عاش العراقيون الأسابيع الماضية محنة جديدة وأياماً مضنية ينتظرون فيها تشكيل الحكومة العراقية المرتقبة، وتصدرت أخبار المشاورات بين الكتل الفائزة في الانتخابات، الصفحات الرئيسية لمعظم الصحف العراقية الصادرة في بغداد. وكان (أغرب) ما نشرته تلك الصحف من أخبار، خبراً يتحدث عن تكليف مؤيد البدري رئاسة حكومة تكنوقراط، جاء فيه : "في سابقة سياسية أولى من نوعها في تاريخ العراق، اتفقت الكتل السياسية الأربع الفائزة في انتخابات 7 آذار (مارس) 2010 العامة، على تكليف مؤيد البدري، أشهر الشخصيات الباقية في العراق الجمهوري، بتشكيل حكومة تكنوقراط غير خاضعة لما يعرف بـ"التوافق"، وهو النهج الذي اتبع في حكم العراق بعد الغزو الاميركي عام 2003، ويقوم على اشتراك ممثلي "المكونات الثلاثة" من شيعة وسنة وكرد في إدارة النظام السياسي". ذلك الخبر الذي نشرته صحيفة العالم البغدادية في الأول من نيسان كان بالطبع كذبة نيسان ولكنه كان أيضاً كلمة باطل أريد بها حق ساطع.. ففعلا يحتل شيخ المعلقين العراقيين مؤيد البدري مكانة عزيزة على نفوس كل العراقيين وهو يستحق بالتأكيد منصباً يليق به في فضاء الرياضة العراقية التي تعاني الكثير من العثرات والمشاكل.. وشاءت المصادفة بعد ذلك الأول من نيسان بأيام، أن يستضيف الشاعرالعزيز علي عبد الامير عجام في برنامجه الاسبوعي (سبعة أيام)، محرر صفحة الرأي في صحيفة العالم التي نشرت الخبر، ليقول تعليقاً على ذلك الخبر الطريف إنه بعد اجتماع هيئة التحرير في تلك الصحيفة لم يجدوا من المشتركات(الحية) التي يمكن ان يتفق عليها العراقيون سوى مؤيد البدري.. هنا يستدعي الأمر إضاءة وإضافة مهمة نفتتحها بالقول أنه لولا مشتركات الشعب العراقي التي لا تعد ولا تحصى لما نهض العراق من رماد الأحداث الدامية التي استهدفته في تاريخه وحضارته وكيانه الممتد إلى آلاف السنين، وأن هذا الشعب أثبت مرة أخيرة وإلى الأبد أنه أبقى من كل المحن والغزوات والدسائس.. وأن غرامه بالحياة قد علمه الصبر الجميل على فظاعات السياسيين التي ما تلبث أن تذهب ويذهبون معها ، ويبقى هو الخالد الحي، كخلود دجلة وهو يمر بالمدرسة المستنصرية كل يوم ويجاور شارع النهر الذي تتمدد فيه أجمل أسواق الذهب والفضة والنحاس والقرطاسية والأقمشة والعطور. نعم لهذا الشعب مشتركاته التي لا تعد ولاتحصى... ويحفظ العالم والأمي فيه قصائد الجواهري والرصافي والزهاوي والسياب والنواب والملا عبود الكرخي، ويردد صغاره وكباره أغاني محمد القبانجي ورضا علي وناظم الغزالي وداخل حسن وعزيز علي وكاظم الساهر وعباس جميل ورياض أحمد وحسين نعمة وعفيفة اسكندر ومائدة نزهت وسيتا هاكوبيان ويوسف عمر ..إذا هبط جسر الجمهورية التقاه جواد سليم، وفائق حسن، وشاكر حسن آل سعيد، وإذا هبط شارع المتنبي التقاه التكرلي والوردي والعلوي والبياتي والأثري وفرمان ونازك الملائكة ونوري جعفر وطه باقر وكمال مظهر وعبد الواحد لؤلؤة وبهنام أبو الصوف.. إذا جال في أروقة الذاكرة السمعية والبصرية التقى مصطفى جواد ونوري الراوي وكامل الدباغ وحمودي الحارثي وسليم البصري وعمو بابا وعمو نوئيل رسام ومؤيد البدري ونهاد نجيب وسعاد الهرمزي وأمل المدرس.. وإذا انتقل بين الكرخ والرصافة عابراً جسر الأحرار أو الشهداء على قدميه التقاه يوسف العاني وهو يقوم بجولته الصباحية كل يوم ليروي لنا بعدها في المساء، وعلى مسرح بغداد، حكاياته مع المصور جان والساعاتي ناجي جواد والشيخ جلال الحنفي ، ثم يسترسل صعوداً إلى الصيادين والكبابجية والبسطاء في الشواكة وخضر الياس. شارع المطار يحرسه عباس بن فرناس، وأبو نؤاس يحرس نصب الحرية وسقائف السمك المسقوف ويرفع السلام لصاحب أطيب عصير رمان في العالم ( جبار أبو الشربت).. (الرصافي) لطول مكوثه في قلب شارع الرشيد يقول إنه انتهى من عد وفرز عدد (دنكات) الشارع فاتضح أنها ألفٌ ومئتان وأربع دنكات فازت بعد التصديق عليها بأغلبية الأصوات.. أما إذا ضجر من ذلك المكوث الطويل فبِشَمْرةِ عصا يعبر السراي وشارع المتنبي ليصل إلى الشورجة وخان مرجان وكعك السيد وحافظ القاضي وتسجيلات الجقمجي وجامع الحيدر خانة.
نوارس (دجلة الخير) تحمل تحايا الجسر الحديدي إلى الجسر المعلق، وجسر الأئمة يصل شطي الكاظمية والاعظمية وهما يتبادلان الهواء والماء والمحبة منذ الأزل... ويتذكر الشاطآن كيف كان يلتقي شباب الكاظمية والاعظمية في جزرة النهر التي تظهر في الصيف فيتبارون هناك بالسباحة وكرة القدم فلا يفصل بين والاعظمية والكاظمية سوى جسر الأئمة مما جعل التصاهر بين عوائل المنطقتين قوياً فضلاً عن وحدة أرواح الأئمة المدفونين على الجانبين من محمد الجواد وموسى بن جعفر وأبو حنيفة النعمان عليهم السلام جميعاً.. ويوم سقطت أجساد الزوار في كارثة جسر الائمة عام 2005، هرع أهل الاعظمية فحملوا الجرحى الى مستشفى النعمان بسياراتهم وقضى الشاب عثمان علي العبيدي غرقاً وهو ينقذ الغرقى من زوار الكاظم. هذا هو المشترك الأهم من كل المشتركات، وهو الإنسان العراقي الذي لم يكن يسأل عن طائفة جاره أو يهتم لها. ولا يزال بوعيه هذا مرتفعاً فوق كل ثارات السياسيين ومكائدهم. وذات يوم عندما يعود النور ليشرق في بغداد ويحلو الورد وتزهو البيوت، سيكون ذلك ليس بفضل سياسي أو حزب أو قائمة انتخابية، ولكن بفضل الناس... أسطورة البقاء المضيئة التي لن يغطيها غربال الساسة المنتخَبين. |