نقاش : سبعة أعوام مضت على ذلك اليوم الذي وصلت فيه القوات الأميركية الى تخوم العاصمة بغداد، ومن بعدها إلى ساحة الفردوس وسط العاصمة وأنزلت تمثال الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. وقتها اشعل احد الجنود الأمريكيين سيجارة النصر، في تولى بعض المحتشدين ضرب تمثال الرئيس بالحذاء.
فالتقدم الاميركي الذي واجه مقاومة غير متوقعة في ميناء أم قصر جنوب العراق، ومثلها في الناصرية والنجف لم تعرقله أي مقاومة تذكر عندما عبر بابل وأصبح على أبواب العاصمة.
ومع حلول مساء الثامن من نيسان ابريل 2003 بدأت ملامح بغداد التي هجرها نصف سكانها هربا من القصف الجوي المتواصل لأكثر من اسبوعين تتغير بشكل مخيف.
فمجاميع البعثيين الذين داوموا على الخفارة الليلية في شوارع بغداد قبل انطلاق الحرب، واعتاد السكان على شم رائحة خبزهم المحترق، اختفوا من الشوارع وذابوا بين المدنيين بشكل مفاجئ تطبيقا لتوجيهات قياداتهم المركزية آنذاك.
ومثل البعثيين فعل الجنود وكبار الضباط في الجيش عندما سمعوا ان قوات المارينز تجاوزت المحمودية (30 كلم جنوب العاصمة) وباتت على ابواب بغداد. حيث تسللوا عبر أسوار حديقة الزوراء التي تمركز فيها نحو ربع مليون مقاتل مع اسلحتهم المتوسطة، بعدما بدلوا زيهم العسكري بملابس مدنية وسط دهشة المدنيين الذين أدركو بشكل متأخر أن الأمر وصل الى نهايته.
وحينما دخلت القوات الأميركية إلى بغداد قبل سبعة أعوام لم تجد سوى بقايا طعام الجنود البسطاء قرب آليات عسكرية شبة عاطبة عند مداخل الشوارع الرئيسة. ولم تمر سوى بضع ساعات على دخول القوات الاميركية حتى هبت فرق الحواسم لنهب كل شيئ ابتداءا من القصور الفخمة التي كان يملكها صدام وانتهاء بالوزارات والمؤسسات الحكومية، وكان غالبية هؤلاء من العاملين في تلك المواقع ممن كانوا على علم بما يختفي وراء جدرانها، شاركهم في ذلك بعض السراق والسكان المنتفعون.
وكان الأميركون يتفرجون على عمليات النهب بدم بارد ويطلقون عبارة "علي بابا"، سارق الكنوز وأحد أبطال قصص ألف ليلة وليلة، على كل من شاهدوه من فرق الحواسم وهو يحمل البضاعة المسروقة راكضا باتجاه منزله.
مرت الأشهر الأولى ثقيلة ومخيفة، وكان العراقيون فيها يتناقلون الشائعات حول تسليم صدام للعاصمة بالاتفاق مع الرئيس الأميركي بوش وقصص أخرى حول عزم صدام اطلاق صواريخ نووية على بغداد لابادة الاميركييين فيها. وكان بعض تلك الشائعات يقترب من الأساطير القديمة التي تتناقلها الاجيال عبر السنين. لكن كل شيئ كان قابلا للتصديق في تلك المرحلة المربكة.
وبعد شهور انبثق مجلس الحكم بتشكيلة غريبة هندسها الحاكم المدني الاميركي في العراق آنذاك بول بريمر وحرص من خلالها على ترسيخ نوع من المحاصصة الطائفية في العراق الديموقراطي الجديد. حيث احتوى المجلس على ممثلين عن الشيعة وآخرون عن السنة وكان للكرد حصة في حكم العراق بعد مرور اكثر من 12 عاما على انفصالهم عن حكم صدام في حين لم بعرف العراقيون منذ الاستقلال هذا النوع من تسييس الطوائف وقوننتها.
