراسة "التعدد الثقافي" والتعددية الثقافية في المجتمعات المختلفة. وهذا شيء مختلف عن "التعددية" بمعنى "الكثرة" (Plurality). وأعتقد أن علينا التخلي عن ربط التعدد بالموسوعية، وبالتسيب المنهجي معاً. ولكي أبسِّطَ الأشياء، أعطيك مثالاً ملموساً. عندما كنا طلاباً في رافداً أو جدولاً. وقد أهديت كتابي "خزانة الجامعة، كان أساتذتنا يعلموننا أن لا نقول لا أعرف، حتى لو سألك الطالب سؤالاً لا تعرفه، فأجبه عن شيء تعرفه. وعندما درسنا في جامعات أجنبية، فوجئنا أن أكثر العبارات تكراراً لدى الأساتذة هي "لا أعرف". مرة كان يحاضر علينا بروفيسور أسكتلندي كبير حول علاقة اللغة بالثقافة. فوجهت له سؤالاً نظرياً عن علاقة اللغة بالثقافة. أجابني: لا أعرف. عندي أن عبارة (لا أعرف) هنا لا تعني ليست لديَّ فكرة. مطلقاً، فقد سألته سؤالاً في صلب اختصاصه، وهو عالم كبير ومثقف، ولكنها تعني ببساطة: سؤالك هذا يستدعي الخروج من المنهج، وأنا لا أريد أن أخرج عن المنهج. لست أنكر مطلقاً أنني أهتم بقضايا متعددة. بالنسبة إليَّ، لا يعني "التعدد" هنا على الإطلاق أية رغبة بإظهار الموسوعية، والتلويح بغزارة المعرفة النرجسية. فهذا هدف ساذج وغبي. وفي الوقت نفسه، لا أريد أن أحول المنهج إلى "أيقونة" مقدسة، على طريقة أستاذي الأسكتلندي. يعني التعدد عندي ببساطة وجود مشكلات متعددة، والرغبة بحلها جميعاً. نعم، أهتم بقضايا ثقافية متنوعة ومتعددة، في الأدب والتاريخ والفلسفة والحضارة، أي باختصار يجمعها همٌّ واحد، هو العلوم الإنسانية. وحين أُعنى بها، أحاول قدر الإمكان تجنب ركوب التناقض. لا أنظر للمنهج كأيقونة مقدسة، ولا أعتبر نفسي "بطلاً ثقافياً". كل ما في الأمر أن لدي مشكلاتٍ ثقافيةً متنوعة، أحاول ترويضها، بسلوك مداخل متعددة لفهمها والسيطرة عليها.
* في ما أدليت به هناك تقاربات بين الدوائر المعرفية التي تجولت بها .. ما هي أبرز تلك الظواهر التي تأثرت بها وقادتك الى الخوض في "مشكلاتك الثقافية"؟ - في مطلع الثمانينات، قادتني دراستي للغة إلى نظرية حول علاقة اللغة بالفكر. كنت أتصور أن الشعر يختلف عن الفكر المجرد في كونه يعتمد على الاستعارات والمطابقة بين الدال والمدلول، بينما يعتمد الفكر المجرد بين الدال والمدلول. ويختلف الاثنان عن اللغة العلمية باستناد الأخيرة إلى الوقائع الحية المختبرية، المتحققة في الخارج. وبقيت هذه نظرتي باستمرار. لا أعطي لأي حقل معرفي أسبقية أو أفضلية على آخر. فالحقول المعرفية تختلف ولا تتفاضل. عام 2004، ترجمت كتاب "المدونة الكبرى: الكتاب المقدس والأدب" للناقد الكندي نورثروب فراي. ومن الغرابة أنه يقسم علاقة اللغة بالفكر إلى ثلاثة أطوار أو أنظمة، يسميها النظام الشعري أو الاستعاري، والنظام الكنائي أو الفلسفي، والنظام الوصفي أو العلمي. الشبكة العملاقة التي نسميها باللغة. ومنذ ذلك الحين أرضت هذه النظرية تواضعي، وصار بوسعي الحديث عنها باعتبارها نظرية نورثروب فراي في أطوار اللغة الثلاثة. وبالتالي صارت تعطيني مبرراً منهجياً لهذا التنوع. فأنت حين تدرس الفلسفة إنما تدرس نظاماً لغوياً يخلخل العلاقة بين اللغة والفكر. وبالمثل حين تدرس الشعر، فأنت تدرس نظاماً فلسفياً يتلبس لغة ما قبل الكنايات التجريدية.
