|
|
مدى الحياة؟ |
|
|
|
|
تاريخ النشر
25/04/2010 06:00 AM
|
|
|
في الظاهر، الفكر (أو التفكير) العربي لا يعترف بالديمومة. فالدولة فيه مشتقة من فعل (دَوَّل) الذي يفيد التبدل والتقلب، على عكس الفكر الغربي، الذي اشتق تعبير الدولة من فعل او حال يدل على ديمومة السكون والاستقرار. والعربي عموماً لا يقبل بزواج ابدي، على عكس الغربي المسيحي (قبل ظهور البروتستانتية) الذي ترى كنيسته في القران عقداً لا ينتهي إلا في القبر. وما من تأبيدة، على قول المصريين، الا للجرائم الكبرى (المخدرات مثلاً). لكن السياسيين اصيبوا بالعدوى. فتحول «الحكم المؤبد» من القضاء الى السياسة، وحكم الرؤساء على انفسهم، عن طواعية، بالبقاء في الكرسي غلماناً وشيوخاً مخلدين، وقبلوا بزواج كاثوليكي من صولجان السلطة، وخزائن قارون. يحصل هذا في بلد مثل العراق. شهد خلال العهد الملكي نحو اربعين وزارة، وخلال العهد الجمهوري اربعة انقلابات ناجحة في عقد واحد. في الحقبة الاولى تعلم العراقيون قانون العرب القديم ان الدولة تداول، بالرضى والقبول، ثم تعلموا خلال الحقبة الثانية ان الدولة تداول بالسلاح. وما من رئاسة تأتي الا على اجداث رئاسة سابقة. اليوم لدينا رئيسان لا يزالان على قيد الحياة. وثلاثة رؤساء وزراء أحياء يرزقون. وهذه نعمة ما لم تدغدغ احلام «التأبيدة» بعض الرؤوس. ولعلها تدغدغ. فالوجوه المربدة والتصريحات النارية تشي بما ينطق بمجلدات عن هذا الهوس بالبقاء على الكراسي، وتلك اللوعة في الخروج من سدة الحكم. القبول بالتداول كقاعدة مثلى شاق على الجميع، لكأنهم ولدوا رؤساء وزعماء، يوقعون المراسيم وهم في القماط. فلينظروا قليلاً من حولهم. دوكليرك رئيس جمهورية جنوب افريقيا، يتنازل عن الرئاسة في انتخابات عامة ليعمل، بعدئذ، نائباً لسجينه السابق مانديلا، زعيم الأفارقة الاسطوري. ولينظروا ايضاً الى مانديلا نفسه: دورة رئاسية واحدة، واعتذر، ليمضي حياته في سكينة روحية عميقة بعدما حقق صبوته الكبرى: مساواة الأعراق. فالبشر، في الثقافة الكاثوليكية السائدة في جنوب افريقيا، هم ابناء الله، والبشر في الثقافة الاسلامية عبيد الله. والمآل واحد، بالبنوة والعبودية: الكل سواسية. الابيض يتنازل للأسود عن رضا واقتناع، بديلاً من الاحتراب. الابيض عندنا لا يتنازل للأبيض، والشيعي لا يتنازل للشيعي، ناهيك عن الأضداد، لوناً وديناً او مذهباً.ما سرّ التكالب على المقعد الوثير؟ لا سر على الاطلاق. المناصب الرسمية في جلّ بقاع الارض محض وظيفة. بل ان رواتب الوزراء والرؤساء اقل بكثير من رواتب مديري الشركات. زوجة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، محامية شهيرة، بدخل سنوي يناهز 300 الف جنيه استرليني، اما رئيس الوزراء فيتقاضى (قبل العلاوة الاخيرة) 80 الف جنيه سنوياً. ويضطر بعض الخبراء من كبار رجال الاعمال الى التضحية بمداخيلهم العالية في القطاع الخاص حين يقبلون استيزاراً براتب لا يزيد احياناً عن ربع ما كانوا يحصلون عليه. الشغف بالسياسة هو الحافز الاكبر. لكنه مفقود ومفتقد في عالمنا الشحيح. فالاقتصاد ها هنا جزء من السياسة. وهو اقتصاد أحادي شأن طرق التفكير السائدة: اعتماد وحيد على النفط. خارج الدولة لا شيء، داخل الدولة كل شيء. فالدولة = الذهب. ذات مرة سئل صدام حسين عن مرتّبه ودخله، فأجاب بما معناه: «الثورة تؤمّن لنا كل شيء». وبالطبع فـ «الثورة» المقصودة هي خزينة الدولة العراقية، وهي مترعة بعوائد النفط السرّية لجهة العائدات والإنفاق (كنا نضطر الى قراءة تقارير الدول المستوردة للنفط - حيث الشفافية - لنعرف ما يدور في بلدنا). لا احد يعرف كم «راتب» الرئيس المقبور، وكم بدد شخصياً من ثروات العراقيين. لكن حاله حال اغلب السياسيين العراقيين، حيث ينطبق عليه قول الأعرابي الحكيم الذي قرأناه في الابتدائية: «اتذكرُ إذ لحافك جلد شاة واذ نعلاك من جلد البعير». مؤكد ان هؤلاء اصيبوا بالارق عند النوم في الفرش الوثيرة. وكما من قبل لا احد يعرف كيف ينفقون «نثريات» تعدّ بالملايين كل عام. وتدور قصص «ألف ليلة وليلة» عن قصور تشترى في لندن، وباريس، وواشنطن او فيلات في بيروت وعمان. وعن عمولات اسطورية، وشركات سرية ينشئها كبار رجال الدولة العراقية ليعقدوا بها الصفقات مع «دولتهم». هذا التداخل بين الثروة والدولة هو المكتوم، المفضوح، وراء كل هذه الالتياعات، ووراء كل هذا التشبث بالظفر والناب. متى ينفصل الاقتصاد عن السياسة، او تنخلع الثروة النفطية عن السطوة السياسية، لا احد يدري. ولكن حتى ذلك الحين سيخترع المخترعون كل كذبة، وكل اسطورة، وكل تلفيق ممكن وكل تسويغ لاحتكار السياسي وإدامته، باسم الامة، او باسم الوطن، باسم الثورة، او باسم الشعب، باسم الدين، او باسم الطائفة. جل هؤلاء مجرد اشباح خارج الدولة، ولا يتكشف وجودهم ولا يكتسب ايما قيمة إن لم يكونوا داخلها. قال فيلسوف غابر: «انا افكر، اذاً انا موجود». عندنا: «انا احكم، اذاً انا موجود». والعدم (نقيض الوجود) كما تعلمون، لا يطاق. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ فالح عبد الجبار
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|