|
|
"الهندي المزيف"عباس خضر يرقص بقلب حمامة |
|
|
|
|
تاريخ النشر
05/03/2010 06:00 AM
|
|
|
مفردة الهروب افرد لها الروائي العراقي عباس خضر مساحة واسعة في روايته المكتوبة باللغة الألمانية " الهندي المزيف" الصادرة عام 2008 عن دار ناوتيلوس في هامبورغ، أو تكاد موضوعة الهروب بكل أصنافه، العنصر الثابت و المحور الاساسي لهذا العمل، لذا هبطت الأحداث قبل وبعد هذه المفردة بصورة فنطازيا لواقع حقيقي يسير غالبا بعكس الاتجاه. الأحداث تتنكر لشخوصها أحيانا وتستبدلهم وكأنها تُسرد من فم هروب آخر. تبدأ الرواية بحكاية مسافر في قطار برلين ـ ميونخ يجد مخطوطة مرمية جنبه، لا تخص أي أحد، يفتحها ويقرأ ليجد في آخر الرحلة وفي آخر صفحات الرواية، أن المخطوطة تحتوي على قصته الشخصية، كتبها شخص ما مغيرا بعض الاسماء والأمكنة لا أكثر، ليبدأ هروب ذهني جديد في ذهن المسافر وأسئلة حول الذات والهوية. في المخطوطة يدعى البطل رسول حميد، وهو كقارئ المخطوطة، يغادر العراق بعد سنوات في سجون الديكتاتورية وفي سن العشرين يبدأ هروبه الغير شرعي عبر بلدان كثيرة قبل الوصول إلى ألمانيا. إن " طرق الهروب الغير شرعية" بين الشرق والغرب أو الهروب في المكان نفسه يلبس أشكالا كثيرة لكائن واحد، وهو الراوي وبطله، اللذان يتداخلان مع بعضهما ويجمعهم هرب آخر. وما يخفف من وطأة عذابات الهروب الزماني والمكاني تلك هي السخرية الغريبة من واقع مرير وشائك، التي تجعل القارئ يغرق في الضحك وتخفف من السوداوية التي تشكل فصول الرواية، وليس في هذا الهروب الساخر اثر سلبي، فأحلامنا متشابهة، وهذا ما يجعل بطل " الهندي المزيف" يروي من المكان ذاته قصة أخرى تندمج بقصص متعددة، وهنا تتجلى بوضوح فنطازيا الأشخاص والمكان معتمداً الرواي على تشابه العلات التي منحته حرية إعادة المشهد بصورة مغايرة وعبر رؤية جديدة، على نحو آخر نيابة عن كل من كانت له خطىً مريرة في هذا المكان " في العراق، في الأردن، في ليبيا ،في تونس، في تشاد، في تركيا ، في اليونان ، في إيطاليا، في المانيا.....إلخ "، حيث يتشكل فضاء الرواية المكاني. "الهندي المزيف " تشخيص متقن للعلل الاجتماعية والنفسية النابعة أصلا من رحم الاضطهاد بكل أشكاله، وبالرغم من ان الهروب ومحاولة النجاة من مطباته القاسية شكل الحجر الأساس الذي بنيت عليه أحداث الرواية، إلا أن خزين الذاكرة المُحزن كان يتوزع على نحوٍ ملفت، وبإتقان على شخوص الرواية ، فلكل حكاية هروب هناك اصل يمتد عميقاً إلى جذور وبكائيات استحضرتها الرموز لتهيئ لنا مدخلا يسيراً للفهم. وهنا لم يتجاوز الكاتب القارئ الألماني ولم يفرض خصوصية لغته وتعبيرها ، بل وببراعة يوضح للقارئ المعنى الذي اكتشفه الكاتب من خلال التقاط التشابه بين شرق وغرب في مواجهة المعضلات الاجتماعية مستعينا بالنظرة الإنسانية الواحدة في تحليل العلة، وهو المفصل الرئيس الذي استندت عليه أحداث الرواية للوصول إلى قارئ ذي ثقافةٍ مختلفة يبحث عن مكان يستكين إليه في عالم محتشد بالتناقضات. أجنحة عباس خضر المولود في بغداد عام 1973 والمقيم في ألمانيا منذ عام 2000 تحلق بما تبقى في الذاكرة من أوجاع رحلة لم تكن