* اللغة والشعر والفلسفة تشترك ببعضها في أبنية غير متناهية حتى تصبح كياناً قائماً في وحدة غير متناهية. كيف تقرأ ذلك؟ - اللغة جهاز عملاق من الأبنية اللانهائية القائمة على أساس وحدات نهائية صغرى. تتكون اللغة من ذرات كلام صغرى تسمى الأصوات أو الفونيمات، وهذه الأصوات محدودة العدد، نادراً ما تزيد على الثلاثين أو الأربعين في أية لغة من اللغات. ولكن يمكن إعادة ترتيبها وتوزيعها لإنتاج تراكيب غير محدودة ولا نهائية. إنها أشبه بقطع ميكانو يمكن أن تكوِّن منها ما تريد، وتبعثرها وتكون أشياء جديدة أخرى. من حيث علاقة اللغة بالفكر، مرت هذه الشبكة العملاقة بثلاثة أطوار؛ الطور الأول هو الطور الاستعاري، حيث كان الإنسان يستخدم اللغة لا للإشارة إلى الأشياء، بل لصنعها وإيجادها. في هذا الطور، كان تفكير الإنسان شعرياً، يخضع لمبدأ الكلمة وقوة الاسم. حين كان البابلي أو السومري أو الإنسان القديم عموماً يقول كلمة "شجرة"، فهو يخلقها ويوجدها. لأن وجود الشجرة لا يرتبط بالشجرة الفعلية، بل يرتبط بحروف كلمة "شجرة". وهذا هو الشعر بعينه. فالشعر يماهي بين الدال والمدلول ويطابق بينهما. والشاعر – قديماً وحديثاً- يحاول إعادة ترتيب الطبيعة عن طريق إعادة ترتيب اللغة. لأن الطبيعة لديه تكمن في اللغة. يمكنه أن يضع على الشجرة قلباً ينبض، وفي قفصه الصدري عصفوراً. وحين يتحدث الشاعر عن الطبيعة، فهو لا يتحدث عن القوانين الفيزيائية أو المادية في الخارج، بل هو يتحدث عن قوانين اللغة. لأن النظام الاستعاري في اللغة يقوم في الأساس على هذه المطابقة بين الدال اللغوي والمدلول الخارجي، ويجعل مفهوم الشيء تابعاً في وجوده للكلمة. وهذا شيء يختلف تماماً عن النظام الكنائي في الفلسفة، وعن النظام الوصفي في العلم.
* ماذا عن الفلسفة؟ - تزعم المركزية الغربية أن الفلسفة بدأت مع الحكماء السبعة، من طاليس إلى السفسطائيين ثم سقراط. وهذا غير صحيح، بل هذه قراءة استرجاعية لتوطين الفلسفة في اليونان. فالمفكرون ما قبل سقراط لم يكونوا فلاسفة، بل كانوا شعراء وحكماء، يتحدثون بلغة الشعر. مع سقراط اكتشفت الفلسفة اليونانية مفهوم "الشخصية" بمعنى المسؤولية الأخلاقية عن الأفعال الصادرة عن الذات. ومع أفلاطون بدأت تظهر لغة الكناية، بمعنى اكتشاف عالم مجاور للغة تستمد منه اللغة قيمتها الفعلية. وقد أطلق أفلاطون على هذا العالم اسم "المثل" أو "الأفكار" أو "النماذج المعلقة". لكي يوجد الشيء ينبغي أولاً أن يوجد في المثل، ثم بعد ذلك يوجد في اللغة. بعده جاء أرسطو. ولم يكن أرسطو يؤمن بالمثل العقلية المعلقة، بل ذهب إلى أن المثل موجودة في الأشياء نفسها. لكن الأشياء لا توجد إلا إذا وجدت قبل ذلك في المنطق. فالمنطق وليس اللغة هو أساس وجود الأشياء. ويوجد المنطق في العقل الجزئي الفردي، وليس في العقل الكلي الجمعي، كما هو الحال مع أفلاطون. وجاءت الفلسفات الحديثة، وبالذات مع ديكارت والثنائية الديكارتية، فصارت الأشياء توجد في الذات. وهذا هو معنى الكوجيتو الديكارتي: "أنا أفكر إذاً أنا موجود". وفي عصر كانط تململت بدايات العلم الحديث. أدرك كانط أن التفكير لا يستطيع اختراق الطبيعة، فقسمها إلى مظهر وجوهر، أو إلى ظاهرة وشيء في ذاته. وهذا ما جعل مهمة الفلسفة محاولة التملي في المظهر بهدف الوصول إلى الجوهر. في لغة العلم، لم تعد اللغة ولا الذات مصدر وجود الأشياء، بل هي الطبيعة الخارجية. ففي الواقع الخارجي، في الطبيعة أو المختبر، ينبغي أن توجد الأشياء أولاً، ثم توجد بعد ذلك في اللغة أو الذات أو العقل.
