|
|
قراءة في رواية لطفية الدليمي الجديدة سيدات زحل |
|
|
|
|
تاريخ النشر
08/05/2010 06:00 AM
|
|
|
من المفارقات التي قد تحدث في النقد، أنك حين تشرع كقارئ متفحص بالسياحة في خفايا النص، فإنك ستكتشف بعد حين أن بوصلتك النقدية تشير الى غير ما خططتَ وهدفتَ إليه، لتدفعك في مسار آخر مضاد تماما، وهذا ما حدث لي على الاقل وأنا أستطلع فواجع وآلام ( سيدات زحل )، فقد أعددت العدة القرائية الناقدة لاستكناه رزايا سلسلة الحروب والدمار ونشر الموت والجهل والقتل العشوائي والمنظم واستباحة الانسان مادة وروحا في انطلاقة سردية ملحمية آنية تستغور بطون التأريخ ( البغدادي/ العراقي ) ولا عقلانيته في حروبه وفواجعه إنطلاقا من ( بغداد الآن ) التي بدأت منها لطفية الدليمي في روايتها الجديدة ذات البعد الملحمي الواضح، لكنني كما ذكرت، حرفتني بوصلتي نحو اتجاه آخر !!. كنت أظن ( قبل أن أقرأ هذه الرواية ) وبعد أن عرفت مادتها من خلال التنويه بها هنا وهناك، أنها كُتبت بلغة تضاهي المجازر البشرية التي انطوت عليها، لغة قاسية ( دموية ) ليس لها علاقة بالحياة والأمل والحب والخير من بعيد أو قريب، وحدست أن لطفية الدليمي التي عودتنا على جمالياتها اللغوية الباذخة والخاصة بها في معظم ما أصدرته على مدى عقود مضت، ستخرج ( في روايتها هذه ) عن فضائها الجمالي المفعم بكل ما هو انساني مدهش وعميق وبالغ في رقته، وظننت أنها تخلت عن الامساك بذلك السر الموسيقي الرهيف وهي تدبّج جملتها السردية الساخنة التي تغصّ بمعاني الجمال واهابه الأخّاذ، إذ وصفها جبرا ابراهيم جبرا قائلا ( لقد أمسكتْ لطفية بالسر، لأن نصوصها تحفل بالموسيقى والجمال وتستحضر الأزمنة بسلاسة فيوض موسيقية ). لكن الذي حدث مع مجسات التلقي خاصتي، غير ذلك تماما، فقد نُسجت ( سيدات زحل ) باللغة نفسها ولكن على نحو مضاعف، إنها لغة لطفية ذات الهوية الموسيقية التي لا تُمنَح لغيرها قط، وهنا لا مناص من القول بأن بعض المعنيين في نقد الشعر العربي يذهب الى قطعية توافر ( هزة الروح ) التي لابد أن تتمخض عنها القصيدة بأشكالها المتعددة وفي حال حدوث هذه الهزة لدى المتلقي، فإننا يمكن أن نمنح تلك القصيدة هوية الانتماء الى الشعر والعكس يصح بطبيعة الحال. ولكن ماذا لو توافرت هذه الهزة الشعرية في عمل روائي طويل يشي بانتمائه الى السرد الملحمي كما هو الحال مع ( سيدات زحل ) ؟ وماذا لو أنك كقارئ ستعاني ( الاهتزاز ) مع كل صفحة تمر عليك ؟، أ يكون من الصعب تخيّل ذلك ؟ ثم كيف سيعيش القارئ مع عمل روائي ملحمي يمتد على مئات الصفحات وهو يعاني من عَبَرات شعورية ناتجة عن هزات متلاحقة تبذرها تربة التأريخ المسمّدة بفداحة الواقع ؟ أ يمكننا تخيّل ذلك ؟ وأي ذاكرة يمكنها أن تحتوي فواجع مئات بل آلاف السنين ومئات الآلاف من البشر وملايين الحوادث المتقافزة على شرفات التأريخ الطاعن والطازج في آن. لقد أخذتنا هذه الرواية الملحمية المسمّاة ( سيدات زحل ) في رحلات ضخمة بكمّها ونوعها، منطلقة من واقع لحظوي شديد التكثيف تدعمه رؤى تأريخية معبأة بالصراع الانساني المرير، إننا ازاء ( حرب تمشي على قدمين ) كما وصفتها ( حياة البابلي ) بطلة الرواية المركزية، تُرى على أية أرض سارت هذه الحرب ؟ تقول حياة البابلي أن أرض هذه الحرب هي ( بغداد والتأريخ معا ) إذن هي سلسلة من الحروب المتوالدة في رحم التأريخ، لكننا سوف نتساءل كقراء، متى وُلدت وهل هي إبنة التأريخ الحاضر أم المنظور أم الموغل في شعاب الزمن الماضي ؟ ويأتينا الجواب عبر مئات الصفحات، إنها إبنة التأريخ كله، وهكذا تكون الرؤية الراصدة وليدة اللحظة الآنية لكنها تخترق مئات السواتر والحُجب لكي تقدم لنا ملحمة ( الموت والدمار ) المتشح بالحب والجمال حتى النخاع. تبدأ هذه الرواية بالتيه في زمن الحرائق والموت، فحياة البابلي هذه الحافظة النموذجية التي تسرد لنا تأريخا عائليا جمعيا يحفل بفواجع بغداد والعراق عموما، ليست متيقنة من ذاتها، فهي تتشظى في نساء أخريات كآسيا كنعان وزبيدة التميمية وفتنة وغيرها، ويقفز هذا الوهم ( الحقيقي ) الى الحبيب الحاضر الغائب ( ناجي الحجالي ) الذي يتلاشى في أمواج العدم والقتل والمنافي ومطاردات الموت اليومية ثم يتجسد في لحظات الخلوة بسرداب الخوف والرؤى ومرايا التأريخ الحيّة أبدا، فيبدأ المتلقي رحلة التيه مع الساردة المركزية ( حياة البابلي ) لتكويه لغتها التي تنطوي على تناقضات وتقاطعات لا حصر لها، فهي لغة الحب والجمال والحقيقة، وهي لغة الخوف والموت والكوارث التي تستفرد بالنساء الوحيدات المقيمات في بيت معرَّض للانتهاك والسطو والاغتصاب في كل لحظة، وهي أيضا لغة الحزانى المستوحدين حين يغيب كل شيء جميل وتتصحّر الحياة وتأفل على حين غرة، وهي اللغة التي لم تستح قط من عرض الوقائع بما يليق بها من خزي وعار حين يُقدم أحد أشباه الرجال لينال من جثة إمرأة أسقطها انفجار مباغت ولم يبق في جسدها سوى ذبالة قد تنطفئ في أية لحظة، ومع هذا السيل المتدفق من الآلام والاستباحات الموغلة بالمواجع والفواجع معا، يمكنك كقارئ أن تستشعر نسيم اللغة وجمالها العذب وصفاءها المذهل، فتُسعد وأنت في لجة الموت !! حيث تمنحك اللغة أسرارها وصدقها ونقاءها المشرق لدرجة أنها تستحيل الى صور حيّة مغسولة ومطهرة من أدران الكذب تماما. ولدينا شواهد شاخصة تؤكد هذا المنحى الفني برسوخ بالغ، كما ورد ذلك في اللغة التي هيكلت (كتاب البنات/ ص173) بقالب لغوي يختلف عن الكراريس الاخرى التي حفلت بها (سيدات زحل)، أما اللغة التي وسمت (كتاب الشيخ قيدار/235) فإنها صيغت بضمائر عدة وتجلت جمالياتها الى الدرجة التي دفعت (حياة البابلي) نفسها بأن تعلن ذلك وكأنها تريد أن تنبّه الى طبيعة الهوية وتشكلاتها من خلال تنقل لغة الشيخ قيدار بين ضمائر الغائب والمخاطَب والمتكلم، لنقرأ معا ماذا قالت حياة البابلي عن لغة كتاب الشيخ قيدار هذا الرجل الصوفي الزاهد المحب للحياة والجمال على نحو لافت: (كان ينظر الى