العبارة المتداولة هذه الأيام من كيانات سياسية عراقية والقائلة "لا توجد عندنا خطوط حمراء" في التعامل مع الآخرين لا تقول شيئاً أكثر مما تعبر عن الابتهاج والنشوة والانفتاح في ساعة انسانية هي ساعة نجاح، وتحت نشوة النجاح يقول الانسان أشياء كثيرة لا تخضع، عادة، للمساءلة والتدقيق بل والجدية.

ولكن قد تكون هذه العبارة قادمة من برنامج سياسي ومن مراجعة تجربة ومن موقع الوضوح والصدق والانفتاح الذي لا يتقاطع مع النشوة والفرح والسرور ومشاعر الفوز ونحن نميل الى ذلك الى حد ما، لكن هل غياب الخطوط الحمراء يعني غياب الخطوط الأخرى؟ هل "الخطوط الحمراء" الملغية وحدها هي خطوط التحريم والحجز والحجر والمنع؟ قد لا تكون هناك بالفعل أي خطوط حمراء ولكن قد تكون هذه الخطوط سوداء وصفراء وبيضاء، أيضا: المشكلة ليست لونية، بل هي بنية عقلية ومنظومة قيمية ورؤية عقائدية ومنهاج عمل ونظرة للحياة والسياسة والمؤسسة والدولة والسلطة والثقافة والحرية.

خارج نظرية الألوان الحاجبة والمفتوحة، وخارج الحفل والابتهاج والشك والقلق والانتظار واللعب والتوقع، فإن الزمن الطائفي السياسي، زمن" القلعة الحصينة" لهذا المكون أو ذاك، زمن حكم العوائل الحاكمة، الزمن الفعلي والحقيقي المؤسس للخنادق والمناطق والمذاهب والأعراق، قد تأسس وتشرعن وترسخ وتجذر هذه الأيام وبصورة حازمة وجازمة وقاطعة ولأمد غير معروف، وعلى العكس من ذلك فإن زمن الدولة الوطنية قد دفن، حياً، وسط احتفالات الابتهاج والمشاعر المتضاربة.

مشروع الدولة الوطنية قُبر هذه المرة بنظرية" التعويم" وهي نظرية تقوم على الإغراق والافراط والتكرار المسئم حين صار الجميع يرفع شعار الدولة الوطنية بحيث أُنهك شبه المواطن العراقي في هذا التعدد الغريب والخرافي واللامعقول لأنواع الدولة الوطنية التي يعيش تحت شعاراتها وغير عارف ذلك الى يوم قريب، وفي غياب شبكات حماية ثقافية وفكرية ومعرفية واضحة( انشغال المثقفون والكتاب بقصيدة النثر والريادة الشعرية وحكايات الاجيال ومطاردة بعضهم البعض في وطن يحترق وينقرض على مراحل  كما كان الجيل الستيني يجد نفسه من المقاهي الأدبية الى السجون على يد عقداء أجلاف الخ) تفصل حدود الدولة الوطنية الحقيقية وشروطها عن الدولة الوطنية المزيفة والمرتجلة، ضاع العراقي شبه المواطن هذه المرة، وكما في مراحل سابقة تم تجريده من كرامته وثيابه ومنزله وأثاث بيته وأحلامه ومستقبله باسم الشعارات الكبرى كالحرية والقانون والأمة والاشتراكية والسعادة حتى كفر بكل هذه الشعارات، سوف يتم، من الآن فصاعدا، تجريده من الباقي من الأمل في الدولة الوطنية الراعية ـ الدولة الأمة، خارج التصنيفات والأعراق والعناوين، أو الدولة القائمة على عقد الشراكة في الحقوق والواجبات، الدولة" التجريدية" التي يقف فيها الناس سواسية بلا "خطوط حمراء" في العرق والدين والمعتقد والانتماء والمكان.

هذه الأيام يتم وضع الأسس القوية والمنيعة للدولة الكانتون، الدولة ـ المجمّع، الدولة الشركة، والشركة ليست الشراكة، الدولة المصنفة مناطقيا وعرقيا ومذهبيا، الدولة التي سيشار الى مدنها منذ اليوم ليس حسب التسميات القديمة، بل حسب التصنيف الاختزالي المعروف: المدينة الفلانية هي القلعة  الحصينة للمكون كذا، والمدينة الأخرى هي القلعة الحصينة للنموذج كذا، بل حتى المدينة الواحدة ستنشطر فيها الأحياء الى خنادق ولاءات والخ.

والأمر نفسه سينتقل الى المؤسسات العليا المشرِّعة والمنفذة لأنها تعكس قطعا التراتبية السياسية القائمة والمكرسة بصرف النظر عن التشريع المدرسي الرمزي القائم في الدستور وفي غيره، لأن الدساتير في هذا النمط من الدول هو آخر شيء مكتوب يمكن العودة اليه في العمل الفعلي، والدساتير ستخصص للسجال السياسي العلني وفي دروس تعلم اللغة وليس تعلم التجربة والمحاججة البلاغية وللفخاخ حين يقتضي الأمر وسيقتضي ذلك كثيرا في المقبل من الأيام ـ مع ان الأيام عندنا تتشابه والمقبل من الأيام كالمدبر لأننا في " دوامة" وفي حلقة مفرغة ولم يتم كسرها من خلال ثقافة تتجاوز وتتخطى وتراجع.

