لا استطيع رؤية حاتم الصكر إلا معلما، ابتداء من على الصفحة الثقافية لجريدة الجمهورية في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وهو يقدم سلسلته النقدية (تخطيطات بقلم الرصاص). حيث أمسكت ـ من خلالها ـ بأولى مفاتيح النقد الأدبي. ثم عرفت انه كان قبل ذلك مدرسا في الكوت. وبعد أن مارس نوعا آخر من التعليم في رئاسة تحرير الأقلام، فانه استقر في (جامعة صنعاء!) أستاذا للأدب العربي ونقده منذ العام 1995. عاكفا على دراسة ونقد (قصائد الحداثة) في مختلف دول الوطن العربي التزاما بهوية خارج حدود الجدال. في كتابه الثالث العشر/ الأخير هذا، نقرأ رسالة مفتوحة على أفق لا محدود، من الهوى والشوق واللهفة، والحزن. من الإهداء ـ وهو يخترق فضاء الموت الذي يبدو: "أننا ـ العراقيين ـ مدمنو موت منذ كلكامش"/ 231 ـ الى ولده عدي "في غيبوبة براءته"، والى (أحمد) حفيده الذي يكبر بعيدا عن أبيه، الى محمود البريكان، حيث: وحده يموت في داخله الانسان"/ 11. الى الدراسة الأخيرة من الكتاب، والتي جاءت بعنوان: (قصائد الغياب). بما يبرز من تعلقها الشخصي بالمؤلف، بقدر تعلقها النقدي بأهمية الشعراء الثلاثة المتميزين بغيابهم الميتافيزيقي، وبقدر أهمية اثنين منهم ـ هما العراقيان ـ المتعلقة بنتاجهم، وعلاقتهم بالوطن، الإشكاليتين.. حيث يضغط الذاتي على الموضوعي، عندما تتشابه الأسباب، بل تتوحد. حين لا يترك الموت لنا مندوحة من (حضور الذكرى) / توغلها في متن النقد: "تتعدد أسباب موتهم لكنهم يرحلون: بطلقة محتل.. أو خنجر أخ عاق، قريبا من الموت اليومي..." / 231. يتعامل الناقد حاتم الصكر مع النص ـ نقديا ـ بحميمية نادرة. فيبدو وكأنه يمتزج مع النص كالماء والخمر. حيث ستظهر المقاطع النقدية دروسا علمية منقوعة بالاحساس الشعري، وأعتقد أن هذا غاية صعبة الإدراك في التماهي الانساني، انطلاق الروح المكنونة في الجسد الى فضاء الشعر المطلق حين يتمخض عن ذلك فهم دقيق وتفسير على قدرة كبيرة من الادراك: "فحضرت في الديوان روح الملاطفة والدعابة التي توصف مسرحيا بالسوداء، كناية عن إضمارها وراء التهكم مرارة قصوى تنكشف دون عناء عند القراءة: كلنا عابر في القصيدة لكننا لا نقيم بها، ونقيم القيامات فيها نشاور أحجارها أو نساير أشجارها أو نحاورها أو نسير حفاة على الجمر بين الكنايات نهمس إن كمائن أعشابها قطرة من مجاز وان السياسة بيت القصيد"
يحاول الدكتور حاتم الصكر، في (تقديم) هذا الكتاب أن يختصر مسيرة الحداثة الشعرية العربية بثلاث مراحل، هي: مرحلة القصيدة الحرة "بما يحمله المصطلح من بلبلة"/ 18، وقصيدة النثر، ولحظة الحداثة القائمة، حيث: "الكتابة الجديدة القائمة على النص"/ 15. وانطلاقا من هذه المقدمة، نطالع الدراسات الـ (13) المؤلفة للكتاب، وباستذكار المؤلفات الأخرى للدكتور الصكر، المدرجة في نهاية هذا الكتاب، يتأكد لدينا كون الناقد حاتم الصكر أحد أخطر نقاد الشعر العرب. حيث استطاع تأكيد هذه الخطورة من خلال إدراكه العميق لأهمية الشعر العربي، ومتابعة تطوره عبر عصوره المتلاحقة، وخصوصا القرن الأخير ومظاهر الحداثة الشعرية المذكورة سابقا، ليصل الى: "شعرنا ذو فاعلية