|
|
محمد شرارة من الإيمان إلى حرية الفكر لبلقيس شرارة: سيـرة عبـر تاريـخ حقبـة وتحـولات |
|
|
|
|
تاريخ النشر
17/03/2010 06:00 AM
|
|
|
«محمد شرارة، من الإيمان الى حرية الفكر» كتاب في 460 صفحة، صدر عن «دار المدى» عام 2009، للكاتبة بلقيس شرارة، بدافع من فهمها لعوامل الزمن التي غالباً ما تأتي على سير شخصيات هامة، لم توفر لها الظروف فرصة لتوثيق ما أنتجته خلال أحداث عايشتها وانخرطت في فعاليتها واكتوت بحرائقها، في العراق او في سواه من البلدان العربية. وهي تخشى ان يطوي النسيان ما قدمه والدها من اسهام معرفيّ وتجربة كفاحية طوال نصف قرن، لذلك تجتهد الابنة كي تبعث من بين الرماد ما تعرض للحرق والاتلاف، فتؤيده بشهادات مجايلين، رفاقاً وأصدقاء او تستقي ما يعززه من ارشيف صحف ودوريات وكتب ورسائل، وتفلح في اعادة تشكيل الأحداث والمشاهد، وترميم آثار أدبية جمّة، فإذا هي مبثوثة عرضا في ثنايا الفصول، وفق ما يقتضيه سياق السيرة، برجاء ان يشكل هذا المؤلف «امتداداً لهذا الإنسان في الـزمن بعد الموت». بداية تحرص المؤلفة على ان تضيء ما أحاط بنشأة محمد شرارة، منذ ولادته عام 1906 في بنت جبيل، مركز التواصل والممر الإجباري ما بين جبل عامل وسوريا وفلسطين طوال الحقبة العثمانية، وفي فترة ما بين الحربين العـــالميتين حتى وقوع النكبة عام 1948، ودار والده الشيخ علي موئل لمجالس الأدب والشـــعر والمراجـــعات الدينية والاجتماعية في اجواء تحث على نشدان العلم ورفض الاستغلال. ترعرع صاحب السيرة في كنف والده الشيخ المحكم والمشرّع والمستخير، وتلقن على يديه علوم العربية منذ حداثته، كما رباه على الإقدام، ثم دفع به ليكنز العلم في النجف وهو على عتبة الرابعة عشرة، فأرغم على مغادرة ملاعب طفولته وبواكير مراهقته وحبّه الاول، لكن إحساسه بالقهر ظل قابعاً في أعماقه، يطل بين سطور المقـــالات او القصائد، وكأنــــها تعبير عن انفجار الذات المقموعة، متسائلاً: «الى متى تبقى قصائدنا مناديل الوداع؟». ما بين النجف وبغداد، مروراً بالناصرية فكربلاء وأربيل والحلة، نرافق محمد شرارة في حلة وترحاله، وسط ظروف عيش قاسية لم تخفف منها تقلبات العهود ما بين ملكية دستورية تحت سطوة الانكليز، او جمهورية استبدادية او ثورية تسلطية، فنجده في داره او بين خلانه لا يفارقه التفاؤل برغم ما يواجهه من الشدائد، وما يتعرض له من الملاحقة جراء آرائه ومواقفه، وكثيراً ما حورب في رزقه وفصل من عمله، او اعتقل وخضع لاحكام المجالس العرفية وسجن بسبب انضمامه الى حركة السلام، او تعرض لاسقاط جنسيته، او ضمت اسمه قوائم الاغتيال، ما يضطره للجوء الى لبنان، او الصين، ليزاول اعمالاً مؤقتة، فإذا لاح بارق أمل في شبه استقرار عاد الى العراق ليستأنف نشاطه في حمأة اوضاع متقلبة ودموية، لم تنج عائلته من عسفها، الى درجة اعتقال الابناء بديلا عن الأب الغائب، او منع الابنة من لقائه بزعم كونه من «الديموقراطيين المزيّفين» بحسب رفاق الدرب... وقت تسود عبادة الفرد ويتحول الحزب الى ميليشيا تسوس الشعب بالسياط، في خدمة الزعيم الأوحد او القائد الملهم! منتدى أدبي خلل سرد شيّق مشوب بالقلق، تعرض المؤلفة للجانب العاطفي والعائلي من حياة والدها، ولموقفه من المرأة فنراه يضيق بالأسوار التي تحول دون تفتحها وانطلاقها، تماماً كضيقه بتخلف الحوزة الدينية وعلومها التقليدية، ما يدفعه للخروج من إسارها وخلعه العمامة بعدما بلغ درجة الاجتهاد، وقراره العيش معتمداً على نفسه بدل ان يصير عالة