نفسه بعين ثالثة وربما بعيون كثر، ويكتب عنها ما يحتمل أن يراه الآخرون فيه، قاومت انفعالي واحتشاد روحي بالفضول والاشفاق مما سأقرأ، وتواثب شيء ما في داخلي، شيء لا هو بالفرح المباغت ولا بالبهجة التي تفجرها في الروح قراءة كتاب ممتع، شيء مختلف تماما، دفء لطيف ونوع من إثارة لم أعهدها، تناهت إلي معها أصوات طيور، تغريد شجي وهديل أسيان، حتى أنني سمعت رقرقة ماء في نُهير وتقاسيم من مقام النهاوند على العود ...) ص237. لقد أسست الكاتبة لطفية الدليمي نقطة ارتكاز راهنة ينطلق منها السرد الآني، وكان منطلقها سرداب الرؤى المشيّد في أسفل البيت والذي يمثل ذاكرة التأريخ النابهة ومستودع ارواح عائلة حياة البابلي الذين طالهم الموت جميعا ظلما وزورا وبهتانا، فهو بؤرة السرد في لحظته الحاضرة وهو حاضنة التأريخ وما يشع به من حروب ومجاعات وظلم واضطهاد منذ آلاف السنين حيث الأساطير السومرية والآشورية وغيرها تأخذ حصتها أيضا، وحيث التأريخ المنظور الذي يضج بكوارث القتل السياسي المجحف، ولعلنا سنكتشف مرور الشخصية المركزية في جميع المحطات الهامة من تأريخ العراق، لكن التكثيف الأعظم كان يتركز في عرض فداحة الحاضر، حيث المجازر البشعة والتغييب المقزز الذي لحق بأفراد عائلة ( حياة البابلي ) إبتدءاً من الشيخ قيدار عمها، وأبيها ( عدنان ) وأمها بهيجة وأخويها المعدوم (ماجد) و (مهند) الذي يسمى شهيد حرب وطليقها المخصي بمبضع السلطة ( حازم ) وليس انتهاء بشخصيات أخرى لا تمت لها بصلة قرابة كالفتاة ( لمى ) التي انتحرت بسبب رهبة الفراغ الذي خلفه غياب صديقتها شروق وتزايد حدة الخوف والموت والانفجارات والمداهمات اليومية التي تحدث في حي ( الداوودي ) وغيره من أماكن بغداد المستباحة بقوات الاحتلال وأصحاب اللحى والدشاديش القصيرة وعصابات القتل بحسب الفتاوى التكفيرية وغيرها. في مشاهد مكثفة كهذه، كيف يمكن للغة السردية أن تسحبك الى تبريرات جمالية تنظّف فداحة الوقائع من ادرانها ؟، لكن هذا ما يحصل فعلا، من خلال عناصر جمالية متعددة تدخل في التركيب اللغوي والوصفي للغة الكاتبة الدليمي، كما حدث مع تخليد بعض الشخصيات في ذاكرة السرد، وسأجزم أن أحدا لا يستطيع ( من قراء هذه الرواية ) أن ينسى شخصية ( حامد أبو الطيور ) الذي بترت السلطة السياسية لسانه لأنه تجرأ وتطاول على رأسها آنذاك تلميحا خلال إعطائه الحصة التدريسية لطلابه، هذه الشخصية المثالية بكل شيء إبتداءً بالحرص على بيوت الحي من مداهمات القتلة ليلا حيث يقوم بحراستها وتوفير الوقود لمولدات الكهرباء بطرق عجيبة لكي تضاء الحدائق ليلا ما يمنع من تسلل المجرمين الى البيوت وليس انتهاء بإنقاذه ( لحياة البابلي ) من موت وشيك تعرضت له اثر انفجار مباغت قرب المكتبة التي هدموها وأحرقوا جميع الكتب التي تحتوي عليها، لكن هذه الوقائع الكارثية التي تبدو كصور تتحرك فوق شاشة بيضاء، رسمتها لغة أمسكت بالسر، وتمكنت أن تمنح المتلقي دفقا جماليا ودلاليا متواصلا، حتى