حياتية، لا يضيق بالوجدان وتجليات الذات، كما يتمدد ليستوعب الخارج، ويتمثل مفردات الواقع والتاريخ، يضم الحادثة والوقائع اليومية، كما يتلمس ذبذبات الروح وهواجسها: من الرجز حتى المعلقة، ومن الموشح حتى البند، ومن القصيدة الحرة حتى قصيدة النثر، بتلوينات وتنوعات يؤطرها الشعر كروح وايحاء، ولا يحدها بثوابت"/ 17. وبخبرته وتجربته ودأبه على استكشاف كل خبايا الشعر يدرك "الجدال والحجاج في موضوع قصيدة النثر، ووجدنا أن ثمة أخطاء وتصورات مغلوطة كانت وراء سوء فهم الجمهور لهذا النوع الحديث من الكتابة الشعرية، وبعض الأخطاء ارتكبه روادها أنفسهم بسبب حماستهم التبشيرية والأوهام التي أسرت نظرتهم الى قصيدة النثر، وصلتها بالشعرية العربية، والأشكال الغربية، بينما كان جزء من سوء الفهم متأتياً من غياب منظور القراءة المناسبة لهذا النوع.." / 21. ولأنه أحد الأبناء البررة للحظة الحداثة القائمة، كشاعر وكمنظر، كما كانت أستاذتنا الكبيرة نازك الملائكة في لحظة الحداثة الأولى: القصيدة الحرة، فان حاتم الصكر سيتبنى توصيل بنية قصيدة النثر الى القارئ العربي بكونها: "قصيدة رؤيا في المقام الأول، لكنها بتفجير طاقات النثر والاستعانات السردية، تباين النموذج الجبراني الشائع في (الشعر العربي المنثور الذي كتبه جبران والريحاني) أو (الشعر الحر) حسب اجتهاد جبرا وأطروحته المعروفة داخل تجمع (شعر)"/ 23. وفي المبحث الخاص بـ "قصيدة النثر وحجاب التلقي" يؤكد الدكتور الصكر على حتمية ولادة قصيدة النثر من خلال: "عالم متغير../ شاعر متغير../ شعر متغير../ قصيدة نثر"/ 94. بالرغم من المشكلة التي عززها المصطلح: "ان مصطلح القصيدة النثرية المترجم عربيا (قصيدة النثر) قد اشتمل على خطأ جسيم لكنه شاع واستقر، رغم انه مقلق وغير دقيق... لأنها لا تؤاخي أو تجمع الشعر والنثر، بل تستثمر ما في النثر من استرسال وطلاقة وسعة لتجد فيه ما هو شعري، فيكون المجيء الى النثر من منطقة الشعر والجذب اليها لا خارجها"/ 96. ويفسر ظهور (قصيدة النثر) في فترة زمنية شهدت "خطاب ليبرالي سائد في زمن صعود المد اليساري"/ 98، حيث مثلت بانفلاتها على قوانين الشعر، انعكاسا أو الضد من الانسحاق تحت قوانين المجتمع وعدم القدرة على التخلص منه. في الدراسة الأولى للكتاب: "قصيدة الحدث بين الموضوع والفن" يستطيع الناقد حاتم الصكر أن يجد له موقعا في استشهاده من: "تيري ايغلتون حول مهمة محلل النص التي شبهها بمهمة المروّض الذي يدرك أن الوحش أقوى منه لكنه يتصرف عكس ذلك، فيحتويه ويروضه، واذا ما أحس الوحش بأنه أقوى من مروضه ستنتهي اللعبة كلها"/ 47. فيحدد مجموعة من النقاط الهامة يمكن ايجازها بالآتي: 1. نصل الى قضايا عصرنا متأخرين دائماً./ 29. 2. الحَدَثي والحداثي يتقابلان بضدية واضحة./ 30. 3. الغموض هو أبرز مزايا النصوص الحديثة، بمبررات الضرورة الفنية./ 30. 4. الغموض ـ ذاته ـ هو أبرز العيوب./ 30. 5. اختفاء الموضوع هو الثيمة الأساسية./ 30. 6. إقصاء المعنى لصالح تعدد الدلالات، الأشمل من وحدة المعنى أو المغزى./ 31. 