إذا كان شعر حسين مردان أثار منذ أواخر اربعينات القرن الماضي، وفي خمسيناته، إشكاليات أخلاقية - اجتماعية أكثر منها فنية، فإن نقده الأدبي اثار إشكاليات من نوع آخر، منها ما يتصل بالابداع والعمل الابداعي، ومنها ما يتصل بالمبدع موقفاً اجتماعياً في عصره ورؤية فنية لأصول الابداع في هذا العصر. وجاء تحديه «الأسماء الكبيرة» يومها في حاضر الابداع، شعراً وقصة وفناً، والرفض النقدي لبعض ما قدمت، أمراً لم يكن يجرؤ على الإقدام عليه إلا شاعر - ناقد مثله امتاز، يومها، بمواقفه الجريئة ولغته التي جمعت بين «الأحكام النقدية» القاطعة و «روح التهكم» التي كثيراً ما ذهبت به الى السخرية الجارحة ممن كتب عنهم، ومن الكثير مما كان يقال وينشر.
وفي أعماله النثرية، التي جمعت بعضاً مما كتب في سنوات الخمسينات (دار الشؤون الثقافية - بغداد:2010) يتجلى الشاعر - الناقد حسين مردان في صورتين: صورة المثقف العصري المجدد الذي يتابع حركات الأدب والفن مسكوناً بهاجس الابداع الحقيقي... وصورة الناقد صاحب النظرة الحصيفة الى الابداع، وبخاصة الشعر منه. وإذا كان يبدو في الصورة الأولى مثقفاً جاداً تعنيه المعرفة في أصولها وفي فتوحاتها الجديدة، فإنه في الصورة الثانية كثيراً ما يبدو ساخراً، متهكماً من صورة الابداع التي تأتيه على غير ما يأمل ويريد للإبداع أن يكون، ولا يهمه أن يكون من يتصدى له بمثل هذه اللغة اسماً كبيراً مثل الشاعر محمد مهدي الجواهري، وآخر مجدداً من طراز عبدالوهاب البياتي!
فهو إذ يعلق ناقداً قصيدة الجواهري «اللاجئة في العيد» لا يجد بداً من إعادة «موضوعها»، بسخرية مبطنة، الى السياسة وعمل الهيئات الدولية والمؤتمرات أكثر من إعادته الى الشعر، مقرراً وباتاً بأن موضوعها بعيد عن الشعر، وملاحظاً على الجواهري الشاعر أنه وهو الذي «يخلق من كل معضلة اجتماعية أو أزمة سياسية موضوعاً لقصيدة ناجحة»، يجده في قصيدته هذه قد سقط «سقوطاً شنيعاً أزعج حتى المعجبين به والمتحمسين لنبوغه». ويذهب في ما هو أبعد من هذا حين يجد أن شعره في هذا المجال «يعتمد بصورة لمّاحة على إثارة الشعور الوطني أكثر مما يعتمد على عنصر الفن والابداع»، ليقول إن قصيدته هذه هي «تحت مستوى النقد الحديث للشعر»، مؤكداً أن اخفاقه فيها جاء من عدم الغوص في أعماق هذه «اللاجئة» لعكس معاناتها، آخذاً عليه اكتفاءه بالدوران حولها، معيداً، في الوقت ذاته، اتهام طه حسين للجواهري بأنه «لا يعرف ما هو التداعي الذهني والى أي مدى تبلغ أهميته في الشعر الحديث»، وإن كان، كما يعلن، لا يثق بآراء طه حسين وإن آمن به أديباً كبيراً!
ويشبه حسين مردان أسلوب الجواهري في الشعر بـ «الأسلوب الصخري»، وإن وجد زيارته التي قام بها الى باريس قد أضفت عليه شيئاً من الإشراق لمسايرة النهضة الشعرية الحديثة. أما وقد وجد في القصيدة عبارة من قبيل «فحمة الليل»، فإن ذلك لن من يمنعه من السخرية ثانية مشبّهاً العبارة بكونها «قديمة كتمثال بوذا في المعابد الهندية المظلمة».