* ما هي معايير اختيار النص المترجم لديك؟ - أود أولاً أن أشير إلى أن الترجمة هي عمل ثقافي في الدرجة الأساس. في البداية كنت أختار ترجمة النصوص التي أشعر أنها تخدم مشروعي الشخصي بطريقة ما. وهكذا نقلت إلى العربية عدداً كبيراً من الكتب في علم اللغة والنقد الأدبي والفلسفة وثقافة العراق القديم. وحين رأيت أن المردود المادي لبعض هذه الأعمال شحيح، وأحياناً لا وجود له، لم أعد أترجم إلا النصوص التي يكلفني بها الناشرون. وعلى أية حال، فأنا لا أعتبر نفسي مترجماً، وسأتوقف عن الترجمة عاجلاً أو آجلاً. هناك كتب أحبها، وأشعر أن موضوعها مهم، وتعجبني قراءتها في العربية، فأشرع بنقلها. ومن حيث هي عمل، على المترجم أن يتذكر دائماً أنه مجرد وسيط بين عالمين وليس مؤلفاً. عليه أن يتوارى عن النص فكرياً لصالح مؤلفه، ويحضر بقوة في اللغة. في الترجمة اتفاق غير معلن بين المؤلف والمترجم. تحضر أفكار المؤلف ولغة المترجم، وتغيب أفكار المترجم ولغة المؤلف. وحين نترجم فنحن نقايض الأفكار باللغة. فالترجمة ليست عملاً سلبياً على الإطلاق، بل هي عمل إبداعي مهم. هي تمرين على قبول الآخر، والانفتاح للاستفادة منه، وتعلم لغة الأصوات المتعددة. المترجم الناجح، كالروائي الناجح، من ينسى نفسه ويتوارى لتظهر شخصياته.
* أصدرت كتاباً عن الروائي الليبي إبراهيم الكوني. هل جاء الإصدار نتيجة علاقة شخصية به أو نتيجة بحث عن الطابع المميز لديه؟ وهل تعمم التجربة مع كتاب عرب آخرين؟ - تربطني علاقات صداقة قوية ووثيقة مع بعض الأدباء العرب. وهي صداقات إنسانية أحرص على تنميتها. بعض الناس يسمح لغشاوة الحقد والكراهية أن تغطي على عينيه، ولست من هؤلاء. لي علاقات طيبة ودافئة مع كثير من المثقفين العرب الذين لم يترعرعوا في ثقافة الحقد. وعلاقتي بإبراهيم الكوني من هذا النوع. فهو روائي كبير، وإنسان نبيل، ومبدع رائع. وليس صحيحاً ما كتبه أحد ماسحي الطاولات في ثقافة النهش من أنني كتبت عنه كتاباً، وأخذت منه فلوساً. هذا الصحفي صوَّر أخلاقه. فأنا لم أرَ الكوني في ليبيا على الإطلاق. بعد أن أكملت عنه كتابي "ملحمة الحدود القصوى"، قدمته لإحدى دور النشر الليبية، فرحبوا به، وقالوا لدينا ألف كتاب، وقدرتنا أن ننشر عشرة كتب في السنة. وكان هذا يعني سننشر كتابك بعد مائة سنة. شكرتهم وسحبته، وبعثته إلى صديقي الناشر في بيروت، فأصدره خلال شهرين. وفي الأردن بعد ثلاث سنوات من صدور الكتاب، التقيت بالكوني للمرة الأولى. حينئذ توثقت علاقتنا، والتقينا مراراً، ونحن على اتصال مستمر. وقد أخبرته بما كتبه هذا الشخص، فقال: يجب أن نرفع دعوى عليه، قلت له: وما قيمة الدعوى، إذا كان العراق كوكباً معزولاً له قوانينه الخاصة. أعتقد أن من الخطأ أن نعمم ما يجري في مكان على ما يجري في العالم. وللأسف، حين ينعدم أفق الرحمة في بلد، يتصور أهله أن العالم كله فقد أفق الرحمة والإنسانية.