ووقع مجلس الحكم على الدستور المؤقت المترجم من الانجليزية الى العربية بتحفظ خجول من بعض أعضائه المعترضين على بعض بنوده، والذي أقر باستفتاء شعبي جرى لاحقا.
وبعد شهور على دخول القوات الاميركية إلى بغداد ظهرت العمليات العسكرية والعبوات الناسفة التي استهدفت الجنود الغرباء من بلاد العم سام، والكثير من المدنيين.
وتغيرت المعادلة، وأصبحت السيارات المدنية التي كانت تمر بسلام قرب الارتال العسكرية الأميركية ويحيي اطفالها الجنود بعبارة (هلو) وهم يلوحون بأيادهم من نوافذ السيارات، أصبحت تبتعد مسافة كبيرة، ومن يتجاوز هذه المسافة قد لا ينجو من القتل.
وبعد أقل من عام على تشكيل مجلس الحكم، شكلت الحكومة العراقية المؤقتة بالتشاور بين الأمم المتحدة والأميركيين. واختير اياد علاوي زعيم حركة الوفاق الوطني وأحد أعضاء مجلس الحكم آنذاك لرئاستها.
لكن تشكيل الحكومة لم يفلح في تهدئة العنف حيث ثارت المناطق وأصبح تنظيم القاعدة يملك قاعدة كبيرة في الفلوجة وظهرت تشكيلات أخرى تسانده مثل جيش محمد، والجيش الاسلامي، وجيش المجاهدين وغيرها. وكان لهذه الفصائل رديف في الجنوب عندما أعلن السيد مقتدى الصدر تشكيل جيش المهدي في أيلول/ سبتمبر عام 2003.
وتصرف علاوي بحزم عسكري، فخاض معركة ضارية في الفلوجة لم يبق فيها بيت لم يتعرض للقصف او الدمار، ودخل النجف لضرب الميليشيات هناك، وكانت تلك المعارك يقودها الجيش الاميركي باسناد عراقي متواضع.
وبعد ستة اشهر سقطت حكومة علاوي في الانتخابات النيابية التي قاطعها السنة وفاز فيها الشيعة بمقاعد تؤهلهم لاستلام الحكم.
فانبثقت حكومة ابراهيم الجعفري التي ولد معها الاحتقان الطائفي واتسع تدريجيا حتى وصل الى ذروته بعد تفجير قبة الإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي في سامراء في 22 شباط / فبراير من عام 2006.
وحينما استلم رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي رئاسة الحكومة الجديدة بعد الانتخابات النيابية أواخر العام 2005 تراجع السنة عن قرار المقاطعة وشاركوا في الحكومة بثقل جيد. حينها بدت بغداد ككتلة من النار المشتعلة، إذ سقطت نصف احياء بغداد في يد القاعدة ونصفها الآخر في يد الميليشيات. وأصبحت المدن والمناطق تدار طبقا لهويتها الطائفية وظهرت مدن ساخنة في الغرب والجنوب، وكادت الحرب الطائفية أن تسقط الحكومة.
وتحرك المالكي بطروحات جديدة عندما أطلق مشروع المصالحة الوطنية في حزيران/ يونيو من عام 2006 في محاولة للسيطرة على الموقف واحتواء المعارضين.
وشكل لهذا الامر هيئة عليا للمصالحة الوطنية تضم شخصيات شيعية وسنية معتدلة يترأسها وزير الحوار الوطني أكرم الحكيم. لكن تلك الهيئة اتهمت بعدم القدرة على تحقيق المصالحة رغم اقامتها لخمس مؤتمرات متتالية، واتخذ المالكي خطوة اخرى بإعدام صدام حسين في نهاية العام ذاته (في اول أيام عيد الأضحى) كان من شان هذه الخطوة أن أثارت استياء وغضب سنة العراق.