ويأتي بالقرائن والشواهد المماثلة، فيجد شاعراً مثل الياس أبو شبكة الذي «ارتفع بديوانه «أفاعي الفردوس» الى السماء، سرعان ما هبط بديوانه «نداء القلب» الى اقصى منخفض في الأرض، وسيظل أثر التراب على جبينه الى الأبد». ومثله يجد «الجواهري لا يكاد يرتفع حتى يقع...».
ويبلغ به التهكم أعلى مدياته، إذ يقول: إن «الجواهري في العراق - قبل اليوم - كـ (بيكاسو) في باريس - مع الفارق بالطبع - فلو رسم بيكاسو نعجة وكتب تحت أسفل الصورة «غزال الرنة» لما استطاع نقده شخص، وظل يحتفظ باحترام الناس. وقد ظل الجواهري يتمتع بهذه الشهرة الأسطورية مدة طويلة حتى اصبح وقد عرف كل الطرق التي تؤدي الى انتزاع (إعجاب الجماهير)...». واصفاً شعره، في هذه القصيدة وأشباهها، بـ «المتحجر كعظام الحيوانات البائدة تحت طبقات الأرض السفلى».
إذا ما عاد الى الجواهري ثانية من بعد خمسة اعوام على مقالته هذه (1957)، وقد أصدر ديوانه فأهداه نسخة منه مشفوعة بعبارات المحبة، ليجد فيه قصيدة هجائية عنوانها «الناقدون»، فيقول في هذه المرة إن «الشاعر الكبير» قد نظمها فيه بالذات، «فأنا الشاعر العراقي الوحيد الذي صمد أمام شخصية الجواهري... وقد أثاره وأغضبه نقدي له في حينه»، عاداً القصيدة تعبيراً قديماً عن ذلك الغضب».
وإذا بلغ الموقف النقدي من الشاعر عبدالوهاب البياتي في ديوانه «أباريق مهشمة» سيتساءل عما إذا كان البياتي قد استطاع «أن يقدم لنا قصيدة واحدة في ديوانه أباريق مهشمة ذات هيكل كامل البناء؟» مجيباً بالنفي. فقد وجد هذه القصائد «مهشمة الهيكل»، عازياً السبب في هذا «الى اهتمام الشاعر بعواطفه أكثر من اهتمامه بالعمل الفني».
ويتوقف عند التكرار مفهوماً وحالة شعرية فيجد فيه «عنصراً حيوياً في الشعر الحديث»،إلا أنه، كما يضيف موضحاً، لا يعني «تكرار الصورة بطريقة ميكانيكية جامدة كما يفعل السيد عبدالوهاب...». إذ يجده «لا يكرر الصورة باعتبارها (مركز الثقل) في القصيدة وإنما كشيء خارجي»، وهو ما يرفضه نقدياً.
ويأخذ عليه (تقليد الآخرين)، متخذاً من ناظم حكمت المثل الذي يجد البياتي يقلده ويقتفي خطاه، ممثلاً على هذا التقليد بطريقة تهكمية يجلو من خلالها فوارق التجربة، حياة ومعاناة وشعراً، بين الشاعر ومقلّده. فإذا ما جاء الى (الكلمة) وجد أن من أبرز عيوب البياتي فيها «عدم قدرته على اختيار الكلمة وإبراز حيويتها». ويجيء بالشاهد من الكلمات التي يجدها تتدافع في ما بينها في قصيدة البياتي «دون أن تعرف الى أين تتجه»، ليضيف ساخراً: «ولولا هذا (الواو) اللعين الذي يستعمله السيد عبدالوهاب في قصائده، كما يستعمل الصياد غصن الصفصاف ليشنق فيه السمك، لقفزت من فوق الورق»، متهماً إياه، وناسباً التهمة الى مصدرها: الشاعران بدر شاكر السياب وكاظم جواد، بأنه يدفن رأسه «في كتب الشعراء المشهورين يستمد من أفكارهم وفنهم شيئاً يبني عليه قصيدة جديدة»... وشاهده على ذلك ما يجده في قصائده من أوصاف غريبة وصور «لا تمت الى محيطنا ولا ترتبط بأرضنا، كطواحين الهواء، وعواء المدافع في الصقيع...».
