|
|
الربيع المحزن |
|
|
|
|
تاريخ النشر
06/05/2010 06:00 AM
|
|
|
كنت أتجول في قسم آثار بلاد الرافدين في المتحف البريطاني في لندن عندما توقفت في قاعة الجداريات الاشورية لنمرود والتي تعود إلى 5000 سنة قبل الميلاد. تأملت في التناغم والفن والابداع المنقطع النظير في التنسيق النحتي بين الحقيقة للاشخاص الذين حكموا تلك البلاد مثل أشور ناصر بال والصورة التي تعكس اوجه هذه الحقيقة. أدهشني منظر تتويج الملك اشور ناصر بال ملكا على بلاد عرفت بانها أولى الحضارات في هذا العالم...أدهشني هذا الفن الرفيع في نحت الصخور في ذلك الزمان فانهم فعلا لم يتركوا شيئا للصدفة لان الصدفة ، على ما يبدو، لم تكن معروفة لهم و انهم ارادوا ان يرسّخوا ويجسّدوا قوة دولتهم وشأنهم الرفيع وميزتهم بين كل الدول على هذه الجداريات. كيف ابتكروا تلك العربات التي تجرها الخيول في الحرب وكيف استطاعوا أن ينظموا دولة باحكام وقوانين ويجيدون الكتابة والقراءة وابتكروا فنون الزراعة والري وتوزيع الانتاج الزراعي؟ كيف استطاعوا أن يبتكروا كل هذا الفن المعماري وكم من الوقت إستغرق هذا الانجاز المذهل في نحت الصخور مثل البازلت والغرانيت وما هي الالات والتقنيات التي استخدموها في النحت والكتابة على هذه الصخور القوية؟ كم من الوقت إحتاجوا يا ترى كي يبنوا بوابة من جذوع الاشجار ويزينونها بصفائح أفقية من النحاس الخالص ثم يرسموا عليه مسلسل وقائع حياتهم اليومية في ظل النزاعات المستديمة بين دولة اشور واحقاد الدول المجاورة؟ كنت اتجول ذهابا وأيابا في هذا الدهليز المملوء بالجداريات وهي تتحدث عن قصص وكأني أعيشها الان وفي هذه اللحظة وارسم لنفسي صورة مقربة لتلك الحياة بفعل قرابة الفن المنحوت على الصخر ورائحته العتيقة من الواقع الحياتي لتلك الحقبة كأن ثمّةَ رسالة تنبعث من بين جدران نمرود: أنظروا أيها المغفلون..فقد كنا متحضرين ومدائننا شاهدة تشخص أمامكم على هذه الجدران..أما انتم فأنكم لن ترتقوا لمصافنا أبدا!! شعرت بالحياء، بالخجل..إمتلكني الصمت..تحركت إلى نهاية الدهليز ثم انحنيت اجلالا واحتراما للاجداد المخلصين والمحبين لارضهم المعطاء..بلاد ما بين النهرين. حزنت كثيرا وكادت الدموع تتدفق من عيني: هذه هي بلادي الحقيقية لان شعوبها أسسوا حضارات ريادية متقدمة ومُدناً تشهد لها كل متاحف العالم وأنظمة قد تكون شمولية طاغية ، بالتاكيد والجداريات تروي ملاحم الغزو والحرب والاحتلال وأسر شعوب المناطق المجاورة. لكن تلك بلادي انتصرت في إنجازاتها وانتصرت في إبتكاراتها في الهندسة والمعمار والانظمة المالية والاقتصادية وفنون الرسم وإستخدام الالوان بتناسق وتنظيم رائع. فشتّان ما بين 5000 سنة قبل الميلاد واليوم الراهن الذي يُفترضُ فيه أنْ تكونَ بلاد الرافدين مزدهرة بثقافاتها المتعددة, بقوتها الاقتصادية، بحنكة سياسييها وقادتها، بقوانينها المنصفة، تفتخر بإنجازاتها العملاقة في شتى ميادين الحياة. تركت قاعة بلاد الرافدين مارّةً بتمثالي الثور المجنح لاقف امامهما شاكرة الحكومة البريطانية و "أبو ناجي" على حفاظهم وأعتنائهم بهذه التركة الثمينة والنادرة. لا أحدَ يعلم ما كان سيحدث لهذه الجداريات الاثرية النادرة من مصير أسود مجهول لوبقيت في دولة العراق الحديث ما بين 1921 وحتى 2010. قفلت عائدة إلى الدار وقد أمضيتُ أحد أسعد أوقات حياتي في هذا المتحف المليء بتاريخ العالم وحضاراته المتنوعة. تمنيت لو يتوصل سياسيونا النائمون إلى إنجاز فريد قد يفرح القلوب اليائسة وهو تشكيل الحكومة المقبلة. لكني أفاجأ عند وصولي إلى المنزل بأعلان التحالف بين المالكي والحكيم. لقد تملكني اليأس والحزن لاني ادركت حجم الكارثة والمؤامرة وادركت باننا قد عدنا إلى مربع 2005 من جديد، مربع الطائفية وبث الاحقاد واستمرار مسلسل الفساد وسرقة المال العام بلا حياء او ريبة او حتى سلطان القانون الجائر!! يا لها من كارثة تتمثل بإستمرار نظام التحاصص والتخلف والامية وفقدان الثقافة النيرة ومصادرة الحريات لاربع سنوات قادمة. يا له من ربيع محزن، يا له من ربيع مُحزن !! نعم شتان ما بين عَظَمة وشموخ بلاد الرافدين وجداريات آشور واكد وبابل وسومر والحضارات الاولى وبين مهالك ومهازل دولة العراق أل "حديث"... فأية جدران في هذا الوطن المنكوب ستروي كوارث الحاضر الاليم والمستقبل المجهول؟ |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ قرطبة الظاهر
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|