هينة، وعذابات خطتها أنامله بحذر وهو يتجاوز مخاطر طرق الحياة الوعرة، يستصحب هذا ألرفيف، ويتجاوز به الأسلاك الشائكة للعبور إلى حلم جديد. لم يختصر الكتابة إنما شاغل العبارات وهو يصر أن يتمسك بما تبقى من دوافع التحليق، ليقدم روايته بأكملها كما جاء في الإهداء لـ "للذين يحلمون قبل الموت بثانية بجناحين"، وعليه يصبح القارىء جزاً من هذا الهروب. ربما لان تجربة الروائي القاسية كانت مبكرة، وهو يصارع من اجل أن يعلن قدرته على الحياة. ولأنها رغبة القارئ أيضا لذا يشترك معه. ومع عباس خضر أيضا، وهو الذي قضى سنوات في السجون العراقية، يبحث القارئ أيضا عن مكان لا "خلف الشمس" وهو تعبير عراقي لـ "المعتقل"، بل تحتها. ومع أحلام الكثيرين ممن لهم رغبة في هذا التحليق ولو للحظة. انها دهشة يبحث عنها ولم يستكن، فان كان قد مر بكل هذه المسالك الوعرة وهو يقلب وجهات الأرض الأربع هو ذاته في أسيا وفي شمال أفريقا و ذاته في اروربا وفي أية بقعة وطأتها قدماه. الكتابة في "الهندي المزيف" هي انبعاث للحياة. وتحدٍ للقسوة. فهو يرقص مثل "زوربا"، كلما شعر بالحزن كما في الفصل الخامس من الرواية والمعنون " أعوذ بك من شر الفراغ"، وهنا روعة السخرية بانتصار ذاته. ولدت العبارات في الرواية من رحم الشعر، فلم يتنصل عباس خضر من كونه شاعراً، أصدر سابقا باللغة العربية ديوان " تدوين لزمن ضائع ـ بيروت 2002 " وديوان "ما من وطن للملائكة ـ القاهرة 2004"، فبالرغم من ان "الهندي المزيف" بكل ما يحتاجه العمل الروائي من سير وئيد للعبارة إلا أن ثمة حركة سريعة وإيقاع ملفت ينبعث من عالم شعري جميل، بحيث يجعل هذا الأمر القارئ مضطرا أن يجاري العبارات بحركتها السريعة حيث تتدفق الصور، فلا يكون أمامه إلا أن يشطر ذهنه نصفين، الأول يراقب الصور الشعرية المتدفقة والآخر يبحلق بالسير المتأني المتجاور لروح الرواية. الجغرافية الحسية لا تلازم جغرافيا المكان ولا تسير بمحاذاته، إنما تعاكسها. فالأولى ثابتة، والثانية جغرافية هروب وهذا هو الاستثناء. كل الرموز الحسية والمادية التي تضمنتها الرواية وهي كثيرة بين واقعية ،أو حالمة، أو ربما دينية أو حتى سياسية ، فان لكل رمز دلالة. " الهندي المزيف" نص مفعم بالحركة والتجوال السريع للفكرة وسرد لا يخلو من رؤى ً وجمالية وتدفق بكل بقعة وطأتها قدم بطل الرواية الباحث عن الحياة. استطاع عباس خضر بهذه الرواية أن يستدرج الحروب الكثيرة، ويسخر منها. بالرغم من آثار الجلد التي مازالت على جسد الذاكرة، لأنه ابن الحروب الكثيرة والملاحقات الدائمة. وربما يكون قد ترك فصولا أخرى سنكتشفها حتماً في سخريته القادمة على كل الأوجاع القديمة الجديدة، كما في الفصل السابع المعنون بـ "على أجنحة الغراب" والذي يوظف فيها ثيمة" القدر" على نحو محسوب اسندت إليها أحداث مهمة في الرواية، توغلت في نبؤات حسية غاية في الروعة ، ولكنه وهو المأخذ الوحيد على حضر، حيث أنني أجد أن هذه "الثيمة" تشبه الكاتب غرائبية ً وإحساسا ولكنه اختصرها. ربما يفي حقها في عمل آخر. ما يحسب لعباس خضر في رواية "هندي مزيف" انه رسم بدقة كبيرة معاناة جيل كامل من الشباب الذين عاشوا قهر الحياة وقهر