حين يخوض في لجج الموت والنار والتجاوز على الحقوق الانسانية بأبشع الأساليب والصور. ومع أن المسار الفني لرواية ( سيدات زحل ) يتوشح بملامح السيرة الذاتية لحياة البابلي ويأخذ من أحداث الواقع مرتكزا رئيسا له، إلا أن الإطلالات المتواصلة والعميقة على محطات التأريخ المأساوية، أعطتها نفسا ملحميا يزاوج بين أبعاد الزمن الثلاثة ويستمد حضوره الطاغي منها، فلا تكتفي الكاتبة برصدها لوقائع الموت الراهن ولا يكفيها النبش في رفات الأساطير ووقائع التأريخ المثبتة في بطونه، بل تتطلع في وقفة إنسانية أجمل ما يكون الى حقيقة الحب العظيم القادم والذي لم يندثر ولا ينهزم قط، لتذكرنا بالجملة الخالدة التي أطلقتها الكاتبة سيمون دو بوفوار في إحدى رواياتها حين قالت لحبيبها ( بين ذراعيك عرفت الحب العميق الذي يتوحد فيه القلب والروح والجسد ). فحياة البابلي لم تيأس من الحب وإن لم تفز بحبيبها ناجي الحجالي، بل آمنت به كونه المصدّ الذي سيقصم ظهر الشرور، فانطلقت تبشر بالحب القادم الذي سيبزغ لا ريب من بين رماد الحرائق التي شوهت قلب بغداد وجسدها وروحها معا، وإذا لم يكن اليوم فغدا سيحدث ذلك، وهكذا بقيت ( حياة البابلي ) مترددة من دعوة عمها الشيخ قيدار لها بالالتحاق به في نهاية الرواية ولم تجبه بشيء، لأن أملها بالحب لا يزال فاعلا. ولهذا تعمّقت لغة الكاتبة لطفية الدليمي في روايتها هذه أكثر فأكثر نحو جماليات تنحصر بها، فهي في قصصها ورواياتها السابقات كانت تتميز بلغة ذات جماليات مميزة تتسق مع المضمون المعالَج وتتآلف معه بنبرة موسيقية مميزة، أما ما يُكتب لها في تجربتها الجديدة هذه فيتمثل فنيا بقدرتها على مضاعفة جمال لغتها التي امتلكت السر (الموسيقي في الكتابة) هذا من جانب، وتناولها لمضامين لا تتسق مع لغة الجمال ولا مع جمال اللغة من جانب آخر، ومن الامثلة على ذلك، أن الكاتبة دوّنت بعض صفحاتها بلغة الاطفال عندما كان المنحى الفني يتطلب ذلك، ثم بلغة بسطاء الناس في أماكن أخرى من نسيج السرد، بمعنى أنها لا تحفل بجزالة المفردة وحسها المادي الساخن كما يحدث في المنحى (الايروسي) الذي تعتمده كثير من السرودات من أجل أن تدعم جمالياتها، فكان همّ الكاتبة مزدوجا، بين أن تعرض مأساتنا الفاحشة بوضوح لا يقبل التردد والمراءاة والحياء الأخرق، وبين أن تمسك بسمات لغة تنتسب الى لطفية الدليمي حصرا وتسجل لها هويتها الخاصة وجمالياتها الخاصة أيضا، وهي تقدم لقرائها ملحمة روائية لا تزال مفتوحة الآفاق لأنها لا زالت تتساءل -كما يبدو لي ذلك على الأقل- أن الحرب الأخيرة التي كان الهدف منها تحقيق السلم لنا فشلت في ذلك حتى الآن، لتذكرنا مرة أخرى بقول لجان بول سارتر قاله بعد أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها حين قال لقد (انتهت الحرب ولم يولد السلم بعد). |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ علي حسين عبيد
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|