منذ ثلاث سنوات، اختطِفَ والدي في العراق. تم اختطافه من بيت طفولته في منطقة الأعظمية في بغداد. فبعد عودته من عمله ذلك اليوم من وزارة الصحة هاجم البيت رجال مليشيات مسلحين واختطفوه أمام أنظار جدتي ذات الـ 98 عاماً، والتي ما زالت حتى اليوم تعيش على أمل عودته. وعلى رغم كونه وزيراً في الحكومة ومستشاراً مرموقاً لأعضاء النخبة السياسية، من ضمنهم رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي ورئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري، فإن والدي رفض التحصن بالسكن في المنطقة الخضراء وحجته كانت بأن العيش هناك سيمنعه من إدراك محنة العراقيين البسطاء القاطنين خارجها. فقد اختار السكن في بيت والدته (جدتي) في واحدة من أسخن مناطق العاصمة، متخذاً من إحدى غرف البيت مستراحاً ومسكناً له من دون أي تحصينات أو كادر حماية خاص به، ومن دون اي جدران كونكريتية وغيرها من الأكسسوارات المفضلة للسياسيين، وهذا كان الحال حتى يوم اختطافه. «كان والدي مستهدفاً جراء تحقيق كان يقوم به لكشف الفساد في وزارة الصحة حيث كان يعمل، والوزارة كما يعلم الكثيرون كانت تحت سيطرة الصدريين. كان والدي على وشك فضح الواقع المظلم والإجرامي حيث يتم الاستيلاء على المنح المخصصة لتحسين القطاع الصحي في العراق وتحويل هذه الأموال لتمويل الميليشيات الطائفية لتدعم جرائمها ضد المواطنين الأبرياء. وكان من المتورطين بهذه الاختلاسات وكيل لوزير الصحة السابق ردّ على الفضيحة باختطاف والدي. «كنت مقتنعاً دوماً بضلوع هذا الرجل باختطاف والدي، ولكني تأكدت من ذلك تحديداً بتاريخ 12 آذار (مارس) 2007 خلال حديث مع واحد من أقدم وأعز أصدقاء والدي وهو رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري. فعند دعوته لي ولأخي لزيارة بيته في لندن أخبرني، وبعبارات واضحة ومباشرة، ان لديه معلومات عن ضلوع ذلك الرجل باختطاف والدي. بعد ذلك، صدمت بأخبار خوض «حزب الإصلاح» بقيادة الجعفري الانتخابات المقبلة ضمن تحالف «الائتلاف الوطني العراقي» جنباً الى جنب مع من قال انه خاطف والدي الذي يندرج اسمه كمرشح في قائمة الائتلاف عن محافظة بغداد. والمفارقة ان تسلسل المتهم يندرج تحت اسم من اتهمه الجعفري ببعض أسماء فقط! «انقلاب الجعفري بهذه الصورة المفاجئة يحمل درساً مهماً عن الواقع المحزن للسياسة العراقية في فترة ما قبل الانتخابات النيابية المقبلة. فالمسألة بالنسبة لي هي أنني لست بصدد دعم أي من الأحزاب أو الكيانات المرشحة للانتخابات المقبلة، ولكني أود أن أوضح لماذا سيكون التصويت للائتلاف الوطني العراقي غلطة يجب ان لا يرتكبها اي عراقي غير طائفي. فصغر عمر الديمقراطية في العراق يعني ان السنوات التكوينية لهذه الديمقراطية هي الأشد خطراً بالذات. فالبلد يحتاج الى حكومة تتكامل وتبني على ما أنجزته الحكومة من مكاسب (وإن كانت ضئيلة)، وأهم ما في الحكومة المقبلة ان تكون صاحبة رؤية تهدف الى إعادة بناء مجتمع مدني بعد أن دمرت الحروب والعقوبات الاقتصادية المجتمع في العراق. «الائتلاف يعجز عن قيادة البلد في هذا الاتجاه كونه مشكلاً من سلسلة من تجمعات سياسية لا تشترك سواء بالرؤية او بالمعتقد. فهذه التجمعات تأتلف عبر خليط من الطائفية والتعطش للسلطة. خليط من القوة يجعل اي تظاهر بالأجندات والأيديولوجيات المشتركة أمراً ثانوياً وهامشياً. في العام الماضي أظهرت انتخابات مجالس المحافظات علامات ملموسة ومشجعة باتجاه تغيير ديناميكية المشهد السياسي العراقي. فالتحالفات والكيانات الوطنية المنفتحة على كل العراقيين تغلبت بفارق واضح على الأحزاب العرقية والطائفية التي كانت ذات شعبية واسعة في عامي 2004 و 2005. ومع هذا وللأسف يبدو أن مكاسب العام الماضي لم يتم تأمينها بعد حيث ما زال هناك أرجحية واضحة للشخصيات السياسية المعروفة التي تفرض نفسها