* لنتحدث عن شخصك كعراقي، خصوصاً ولك رحلة مضنية في المنافي امتدت الى ما يقارب (19) عاماً في المنفى، والغربة لها مخاض صعب وشاق. ماذا تقول عن تلك الرحلة؟ - بالطبع للغربة تأثيرها، وهو تأثير سلبي كبير. والمؤسف ليس الغربة وحدها، فقد يخشوشن جلد المرء ويتعود الغربة، ولا سيما في حالتي. فأنا لم أتمتع بأي حق في الدولة العراقية على الإطلاق. لم أحصل على عمل أو مرتب من الدولة يوماً ما. لم أحصل على بطاقة هوية، وبقيت ممنوعاً من السفر مدة طويلة، وسافرت نهائياً في أول جواز سفر حصلت عليه. المؤسف هو سوء الفهم المتبادل الذي يترتب على الغربة. عشت ثمانية وثلاثين عاماً غريباً في وطني، في حالة شبه استعباد غير معلن، كمجرد مشروع استشهاد في وطن لا حق لك فيه حتى ولو بمجرد الك لم ينشر من كتبي في العراق سوى كراسين صغيرين لم يوزعا. في حين نشرت خارج العراق أكثر من أربعين كتاباً. تخيل مقدار سوء الفهم الذي يترتب على هذه القطيعة. لا أتصور أن أحداً يعرفني في العراق. فمنذ ما يقرب من عشرين سنة، لم أتلق منه ولو رسالة على الإيميل، خارج نطاق الحلقة الضيقة من عائلتي المباشرة. وللأسف، فإن الانطباع العام عن العراق لا يشبه صورة العراق المتألقة حتى الستينات والسبعينات. وفي حالة الثقافة، فإن مصائر المثقفين العراقيين تبعث على الفجيعة بحق من ابن المقفع حتى البريكان. أنت كشخص تستطيع أن تعتاد على الغربة، وتستطيع الانتماء إلى وطن من خيالك لا تتحارب عليه الأحزاب والقبائل. لكنك ستظل تحس دائماً بخيبة حقيقية حين تتذكر أنك تهب عمرك لمارد يريد ابتلاعك كما يبتلع كرونوس أبناءه.
* كيف تقيم قراءتك للمشهد الثقافي العراقي على امتداد الفترة الزمنية الطويلة التي قضيتها خارج العراق؟ - ليست لدي فكرة عن المشهد الثقافي العراقي باستثناء ما تنقله الفضائيات عن تفجير شارع المتنبي وقوافل الجنائز المتجهة الى النجف. وفي المشهد الثقافي العربي لا يوجد تفاوت كبير. الاختلاف في الكم وليس في النوع. وبالتأكيد هناك مثقفون، بعضهم ممتاز جداً، لكن الثقافة بمعناها الإيجابي تتراجع كثيراً. من يصنع الثقافة في العالم العربي هم أبطال الطور الشفوي: المطربون الشعبيون والخطباء ونجوم المنابر الفضائية. والحال أن هؤلاء يعودون بالثقافة الى عصر ما قبل الصناعة. أما المثقفون التنويريون الذين يتطلعون الى المستقبل فأدوارهم شبه غائبه وأماكنهم شاغرة. وعلينا الاعتراف بأن الدول هي التي أرادت هذا المصير البائس للثقافة. فهي قد حصرت الثقافة بالمفهوم الآيدلوجي التبشيري، وألغت البعد النقدي أو اليوتوبي فيها، وحين وصل المشروع الآيديولوجي الى نهايته، حمل الثقافة معه في تابوته. وبسهولة احتلت الفراغ الثقافة الشعبية الشفوية غير النقدية. وما لم تحترم المؤسسات والدول دور المثقف كواحد من صناع رأس المال الرمزي، فلن تقوم للثقافة قائمة. وللأسف فإن نظرة الدول للمثقفين لا تختلف عن نظرة القائد العسكري العثماني للأفندي، أي باعتبارهم أقلية هامشية طفيلية تتمطق بالكلمات الكبيرة. لكننا نعرف أن صناعة الدولة نفسها هي مفهوم ثقافي، وقد يفضي احتقار الثقافة الى تفكك رأس المال الرمزي الذي يقوم عليه المجتمع. وللثقافة جناحان، آيديولوجي ويوتوبي. في النصف الثاني من القرن العشرين، قص جناح اليوتوبيا، وأكرهت الثقافة على الطيران بجناح الأيديولوجيا، وقصت الوقائع هذا الجناح الثاني. ولا يمكن لطائر أن يطير بلا جناحين.