على الفقراء. وترى المؤلفة ان ثورته على المدرسة الدينية كانت بهدف جعلها «أكثر اتساعاً ووحدة مع الأفق». أينما حل محمد شرارة، في مدن العراق، كانت داره تتحول الى منتدى للأدباء، والشعراء والمتنورين، وبينهم اسماء لامعة، في طليعتها نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ولميعة عمارة، وكثيرون من رجال الأدب والفكر والسياسة عراقيين وعامليين، أواسط القرن العشرين، وهنا تتبدى لنا قدرة الإنسان المستنير على التملّص مما يرسم له، ومجابهة الواقع، بدءا من منطلق فردي، يلتقي تاليا مع منطلقات عامة وأطر جماعية، لكن الواقع المتخلف نادرة ما تواتيه القدرة على انتاج دينامية فاعلة تحسن التعامل مع الازمة، او التخطيط للتغيير بأساليب متقدمة او غير تآمرية، وسرعان ما يغرق المناضلون في أتون فورات انقلابية تحكمها الفوضى وضيق الأفق والروح الفردية والتسلطية، حيث يتجلى العنف بأبشع صوره تجاه الآخر، وكوسيلة مفضلة للإمساك بالسلطة في ظل شعارات ثورية. ثم تتعاقب القوى المتناهضة للقبض عليها بوسائل القمع والترهيب، ولا تحسن مرة الإفادة من تجارب السابقين، لتؤول الى المصير عينه، وهكذا يزدحم الكتاب بوقائع ذات صلة بحياة وكفاحية محمد شرارة، تضيء جوانب مرحلة بكاملها، وتفضح سلوكيات وممارسات أحزاب لا تطيق الاختلاف في الرأي، ولا تقبل تداول السلطة بوسائل سلمية، ما يبعث الشقاق والاضطراب في حاضر الجماعات والأفراد. سياق هذه السيرة تغلب فيه صورة المناضل على صورة المفكّر، ومع ذلك تتشكل الشخصية الأدبية لمحمد شرارة تباعا على امتداد صفحات الكتاب، وللقارئ ان يستجمع شتات هذا الجانب الهام خلل الفصول المتعاقبة وفق المراحل الزمنية، ليخلص الى اعتبار أدبه نثراً وشعراً انما يجيء وليد مكابدة، ويطفر عفو الخاطر، جراء معاناة متعددة الوجوه، ولم يكن نتاجه في الغالب وليد تفرغ او عناية خاصة، سوى ان كتاباته تتسم على الدوام بالواقعية، وآراءه في الأدب والفن تنافح عن الالتزام بقضايا المجتمع، وقصائده تنم بشاعرية غنائية مهمومة بتطلعات الإنسان وحاجته الى الحرية والعدالة والإحساس بالكرامة، وهو ينفذ الى جوهر هذه المسائل بأسلوبه النقدي والتحليلي، انطلاقا من ايمانه بحتمية انتصار الاشتراكية. للجرأة والصراحة والإخلاص أثمان باهظة، غالبا ما يدفعها اصحاب الأقلام الصادقة والنفوس الحساسة والرأي الحر، دون ان تنال من عزائمهم، فتكبدهم الكثير من المتاعب والآلام والحرمان من الاستقرار ودفء الحياة العائلية، وهذا غيض من فيض ما واجهه محمد شرارة طوال حياته في العراق، وشطراً يسيراً منها في لبنان، حتى وافته المنية عام 1979، فيما الحروب العبثية ترخي بأثقالها على احوال البلدين، وما تزال تجر ذيولها حتى الساعة. إلى ذلك ينبغي التنويه بالجهد المبذول في توثيق مفاصل السيرة ومنعطفاتها، مما يطال آراء ومواقف نخبة من الشخصيات المعروفة في الوسط الأدبي والفكري، ويؤسس لتناول متعدد الرؤية، وقراءات مختلفة، وحسب الأدبية انها تشيد عمارة لا تشيخ، لأب مكافح، فيما تعمد آلة الاستبداد الى تدمير مثواه في روضة دار السلام! يبقى ان نشير الى هنّات كان بالإمكان تفاديها بشيء من الحرص، كي يخلص هذا المؤلف الثري من شوائب لغوية لا يليق ورودها بين سطور كتاب يمثل شاهداً غير هيّاب، على بؤس حقبة من تاريخنا المعاصر، وهو يراوح فوق جغرافيا مثخنة، ولكن... عزيزة. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ حسن مروة
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|