|
|
أمة الإصبع البنفسجي |
|
|
|
|
تاريخ النشر
29/03/2010 06:00 AM
|
|
|
قد يبدو هذا العنوانُ من العناوين الديماغوجية التي تكثر هذه الأيام والتي تمجِّد تجربة العراق ما بعد 2003 بشكل غير متعقِّل. ومع ذلك، إنه يستند إلى قصة حقيقية. كنتُ، وزوجتي، أشارك في العملية الانتخابية خارج بلادنا. أكملنا الانتخاب، ووضع كل منا أحد أصابع يديه العشرة في قنينة الحبر، ليكتسب الإصبعُ لوناً بين الأسود والبني والأزرق الغامق. أدبياتُنا العراقية درجت على وصف هذا اللون بـ (البنفسجي) لتضفي على هذه الممارسة الديمقراطية معنى رمزياً وشعرياً، يقارب المعنى الذي أضفته تجاربُ عالمية أخرى لأوصاف مقاربة، من قبيل (الثورة البرتقالية) و(الثورة الزرقاء)، فلا معنى جدّياً لو قلنا: الإصبع الأسود، أو البني. هذه الإزاحة في اللون وتقريبه من المخيلة العالمية عن الألوان ذات المعنى السياسي لا يعطيان اللونَ البنفسجي هذه الشحنة الرمزية فقط، بل معنى ثورياً، يقرِّب المشاركةَ في الانتخابات (أو: الزحف نحو الانتخابات، إن شئت، على نحو ما تقول الأدبيات العراقية، في استعارة ثورية أخرى) من الانتفاضات الجماهيرية، . . تقريب تصنعه الثقافةُ السياسية التقليدية التي لم (ولا تستطيع أن) تتعلم أن التحولات السياسية يمكن أن تصنعها ممارسة ديمقراطية باردة، بل ينبغي لها أن تكون عبر ثورات ساخنة، ودامية. قالت لي زوجتي، ونحن خارج البلاد: هل لاحظتَ أننا سنستطيع أن نميِّز العراقيين من الإصبع البنفسجي. هذا الإصبع سيكون هوية للعراقي، تميزه باختلافه عن غير العراقيين، الذين لا يحملون مثل هذا الإصبع، وبتماثله مع من سواه من العراقيين، حملة الأصابع البنفسجية. وبالأحرى، سيكون هذا الإصبع إشارة إلى الانتماء إلى أمة عراقية، أمة تعثرت ولادتُها طويلاً، ولكنها ـ في الوقت نفسه ـ باتت تمتد عبر جغرافيا واسعة، في الوطن، وفي الشتات، تماماً كما الأرمن، أو الفلسطينيين. هذا الإصبع يُشعِر العراقي والعراقية بأنهما يشتركان مع كل مَن يحمله، من العراقيين الذين شاركوا في الانتخابات، في أي مكان في العالم، وفي العراق قبل ذلك، في هذه الهوية العابرة لحدود الوطن. لقد كان معي، حيث انتخبتُ خارجَ الوطن، عراقيون وعراقيات من اعتقادات، وانتماءات، وأديان، وإثنيات، ومواقف سياسية شتى. كان الشيوعيون والبعثيون، الإسلاميون والعلمانيون، العرب والأكراد، المسلمون والمسيحيون، السنة والشيعة، المسيحيون والإيزيديون والصابئة، مَن هم مع تغيير 2003 ومَن هم ضده، من هم أمريكيو الهوى ومَن هم معادون للأمريكان، كلهم كانوا أمام صندوق الاقتراع نفسه، يمارسون فعلا واحداً، وبالتالي، يحملون الإصبع البنفسجي نفسه. كانت كل ذاكرةُ التصدعات التأريخية بين هذه الانتماءات تقف خلف هذه اللحظة الموحِّدة. ولذلك، وأبعد من رمزية الانتماء إلى أمة واحدة التي يحملها الإصبع البنفسجي، يمكن لصندوق الاقتراع (أو لأقل: هذه الممارسة) أن يقوم بوظيفة الاندماج الوطني، وهي الوظيفة التي قامت بها ـ تأريخياً ـ، أو حاولت، مؤسسات أخرى، من قبيل المؤسسة التعليمية، والتجنيد الإلزامي، والإعلام. لقد ركّزت مباحثُ بناء الأمة على ثلاثة مسارات أو آليات: البناء الرمزي والسردي (أندرسون، وهوبزباوم)، والمسار التأريخي (غيلنر، ونارين)، والأطر المؤسسية (أندرسون). ولذلك، لم تهتم ـ بجدية ـ بدراسة الممارسة الديمقراطية بوصفها من آليات الاندماج الوطني. لقد كانت هذه الانتخاباتُ وثيقة عن بناء رؤية مشتركة بين العراقيين بأن التغيير السياسي يتم عبر آليات سلمية، لا عبر العنف والدم والموت. وكانت، أيضاً، أشبه بمجال عام لهم، حر ومفتوح، يعبِّرون فيه عن رأيهم وتصوراتهم السياسية. غير أنها، قبل كل ذلك، ستبني شعوراً مشتركاً بين سائر العراقيين بأن النظام الذي ستنتجه هو من صناعتهم جميعاً، وليس فرضاً قسرياً من جهة أو فئة محدّدة. وفي العمق والتداخل مع كل هذا، سيعني هذا الشعور المشترك بصناعة الدولة، أنه تتم ـ بالتزامن ـ صناعة الأمة. أدرك أن 38% ممن يحق لهم التصويت من العراقيين لم يشاركوا في الانتخابات، وهم عراقيون، لا أحد يستطيع أن يصادر عراقيتهم، مهما كانت أسباب ذلك، وأدرك أن جزءاً من هؤلاء لا يؤمن بكل ما جرى ويجري في العراق. ولكنني أدرك، أيضاً، أن هذه الأمة التي تُصنَع تبني معها قيمها ورؤيتها للوطنية في الوقت نفسه، تبنيها من خلال هذا المعنى السياسي الجديد، وأن الرهان الآن لا يتمثل في نزع الوطنية عمّن لا يؤمن بها، بل في قدرة هذه الوطنية على أن تكون قيمة عامة، أوسع ممن مارسها وبناها، قيمة قادرة على أن تدمج داخلها حتى مَن عارضها ورفضها. وهذا هو التحدي الأكبر لعراق ما بعد الانتخابات. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ د. حيدر سعيد
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|