|
|
الشكوى من القادم الجديد |
|
|
|
|
تاريخ النشر
11/03/2010 06:00 AM
|
|
|
في الصغر، كنت أظن أن العراقي وحده يخاف من الغريب، حتى ولو كان من لسانه ودينه او مذهبه. في الشباب رأيت ان العرب كلهم يحملون هذا الخوف. والآن في كهولتي، ارى العالم كله مسربلاً بأقدم مشاعر الانسان هذا: الرهبة والفزع والتوجس من كل غريب. وانا لا اتحدث عن الحيوان، ولا عن النبات، ولا عن الحجر، ولا عن الفضاءات اللامأهولة، الصامتة، بمادتها السوداء، وثقوبها السوداء، وشموسها الجديدة، او الكابية، او المائتة، انما عن البشر أتحدث. انعدام المعرفة، في اللقاء بالغريب، يتحول بآلية خفية، الى ريبة، والريبة الى توجس، والتوجس الى خوف، والخوف الى عداء مكين. في الماضي كان اجدادنا يخافون من السعالى، والاباليس، والجن (الازرق والاصفر)، في يومنا هذا تحول كل غريب الى سعلية وابليس وجني في جسد واحد. العراقي المهاجر، يبدو في نظر الماكث في وطنه، غريباً، مريباً، والاتراك يسمون المهاجر الى المانيا «المانجي» (على وزن عربجي او قهوجي)، باعتبار السكن في المانيا مهنة، بل حرفة مزدراة. وفي ايران كل مهاجر يحمل صفة «غرب زاده» اي متغربين. قد تكون هذه الصفة مغرية للطامحين والطامحات الى زيجة في «بلاد برا» ولكنها قطعاً تكلف صاحبها او صاحبتها قطع رقبة. واليوم ينضم المصريون الى هذه القافلة، لمناسبة عودة احد الاغراب: البرادعي. وفي اوروبا يبدو المهاجر، الآسيوي او الأفريقي، او الأميركي اللاتيني، مثل دمامل على الوجه، او في احسن الاحوال: ثؤلول على أنف حسناء. هناك في علم النفس اصطلاح خاص: رهاب الاجانب (Xenophobia). لا ادري من نحت هذا المفهوم، لكنه يمسك بتلابيب هذا الخوف، وتلك الكراهية لكل ما هو غريب. كنت افضل بدل رهاب الاجانب، رهاب الغريب، فالاجنبي بالتعريف الحديث كل من لا ينتمي الى حقل الدولة الوطنية. لكن الغربة التي بين ايدينا شاملة داخل هذا الحقل وخارجه. ينبغي ان نفتح عيادات لفحص «رهاب الغريب» هذا. ولن يتسنى للفاحصين معاينة المرضى، فهم امم بأسرها، عدا حفنة صغيرة، لا ترى الا بالكاد. ولن تكون عقول المرضى وحدها مادة للاختبار، بل كل ما تختزنه من افكار. والعجيب ان لكل فكرة قدرتها على توليد هذا الرهاب. فالدين والمذهب والاثنية والانتماء الى قبيلة، او مدينة، او اسرة، يولد تلاحماً حميداً في السراء والضراء، لكن هذا التلاحم عينه يقتضي كل ما لا يندرج في نسيج العصبة المولدة له. عانى العراقيون العائدون الى بلدهم بعد 2003 هذا الرهاب من الآخرين إزاءهم، ومنهم إزاء الآخرين. وتكاد كل جماعات الاعتراض المهاجرة ان تلاقي المصير نفسه، في اوروبا الشرقية، وافريقيا. ومن يقرأ مذكرات ايزابيل اليندي سيجد ان الاميركيين اللاتينيين يحملون هذا الفايروس القديم - الجديد. بالامس اعادتنا هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) الى هذه الأجواء، وهي تغطي عودة البرادعي الى مصر. أسباب الاعتراض عليه سياسية أساساً. ولكن من يجرؤ على الافصاح عن الخشية من التنافس. ثمة تلبيس حاذق استدعى «رهاب الاجانب» او «رهاب الغرباء» الى الخدمة بكامل عديده وعدته. وها نحن إزاء اكوام من التهم. فالبرادعي لا يفهم مصر، لأنه قضى حياته في الخارج. ويعلم المشتغلون في العلوم الاجتماعية ان افضل الدراسات وأدق المعلومات عن بلداننا المنكودة لا تتوافر «داخل» الاوطان، بل خارجها. فالبيروقراطي المستبد يطرد، بجرة قلم او لسعة كرباج، كل باحث متطفل من ابناء وبنات جلدته، لكنه ينحني امام المؤسسات الدولية. بلداننا شفافة في الخارج، معتمة في الداخل. والبرادعي غريب، لم يعش في مصر، ولم يعانِ ما يعانيه المصريون، اي لا يأكل الفول مع الغلابة، ولا يشرب الماء الملوث مثل فلاحيها، ولم يسمع آخر النكات التي يطلقها المصريون اللماحون، الاذكياء، بعد سحابة نهار مكرب. فهو في اوروبا ينعم بالنظافة، والدعة والامان، ووفرة الكماليات، وما شاكل. ولكن هذا حال سائر الطبقات، الوسطى في العالم وليست مصر استثناء. بل ان «القطط السمان»، اللقب الشعبي المفضل لاساطين المال والاعمال، ينعمون بأكثر من ذلك، ويمتصون هذا الرحيق من جسد الامة. والبرادعي تغربن اكثر من اللزوم. فلم يعد مصرياً. تنبغي احالته الى طبيب شرعي لفحص درجة حرارته الوطنية. الاتهامات التي كيلت للبرادعي مضحكة، قدر ما هي مزرية. الحوافز السياسية في هذه الاتهامات مكشوفة، فهي تصدر عن دعاة طبقة السلطة، تلك التي اطلق عليها الشاعر احمد فؤاد نجم كناية «عبد اللاصق بن المثبت». قد يكون البرادعي وقد لا يكون سياسياً ماهراً، وقد يتسم بالنزاهة والاستقامة، او يفتقدهما، ولكن وجوده المحض علامة عافية في جسد المجتمع المصري، الموّار بالفطنة، والابداع، وان رهاب الاجانب علامة سقم عضال في جسد الثقافة السياسية. المحنة، في هذه الحال، ليست في وجود هذا الرهاب، بما هو عليه، بل في اندماجه ببنية الاحتكار السياسي، وتحوله ايديولوجيا رسمية. وتكاد كل الحكومات الاحتكارية ان تزج التراث السريري لهذا المرض في خطابها التعبوي. فكل معارضة خارج الوطن موسومة بميسم الخيانة الوطنية، اما داخل الوطن فهي ممنوعة ببساطة. والحال ان المعارض مائت داخل وطنه، مائت خارجه، في وطنه على يد العسس، وخارجه على يد الدعاية الرسمية. لا نستغرب، والحال هذه، ان يتحول هذا المرض الاجتماعي – النفسي، الى عقيدة مثلى لأجهزة الأمن والاستخابرات على امتداد الوطن العربي وجواره الاقليمي. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ فالح عبد الجبار
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|