|
|
وقائع الأيام العراقية القادمة |
|
|
|
|
تاريخ النشر
11/03/2010 06:00 AM
|
|
|
في البلدان الديمقراطية العريقة عادة ما يقوم المرشح الخاسر بإعلان قبوله الهزيمة ويرفع سماعة الهاتف ليهنئ الفائز، من النادر جدا أن يعلن الخاسر أنه لا يقبل بنتيجة الانتخابات، وحتى لو كانت لديه شكوك ما فإنه يفضل تجاوزها على الطعن في المؤسسات والتقاليد الديمقراطية السائدة، وهكذا فإن آل غور بعد خسارته المثيرة للجدل أمام بوش وقف بوصفه رئيسا للكونغرس وفي جلسة المصادقة على النتائج ضد محاولات الكثير من النواب الدعوة لعدم قبول النتائج. ذلك لن يحدث في العراق، ليس فقط لأننا في بلد لم تتشكل بعد تقاليده الديمقراطية، وأن حكم المؤسسات، كما حياديتها، لم يتحقق بعد، بل أيضا لأننا في مجتمع بدرجة ثقة متدنية جدا، والفرق بين مجتمعات الثقة العالية ومجتمعات الثقة المتدنية أن الأولى تنجح في إقامة ثقافة مدنية قوية تمثل أساسا صلدا لحكم المؤسسات وحياديتها وللمحاسبة، في حين تعجز الثانية عن تشكيل ثقافة مدنية فتنكص إلى مصادر الولاء التقليدية القائمة على العصبية أو تشكل مؤسسات بأشكال حديثة لكنها بمحتوى تخترقه تلك الولاءات وبالتالي تحد من مصداقيتها وكفاءتها. في مجتمعات الثقة المتدنية يمثل الشك سلعة سياسية رائجة ومقبولة، فطبيعة الصراع من حيث إنه لا يزال يجري ولو ضمنيا لأجل السيطرة على النظام وإعادة تشكيله يجعل أي قواعد للعبة، بما فيها الانتخابات، مجرد عنصر من عناصر الصراع الذي يدار بأدوات أخرى كالعنف واستدعاء التدخل الخارجي والتشكيك في النظام. من هنا نستطيع التنبؤ بأن معركة ما بعد الانتخابات لن تكون أقل شراسة عن تلك التي سبقت الانتخابات، وربما تكون أكثر شراسة لأنها تنطوي على تقرير أوزان ومصائر الكثير من السياسيين وربما الأحزاب الذين سيكون قبول النتائج بالنسبة لهم قبولا بالخروج من المسرح السياسي. لذلك ليس غريبا أن معظم الأطراف المشاركة في العملية الانتخابية قد مهدت مسبقا لصراع ما بعد الانتخابات عبر مواقف وتسريبات إعلامية تشكك في نزاهة العملية الانتخابية، والمشكلة هنا أن تلك المواقف ليست من النوع الذي يمكن التحقق منه لأنها تستند أساسا على التشكيك في النوايا، ومن النوع الذي عبر عنه أحد السياسيين حينما أعلن أن قائمته إذا لم تحصل على الأغلبية فإن الانتخابات مزورة!! وهنا نحن بصدد وضع يعني ضمنيا أن الانتخابات مزورة حتى يثبت العكس، ولأن آليات التحقيق ونظم مراجعة الشكاوى الانتخابية في العالم موضوعة للتحقيق والتدقيق فيما إذا كان تزوير أو خرق ما للنزاهة قد حصل، فإننا ربما نكون وفق هذا المنطق بصدد إيجاد آليات لإثبات أن التزوير لم يقع؟! ولكن التشكيك في النوايا يأخذ هو الآخر تعبيرات مختلفة ومتناقضة يصبح معها من المحال جعل كل اللاعبين قانعين بشروط اللعبة، فهناك فريق يشكك في الموظفين المحليين ويدعو إلى دور رئيسي للموظفين الدوليين، وفي المقابل هناك فريق يشكك في الموظفين الدوليين ويدعوهم إلى الاكتفاء بدور استشاري، هناك من يتحدث عن فائض مريب في أوراق الاقتراع وهناك من يتحدث عن نقص مريب فيها، وهنا تصبح قضايا تقنية مثل عدد أوراق الاقتراع وطبيعة البرنامج الحاسوبي المعتمد في إدخال البيانات ونوع الاستمارة الخاصة بالنتائج ونوعية ورقة الاقتراع، جزءا من خطاب التشكيك الذي لا يبحث في الحقيقة عن أجوبة تقنية مريحة كما أن أيا من هذه الأجوبة لن تريحه، فالمشكلة مجددا هي في شك متأصل في النوايا، نوايا الخصوم ونوايا الموظفين وربما نوايا الناخبين. مع ذلك، ورغم أهمية الإجراءات الفنية والتدقيقية والرقابية وحيادية المؤسسة العاملة عليها، فإن هذا الشك المتأصل هو نفسه مصدر نزاهة الانتخابات، فجميع الأحزاب الكبرى قد أرسلت وكلاء لها لمراقبة العملية الانتخابية في كل محطات ومراكز الاقتراع، وهم يراقبون العملية من بدايتها وحتى إعلان نتائج كل محطة، عشرات الآلاف من المراقبين الدوليين والمحليين سيوجدون في تلك المراكز وسيضعون تقاريرهم حول الانتخابات، وسائل إعلام متحزبة ومسيسة ستبحث عن أي هفوة يرتكبها الخصم، عملية إدخال البيانات ستتم بوجود وكلاء ومراقبين في مركز التدوين، كل كيان سياسي سيراقب تصرفات الآخر بدقة ليسجل عليه أي خرق محتمل، نظام القائمة المفتوحة الذي سمح بتوسيع فرص المستقلين سيجعلهم يكثفون الرقابة في مناطقهم المحلية، وكل هذه العوامل ستجعل موظفي الاقتراع (بافتراض قاعدة أنهم غير نزيهين حتى يثبت العكس) يفكرون ألف مرة قبل التأثير على النتائج وبشكل قد يعرضهم للمساءلة والتجريم. إن نزاهة الانتخابات لن يضمنها وجود نوايا طيبة وثقة قوية في المؤسسات، بل سيضمنها وجود هذا الشك الكبير وعدم الثقة التي ستجعل كل طرف من الأطراف شديد الرقابة والتحسب. مع ذلك فلأن التشكيك هو استراتيجية في الصراع، سنسمع الكثير من الأصوات التي تدعي أن ما حصلت عليه فعلا في مراكز الاقتراع أكبر مما أعلنته مفوضية الانتخابات، أو ستضخم من حالات فردية أو في التشكيك بالآليات، ربما ستكون هناك مظاهرات وتهديدات وتفجيرات، لا يتعلق الأمر هنا بالرغبة في انتخابات نزيهة بل بالرغبة في التأثير على النتائج أو تقييد مفعولها. مع ذلك ورغم كل ما سيقال، فإن العراق يشهد اليوم واحدة من أكثر الانتخابات في تاريخ المنطقة مصداقية وأهمية، ليس لأن أطرافها ديمقراطيون ويثقون في العملية الانتخابية ونزاهتها، بل لأنهم لا يمتلكون تلك الثقة أصلا.. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ د. جابر حبيب جابر
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|