الدكتاتورية وقسوة الوصول إلى ضفة النجاة ومشقّتها. واستحق بجدارةٍ إعجاب الوسط الأدبي الألماني وتقديره فمنحة ما يستحق، حيث نال منحة الفريد دوبلن للأدب و كذلك أكبر منحة أدبية في ألمانيا التي يمنحها صندوق الأدب الألماني بالتعاون مع أتحاد الكتاب الألمان لعام 2009 و ثم ليفوز هذا العام 2010 بجائزة "شاميسو للآداب" وهي الجائزة التي تقدم للكتاب الألمان من أصول أجنبية، ولا شك أن اللغة الألمانية ،ولغة الأدب تحديداً لغة ليست سهلة. وهنا يكمن إبداعه حتما لأنه استطاع بتميزه وموهبته أن يصل إلى ذهن القارئ الألماني بوسائل كثيرة لازمتها ذاكرةٌ كانت دائما معينه الذي لا ينضب. الأوراق، حتى تلك التي ضاعت أو حرقت حسب ما يخبرنا الراوي عن مخطوطاته الضائعة التي يصفها في الفصل الثاني المعنون بـ "الكتابة والخسارات" بانها مثل أقوام الغجر تضيع كل يوم في مكان أو في ثقب على الأرض، كما في المعتقل أو في طرق التهريب، يبدو بانها قد نسخت في ذاكرة عباس خضر، وجعلته مغامر كبير وساخر من الطراز الأول. المرأة في الرواية عالم جميل. لكل النساء وبلا استثناء مرور حميم على أوراقه الخاصة في أحداث الرواية. انه يراها عالماً مبهجأً وسببأً من أسباب كينونة الفرح، وديمومة الحياة ورمزأً للتضحية، وهذا نجده يتجلى واضحاً في الفصل الثالث من الرواية "بنات الكهنة" ،وهو يصف والدته التي تعمل في دكانهم الصغير لبيع الفواكه، وعندما تعود من العمل بعد نهار مضنٍ قضته بثياب لزجة متسخة، ويقارنها بصورة أب يجلس النهار كاملا في المقهى ويعود مساءً بكامل هندامه النظيف ليأخذ ما حصلت عليه الأم خلف نهارها الشاق. ومع هذا يسمى الدكان " دكان حميد" فقط لأنه رجل وليس بدكان " سليمة" لأنها امرأة. خلف هذا المشهد ومشاهد أخرى كثيرة عبر الكاتب عن أشكال القهر الاجتماعي المختلفة . أما الوجوه التي جمعها في الفصل الثامن "عودة الوجوه" خلف رحلة حياة سجلها بوجوه لا ليختصرها، وإنما ليُذكر بها. "وجوه الذين ماتوا في السجون ووجوه الذين سقطوا في الحروب ووجوه الذين غيبوا والوجوه التي استسلمت للجنون" يراها الكاتب وجوهاً يئست أو أجبرت على اليأس . العزاء الوحيد لبطل الرواية هي الكتابة. فيها يحلق إلى عوالمه . يبحث عن الورق حتى في القمامة ويسرقها أحيانا من هنا وهناك، ليكتب فيه قصيدة أو خاطرة عابرة، لأن بطل الرواية " رسول حميد" هارب ومطارد لا يمتلك من المال الكثير ليشتري دفترا فارغا يكتب به. عباس خضر عبر الكتابة أنتج جسراً حسياً بخيال ثاقب وإبداع متميز ليربط شرقاً بغربٍ وأيضا لينقل ويعبر عن معاناة جيل كامل يعيش في عالم مليء بالتناقضات. ربما كانت دراسة عباس خضر الجامعية للأدب والفلسفة في جامعة ميونخ وبوتسدام في ألمانيا، قد أضافت الكثير لشخصيته التي تبتكر السؤال الكبير منذ أن أدرك وعيه باقتدار، ولا يمر معه مروراً عابراً وسيجد القارئ أسئلته المبكرة حتماً في عملٍ قادم. إنَّ خلف كل هذا الزمن أسئلة أخرى مؤجلة. ولهذا مازال عباس خضر يبحث عن ورق جديد لكتابة جديدة . |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ ايمان محمد
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|