والدوامة بدأت في الظهور بهذا الشكل أو ذاك ومن يريد أن يعرف عن علم صناعة الدوامة عليه قراءة وثيقة " التوجهات السرية الصادرة عام 1992" من" أرفع مستويات وزارة الدفاع الأمريكية" وهي خطة العمل المستقبلي الاستراتيجية للسنوات القادمة وحتى اليوم ومكونة من 46 صفحة ونشرت في فصلية" العمل السري  ـ خريف 1992" وقد علق عليها الصحفي الأمريكي الشهير وليم روبنسون بأن هذه" الوثيقة هي شكل جديد للهيمنة ومتابعة للأهداف الثابتة عبر طرق جديدة" فماذا تقول هذه الوثيقة في مجال صنع" الدوامة"؟

ـ " في حال حدوث اضطرابات شعبية ضد الانظمة المعزولة شعبيا والموالية للغرب، فإنه يمكن السيطرة على هذه الحركات بدمج أقسام واسعة منها ضمن آليات مضبوطة في " التحكم الديمقراطي" المحدود، على أن يترافق ذلك مع إضعاف تأثير العناصر الثورية أو الأكثر تطرفا عن طريق استهدافها بشكل مدروس بوسائل العنف المباشر أو التضليل أو القمع الذي تمارسه" القوة الثالثة" أي وكالة المخابرات الأمريكية، حتى لو وصل ذلك الى حرب" فاترة الوطيس" ويتضمن خيار القوة الثالثة ما يسمى ـ هذا الكلام منقول حرفيا ـ إمكانية الانكار المقبولة ظاهريا( القتل والانكار) وهو المخطط السياسي للاخراج عن طريق الألاعيب القذرة والعمليات السرية".
 
تضع الوثيقة برنامج عمل واضح للغاية عن كيفة اسقاط انظمة غير متحكم فيها تهدد مصالح الولايات المتحدة أو تحاول فرض نفسها كقوة اقليمية وذلك باستخدام مبادئ حقوق الانسان وخطر اسلحة الدمار الشامل قبل الحرب عليها واسقاطها، ولكن ماذا ستفعل بعد الاسقاط؟ تقول الوثيقة ما نصه:

ـ" إقامة آليات دستورية ومؤسساتية تقصر ممارسة " الديمقراطية" على النخبة الوطنية الحاكمة، بينما يجري اضعاف كل المنظمات والحركات الشعبية أو النقابية من خلال دمج الحدود القيادية والدستورية والمؤسساتية فيما بينها".
 
التطبيق العملي لهذه الفقرة هو دمج الرئاسة مع مجلس الوزراء والبرلمان والمؤسسات الأمنية في حدود ضبابية تضيع فيها الصلاحيات الحقيقية وتمنع تمرير أي قرار سيادي أو مصيري مستقبلي يتعلق بوجود المحتل، والمشاحنات التي وقعت بين الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الداخلية، مثلا، حول الصلاحيات هي جزء جوهري ومصمم من بنية "المتاهة" وليست خلافات شخصية كما صور الأمر بسذاجة: العطب البنيوي في هذه الدولة ليست في الافراد والكيانات التي تعاني من مشكلات النظر الى الدولة والحداثة والتحديث وفكرة الدولة الوطنية فحسب، ولكن في البناء الاداري والتنظيمي والعضوي لهذه الدولة المُصَمَّمة على أن يكون المحتل على دراية تامة بكل قرار من مرحلة التخطيط الى القنوات الأخرى، وفي حال كان هذا القرار غير مرغوب فيه فإنه يُعطل في الطريق عن طريق فوضى الصلاحيات الموزعة بهندسة ماكرة وهذا اساسي وشائع ومعروف عبر التاريخ في قيادة الدول المحتلة، ولا ننسى ان قواعد عسكرية أمريكية مبنية على الحدود وهي مدن مغلقة تتوفر على كل مقومات العيش من مسابح ومراقص وبارات ومطارات وأسواق وحدائق ولأجل طويل.

 فيتو الرئيس العراقي اليوم هو صمام أمان الاحتلال كما ان" دوامة" الكتل والتحالفات والصفقات ستحول دون شراكة حقيقية بلا خطوط حمراء، اي اسلوب الهيمنة عبر ستار وهذا ما تقوله الوثيقة في فقرة أخرى:" في حال حدوث تغيير وقائي في انظمة دكتاتورية متمردة ، يجب منح الشركاء المحليين فرصة التصرف أمام الناس من أجل الهيبة". بمعنى أكثر صفاقة:عدم الظهور العلني في الحياة السياسية والتحكم عبر أستار وأنفاق وسراديب وترك الشركاء يتخاصمون أمام الكاميرات لأن هذا يضاعف وهم الناس بالاستقلالية، وفي هذا الوهم تصبح الخطوط الحمراء تشبه الخطوط السوداء،كما تتشابه العمائم مع القبعات.