أما «طيبة»، ديوان الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد، فيجد أن شاعره «شاعر موهوب»، وقد لمس «هذه الحقيقة في شعره القديم»، إلا أنه يجد، كما يجده في هذا الديوان، أن «موهبته هذه لا تتلاءم مع نظم الشعر الحر. فقصائده في هذه المجموعة لا تختلف كثيراً عن الأحاديث التي نسمعها في مقاهي بغداد».
ولم يسلم من مشرطه هذا فنان مثل جواد سليم، كما لم يسلم عالم اجتماع مثل علي الوردي من ان يصفه بأنه «يغمس القلم في رأسه، أو يضع رأسه على القلم ثم يطلق لخياله العنان فتحمله العواطف المتناقضة والاستجابات المختلفة الى كل واد، ويقدم لنا أحكاماً مطلقة لا يمكن أن تصمد أمام الجدل العلمي».
هذا الموقف من الشعر، وفي الشعر، الذي يصدر عنه حسين مردان في كتاباته النقدية هذه تتوضح معالمه النقدية أكثر في المقدمة التي كان كتبها لديوانه «الأرجوحة هادئة الحبال» الصادرة عام 1957، والتي تضمنها الكتاب في ما تضمن من مقالات، فهي تكشف عن نظرته الى الشعر، والى الفن بعامة، في ما اصدر عنه من مواقف وآراء لعلها الأكثر جرأة في زمنها، ولم يكن سهلاً على كاتب سواه أن يقولها في من قالها فيهم. فهو يرى، في تلك المقدمة، «أن تحطيم القافية الواحدة في الشعر الحديث لم يستطع إنقاذ الشعر من حوض الصمغ الذي يغرق فيه، كما ان تجزئة التفاعيل وتقطيعها، ولو أنه قفز بالشعر العربي قفزة جبارة الى الأمام، لم يستطع كذلك أن يبتر أو يقتلع السلاء من أغصانه الخضر». كما يجد أن ذلك «الرنين الرتيب الذي يشوش صفاء المخيلة ويكتم نبضات الروح وحركتها ويشوه طراوة الخيال وألوانه التي لا تحتمل مطلقاً الضغط أو التحديد» هو «العقبة الوحيدة التي تقف امام اندفاع الشعر العربي الى الذروة!»... كما يجد «أن الوزن لا يشل الخيال ويثقل ريش أجنحته ويعطلها عن الرفيف بحرية، ويمنع تدفق القريحة فيقطع انهمار الشلال العاطفي فحسب، بل هو يغلق بوجه الشاعر «النوافذ السحرية» المطلة على عالمه الداخلي»، مؤكداً الكلمة ودورها فيجد أن من طريقة استعمالنا لها «ينبثق أسلوبنا الفني في التعبير»، لا سيما أن عصرنا، بحسب ما كان يراه، «هو عصر كشف وتعبير».
ومع انه كان أن اتخذ حياته بما سماه بـ «الفلسفة السوداء» ومعناها: أنه «ليس في حياة الانسان جمال ولا سعادة، وإنما حياة الانسان كلها مجموعة من اللذات المشوهة، وأن أعمق اللذائذ التي نبحث عنها مغمورة في القبح والتعب»، فإنه كان يرى ويقول إنه إذا «اردنا أن نقدم للقراء أدباً عميقاً واضحاً ولا يأخذ من حياتهم وقتاً طويلاً فعلينا ان نتقن طريقة التركيز في التعبير الفني».
ويتجلى الجانب الشخصي (السير - ذاتي) في غير مقالة من مقالات الكتاب، وأظهرها «اعترافاً» ما يعود الى حياته الأولى. وفي ما كتبه عام 1952 تحت عنوان «عزيزتي فلانة» نجده يعترف بأن حياته كلها كانت «سلسلة متصلة الحلقات من العبث المنهك»، وأنه «مولع بالبحث عن المستحيل». وتهيمن عليه روح بودليرية واضحة في هذا الموقف أو ذاك، كأن نجده يقول ويعلن القول: «إن الشيطان يولد معنا، وبموتنا تنتهي مسراتنا». وقد كان كذلك! |