على الساحة السياسية بقوة. فالكثير مما يحدث قبيل الانتخابات العراقية يمكن تفسيره بهذه الظاهرة المكرسة من قبل أحزاب سياسية معينة ضمن سعيها للفوز بالأصوات الانتخابية. «الائتلاف الوطني العراقي يدرك جيداً ان جاذبيته لا تتعدى الرجعية الطائفية والحس الطائفي لدى الناخب. فبعد أن كانت الدماء المراقة بين عامي 2005 و 2007 قد سدت أي شهية للطائفية، فعّل الائتلاف وبنجاح قضية «اجتثاث البعث» لإدراكه مدى تأثيرها في نفوس شريحة كبيرة من المجتمع. فباختلاقه جواً من الخوف من طريق حملاته الانتخابية التلاعبية وشعاراته من نوع «امتناعك عن التصويت سيعيد البعثيين» قصد الائتلاف استغلال خوف غالبية العراقيين من حزب البعث، هذا الخوف العميق والمتغلغل في نفوسهم بسبب ما عانوه سابقاً. هذه الاستراتيجية يمكن ان يكون لها عواقب وخيمة على مستقبل العراق، فهي تريد أن تصعّد الاحتقان الطائفي بصورة غير مباشرة وهو أمر شديد الخطورة وبإمكانه ان يقوي قوًى لا يمكن حزباً سياسياً أن يحتويها، ويمكنها بكل تأكيد ان تمزق النسيج الاجتماعي الهش في العراق. إن اكبر التجمعات في الائتلاف هو الأحزاب الإسلامية، وقد بينت هذه الأحزاب مراراً وتكراراً وعلى رغم احتكارها الادعائي للأخلاقيات بأنها دوماً مستعدة للتخلي عن مبادئها في سبيل السباق على السلطة. بعض الشخصيات البارزة في الائتلاف هم من أصدقاء العمر لعائلتي، وعلى رغم ذلك، فهم تشاركوا الصفوف مع ذات الشخص الذي مزق عائلتي. فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا كان هؤلاء الأشخاص لا يتورعون عن خيانة والدي الذي كان صديقهم وزميلهم، فما الذي سيمنعهم من خيانة مطلب البسطاء من العراقيين؟ وإذا هم تنصلوا من واجبهم تجاه عائلتي التي عرفوها شخصياً وكانوا من ضمن المقربين لها، فما هي حظوظ غير المعروفين من قبلهم من العراقيين ومن ليس لهم من ناصر ينتصر لحقوقهم ويرعى شؤونهم؟ الأحزاب المنضوية في الائتلاف غالباً ما تنظر الى نفسها على أنها طليعة الداعين الى سلوك أخلاقي. ولكن في الوقت ذاته يتجنى رجالات هذه الأحزاب على المفاهيم الأساسية للعدالة بدعمهم وتمويلهم للجرائم الطائفية والخطف والفساد. هذه المبادئ المتحولة تُمَط و تُفَصل لتناسب طموحات سياسية في العراق أسهمت في إنتاج نظام تكون فيه القضايا المسيطرة على المسار السياسي، وهي ذات القضايا التي تروج لها التحالفات الحاكمة في حملاتها الانتخابية، غير ذات أهمية في التقدم السياسي والاقتصادي في العراق. فبدلاً من تقديم برامج طويلة الأمد أو رؤًى حول قطاعات الصحة أو النفط أو حرية التعبير والتمثيل الاجتماعي والسياسي، نراهم يركزون على مؤهلاتهم في معارضة حزب البعث وعلى شعارات لا تمت لمستقبل العراق بصلة. تمت تبرئة خاطف والدي خلال محاكمة هزيلة عمرها يوم واحد لا غير، وتغيرت فيها الشهادات، وهدد الشهود بالقتل، ومنهم عمتي (شقيقة والدي). هذه المحاكمة وصفها مارك ولثر من وزارة العدل الأميركية كونه ترافع فيها بأنها «مهمة مثل محاكمة صدام، ان لم تكن اكثر أهمية منها» مضيفاً ان محاكمة ناجحة يمكن ان تظهر ان حكومة ذات غالبية شيعية «أصبحت مستعدة لتحاكم شيعياً منها»، وبهذا يكون العدل قد مورس على أساس واحد وليس بدافع انتقامي ضد جهات أخرى. لكن المحاكمة خيبت كل التوقعات على رغم رصانة القضية والأدلة المقدمة. وبعدها طالب أهلي بإعادة المحاكمة مستندين الى الاختراقات الكبيرة في المحاكمة الأولى، ولكن طلباتنا لم تلقَ آذاناً صاغية. أما أداء المحكمة فقد لطخ سمعة القضاء العراقي واستدعى الشك في إمكانية تحقيق ممارسة قانونية غير فئوية وغير مسيّسة في العراق. لم أقرر بعد لمن سأمنح صوتي في الانتخابات المقبلة، ولكني وبكل تأكيد سأمتنع عن التصويت للائتلاف الوطني العراقي... سأنتخب آخرين من دون شك».
* نجل وكيل وزارة الصحة العراقية المختطف من منزله.
|