7. استعصاء توافق الحدثي والحداثي./ 46. وفي الدراسة الثانية: "قصيدة المنفى أو المهجرية الجديدة" يحدثنا الناقد الصكر، من خلال تشخيصه موطن الخلل وعلاجه، في صراع الداخل والخارج، الذي يأخذ من الميزات الفنية للنتاج العراقي مأخذا ما، بغير وجه حق، كما أرى. حيث يقول الدكتور حاتم: "ان مهاجرة الأمس الأوائل لم يعدوا هجرتهم امتيازا لهم على شعراء الداخل المهجور، فيما نلحظ تكرارا مملا للقول بأن الداخل كفّ عن أن يكون صالحا لسياق ثقافي أو ابداعي مناسب، وكثيرا ما رفعت قرارات الرفض وسياط الجلد في وجوه مبدعي الداخل وجلودهم ونصوصهم لمجرد انهم مازالوا هناك: أحياء يكتبون!"/ 61. حيث أعتقد ان جماليات النص وقدراته الابداعية بمختلف تجلياتها، هي ما يوحد الابداع العراقي في أي مكان. ولا يجب أن يكون التمايز بين أي ابداعين على أساس مكاني: الداخل والخارج، إلا لتشخيص فروقات وميزات مؤثرات الداخل والخارج على النص، وليس من أجل صراع لا جدوى منه. نعم، لقد ضم الكتاب دراسات متعددة، ولكنها مجتمعة في المنظور، أو حتى في المنهج. حيث نرى وحدة الموضوع: (قصيدة الحداثة). وحيث توجد الدراسات النظرية والتفسيرية لمفاهيم ومصطلحات ونظريات أدبية. كذلك نجد الدراسات التطبيقية الممتدة من السياب ومحمود درويش والبريكان الى ادونيس والمقالح والشابي وعقيل علي، على مسافة زمنية تجمع أغلب أو أهم التوجهات الحداثية، وعلى بقعة جغرافية نابضة بالشعر منذ ألوف السنين اسمها الوطن العربي. مكان الحلم منذ غيابه القسري، ظل الناقد حاتم الصكر متواصلا مع وطنه، شعراء وقراء وأصدقاء، من خلال كتبه ودراساته المستمرة.. ولكن هذه الدراسة، على ما فيها من تميز مشهود للناقد الصكر، ودفاع متجل بوضوح عن آخر مظاهر الحداثة: قصيدة النثر، الى الحد الذي يمكن ـ من خلال هذا الكتاب ـ أن يغير كثير ممن لا يرغبون في قصيدة النثر رأيهم. أقول، رغم هذه التمظهرات المهمة، فقد لمحتُ اشراقة كاشراقة شمس الصباح، وسمعت طرقات قوية على باب الوطن، وبخاصة في الدراسة التي كان موضوعها عقيل علي: "انه فزعٌ، وأنا"/ 245. حيث يمكن لهذا الفزع أن لا يقتصر على شعراء ونقاد يلتحفون برودة منافيهم: محسن الموسوي وعلي جعفر العلاق ومحمد الجزائري، وفاضل العزاوي وسعدي يوسف، وآخرين، أعتذر لعدم ذكر أسمائهم. بل يمتد ليشمل ملايين من العراقيين / الشعراء في وطن يضيق أحيانا جراء الاحتلال أو سذاجة الاخوة. حيث لا يمكن لأطنان من ملصقات الدعاية الانتخابية أن: "تحجب عن القارئ الخوف الذي يستشعره خطاب القصيدة كله"/ 245. فيما يحاول الأمل، بقايا الأمل المطمورة تحت رماد الغياب، أن يعلن عن المهمة الجسيمة: مهمة الاستدعاء، أو الاستقدام، في عنوان ديوان عقيل علي (مرحبا... تعال نحتف بطائر آخر يتوارى) المتمثلة بـ (تعال) لأن "حافظة الأفكار قد اغبرت من وعثاء السفر"/ 245. وكي لا نتحدث بمرارة عن "طائر آخر يتوارى". • هل أدرك حاتم الصكر التناص بينه وبين تعبيرات عقيل علي؟ • هل كانت دراسته عن عقيل علي نتيجة لهذا الفهم؟ • هل ما وصلنا من إشارات كانت متعمدة أم كانت من وحي قراءتنا؟
ليس من جواب بأهمية تلك الأسئلة، إلا (بغيبوبة الغياب).. إلا بالحضور البهيج لحاتم والآخرين الى محتضنهم الخصب الدافئ في عراق اللذة والألم. |