* ماذا عن يوميات سعيد الغانمي قي الغربة؟ - ألزم نفسي بالكتابة والترجمة يومياً ما لا يقل عن عشر ساعات. ومن شأن هذا الاعتكاف الإنتاجي أن يعطيك بعض الغزارة في الإنتاج. لم أفكر أبداً بالتخلي عن صرامتي المعهودة، لكني كنت ألزم نفسي باتباع جدول تنظيمي دقيق. فجأة انفتحت علي شهية الناشرين. صارت تأتيني تكليفات أكثر بكثير من طاقتي. أضع شروطاً صعبة، أو ما أتصوره شروطا صعبة، فيوافقون عليها. في معرض أبو ظبي للكتاب عام 2007 فوجئت بكثرة ما تلقيته من طلبات من الناشرين العرب، بل من الناشرين الأجانب أيضاً. كنت أتصور نفسي إنساناً منسياً معتكفاً في أبعد نقطة في العالم. لي قراء، ولكنهم قليلون، وربما يقرأونني في المستقبل. لكن يبدو أنهم يحيطونني ببعض الأهمية. بالنسبة إليَّ، أعتقد أن تنظيم العمل مهم. وأنا قارئ جيد. لا أعتبر نفسي كاتباً. سأعلن عن بداية مشروعي بعد أول خمسين كتاباً. حينئذ سأرقي نفسي من درجة "قارئ" الى درجة "كاتب". وإن كانت القراءة الإنتاجية تعني لي أكثر مما يعنيه تسويد الصفحات البيض. على أن الشعور بالخيبة يظل يلازمك. فثمة غائب كبير عن المشهد، هو الجمهور العراقي الذي لا تعرف عنه ولا يعرف عنك شيئاً. وجزء كبير من أعمالي يتجه إلى هذا الجمهور. لا أزعم بالطبع أنني أكتب للآخرين. فالكتابة للآخرين هي كتابة آيديولوجية كاذبه. أكتب لكي أتعلم مما أكتبه في الدرجة الأساس. أكتب لكي أفهم العالم. فأنا مدين للتنظيم، أعني تقسيم العمل اليومي الدقيق، في الجزء الأكبر من إنتاجي.
من أعمال سعيد الغانمي - اللغة علماً، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1986. - المعنى والكلمات، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1989. - أقنعة النص، قراءات نقدية في الأدب، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1991. - كتاب الرمل، لبورخس، (ترجمة)، دار منارات، الأردن، 1990. - فلسفة البلاعة، لريتشاردز (ترجمة بالاشتراك مع المرحوم د. ناصر حلاوي)، ط1، بيروت، 1990، ط2، المغرب، 2002. - الكنز التأويل، قراءات في الحكاية العربية، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1993. - اللغة والخطاب الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1991. - السيمياء والتأويل، لشولز (ترجمة)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1993. - العمى والبصيرة، لبول دي مان، (ترجمة)، المجمع الثقافي، الإمارات، 1994. - الصانع، لبورخس، (ترجمة)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1995. - النظرية الأدبية المعاصرة، لسلدن، (ترجمة)، بيروت، 1995. - شعرية التأليف، لأوسبنسكي، (ترجمة بالاشتراك مع د. ناصر حلاوي)، القاهرة، 1999. - الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور، بيروت، 1998. - العمى والبصيرة، بول دي مان، (ترجمة، ط2، مزيدة)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000. - ملحمة الحدود القصوى، المخيال الصحراوي في أدب إبراهيم الكوني، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2000. - منطق الكشف الشعري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1998. - الممارسة النقدية، بيلسي، (ترجمة)، دار المدى، دمشق، 2000. - مائة عام من الفكر النقدي، دار المدى، دمشق، 2000. - نظرية التأويل، بول ريكور، (ترجمة)، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2002. - خزانة الحكايات، المركز الثقافي العربي، بيروت، |