أما الاميركيون الذين اتهموا بالفشل في العراق واعترف به بعض قادتهم علانية، فقرروا تغيير خططهم للخروج مما بات يعرف بـ "المستنقع العراقي".
ولجأوا الى تسليح العشائر السنية في تموز/ يوليو عام 2007، فانبثق مجلس انقاذ الانبار ليحارب القاعدة هناك.
وعلى غرار المجلس استثمر الاميركيون انشقاق الفصائل المسلحة العراقية على القاعدة في في منطقة العامرية في بغداد وانشأوا مجالس الصحوة العشائرية هناك، وبدأت المعادلة تتغير حينما تحول الكثيرون من العمل مع القاعدة الى العمل مع مجالس الصحوة.
ومع هذا التغيير الايجابي في العاصمة وبعض المدن الساخنة، تحرك المالكي مطلع عام 2008 لضرب الميليشيات الشيعية التي استفحلت في جنوب البلاد وبدأت تدير المصافي النفطية وتشرف على تهريب النفط وتحكم المدن بالأتاوات المدفوعة من السكان تحت غطاء الدين.
فكان عام 2008 عاما لفرض القانون والقضاء على المظاهر المسلحة خارجه فنفذ عمليات عديدة في البصرة والعمارة والموصل وديالى وغيرها من المدن. وقبل انتهاء العام المذكور وقع العراق والولايات المتحدة الاتفاق الامني الذي حدد موعدا لانسحاب القوات الاميركية واحتوى بنودا عدة ناقشها البرلمان والحكومة شهورا قبل اقراره.
وكما كان عام 2008 عاما لفرض القانون كان عام 2009 عاما للسيادة. حيث استلم العراقيون في أول ايام السنة الجديدة منطقتهم الخضراء (الدولية) التي أدارها الاميركيون ست سنوات قبل مغادرتها وترك سفارتهم وأبرز مؤسسساتهم فيها. وجرت انتخابات مجالس المحافظات قبل نهاية الشهرالأول من العام 2009، وحقق المالكي فوزا غير متوقع.
وتغيرت الخارطة السياسية باندثار الدورالامني للصحوات ودخولهما العملية السياسية في الانتخابات ذاتها. وفي منتصف العام 2009 انسحبت القوات الاميركية من المدن واغلقت معتقل بوكا في البصرة والذي اشتهر بتسمية "غوانتاناموا العراق".
وفي 19 آب/ أغسطس الملقب بالأربعاء الدامي، ضربت سلسلة من التفجيرات مواقع حكومية ووزارات في العاصمة بغداد، أسفرت عن مقتل أكثر من 100 شخص وجرح حوالي 1200آخرين.
فتحرك مجلس النواب لاستجواب وزراء المالكي كما استجوب وزيري الدفاع والامن دون ان تسفر الاستجوابات عن شيء يذكر. وانتهى العام باقرار قانون الانتخابات النيابية بصعوبة بعد نقضه من قبل نائب رئيس الجمهورية، وأرجأت الانتخابات حتى آذار/ مارس بدلا من كانون الثاني/ يناير.
وعند مطلع العام الحالي عادت الكتل لتشكيل ائتلافاتها مجددا. وتسببت ضجة اجتاث البعث في تأخير إقرار اسماء المرشحين.
وفي 7 آذار/ مارس الماضي توجه العراقيون الى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في مجلس النواب طبقا لنظام القائمة المفتوحة الذي اطاح بشخصيات قيادية في العديد من الاحزاب.
وعاد أياد علاوي الى الواجهة هذه المرة حينما أعلنت المفوضية فوزه بمقاعد نيابية اكثر من منافسه ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي بفارق بسيط.
وبعد مرور سبع سنوات على اجتياح بغداد، واكثر من شهر على الانتخابات النيابية، ينتظر العراقيون اليوم انبثاق حكومتم المقبلة التي لايمكن ان تولد بسهولة، والتي سيؤول انتظارها الى المزيد من اعمال العنف طبقا لتوقعات المراقبين للوضع في العراق. |