أولاً، انا ابن بلد، اعرف حلوهُ، وان كان قليلاً، وأعرف مُرَّهُ وان بدا لا نهاية له. كما اني لم آت من "تكية" ولا من "دير" بل من زحام هذه الدولة التي تدول بنا. ثم إني أعرف المثبطات فيها والمحبطات والمفجعات المخيبات بأصنافها وأنواعها من الأفراد الى الجمعيات والأحزاب..
كل تلك وسواها لا تمنعني من الكلام في الاتجاه الذي يمنح الإنسان قوةً واستمرارية على العمل والعيش، والإشارة إلى الضوء ليتجه نحوه.رب قائل يهمس لصاحبه: ما لهذا الخمسيني- الستيني يتحدث بتعابير ولّتْ وبحماسات صارت مضحكة بعد مرور العاصفة وتغير الناس والأفكار؟ أقول، مهما حدث، مهما سيحدث، ما على الكاتب الا ان يكون أخلاقياً ليكون محترما. وما عليه الا ان يكون الى جانب الإنسان في تقدمه وفي تدهوره الاجتماعي والروحي. وما على الكاتب إلا أن يظل ذا نزوع ثوري تقدمي لتحترمه الإنسانية والتاريخ. وأمامكم تاريخ الحضارة وأمامكم تاريخ الأدب. ما كان احترام الأسماء بسبب الخزعبلات والعبث اللفظي ولكن لأنها أسهمت في عون الإنسان على الرؤية وعلى الكشف وعلى الوصول.في مرحلة من ثقافتنا، كنا، وما يزال كثير منا،نشكك في جدوى الدعوات إلى ادب من اجل الإنسان تعبأة وتنويرا وإيقاد حماسة، وظننا ان في ذلك قصورا في الثقافة الحديثة وتخلفا في متابعة الاتجاهات الحديثة والتجديد.علما، ان ذلك المغزى هو جوهر الأدب مثلما هو جوهر الفنون كلها.واليوم، وقد اتعبتنا السنون وتعرفنا على المدارس الجديدة والاتجاهات الحديثة في الفنون والآداب، عدنا نتأمل ثانية في الظروف الجديدة وإشكالات الإنسان الاجتماعية والشبكات السرية والعلنية التي تملأ طرقات حاضره ومستقبله بالأنقاض والمزالق وبالألغام والمكائد. وانتبهنا الى ان القذائف أصابت القيم والأخلاق قبل ان تصيب المباني والمؤسسات. ثم رأينا الناس مستلبين وسط تآمر الرساميل وأصحابها والمؤسسات والشركات الكبرى وما وراءها من الملحقات والإتباع الراكضين وراء السحت والتعاسات. فإنساننا اليوم مثل من أُصيب على جمجمته ليس له غير ان يجلس عاجزا ويستسلم. وعندما نرى خسارة الجموع الكبيرة لقيمها، وأننا أمام مشهد فاجع لهزيمة أخلاقية في الشارع والدائرة والحزب والجمعية والمدرسة..، إذن نحن إمام الهوة الكبرى التي تستدرج شعبا بأكمله ليسقط سقوطه الأخير..فهل تظل الكتابة لهوا؟ أليس ما يمنح الكتابة معنى هو إنسانيتها ؟ ألسنا بحاجة الى حماسة جديدة تعيد الوهج لروح الجماهير وتعيد جذوة الكفاح الجماهيري للانتفاض على الواقع المُدمَّر من اجل مستقبل نظيف مشرف؟ وحتى اذا لم يكن العمل من اجل أهداف كبيرة كهذه، ففي الأقل لكي لا تظل حياتهم خامدة باردة بلا معنى او لكي لا يستمر السقوط ويضيع البلد والناس..صحيح نحن في القرن الحادي والعشرين رقما ولكننا واقعا دون ذلك بقرنين اذا لم أقل ان بلدانا في القرن السابع عشر، بل السادس عشر أفضل منا الآن حضارةً ولياقةً وإنسانية! لماذا اذن هذه الكبرياء؟ لماذا نستنكر دعوة نافعة تعود إلى خمسين او ستين سنة سبقت ونحن دون ذلك اليوم؟بعض أدبائنا من اصول فلاحية وعمالية كادحة يظنون ان جماليات الإبداع الجديد هي بعض من مظهرية تقدمهم الاجتماعي وترفعهم الطبقي.أقول اولا هذه الجماليات ملك الإنسانية كلها، لأنها نتاج الجهد الإنساني والتقدم البشري. فهي ملك طبقتك وملكك. ثانيا انت أولى بامتلاكها والإفادة منها لعظم احتياجاتك الجوهرية لها. الطبقات والفئات الأُخرى تحتاج إليها للزهو او للإمتاع وأنت تحتاج لها للنضال وللتقدم الحضاري." لا يوجد فن محايد مادام المجتمع طبقيا"! هكذا قيل منذ زمن!الفهم الخاطيء بان وراء دعواتنا رغبة بأدب بسيط غير متطور، واننا نحيد عن طريق الحداثة والتجديد، وان مثل هذه الدعوات تصد عن المنجز الحديث ..الخ مثل هذا الفهم أساء كثيرا إلى جماهير العالم الثالث، وترك جماهيرنا بلا سلاح! على العكس تماما، تطور الأساليب وتطور الفنون وتطور التكنيك هو تماما في صالح المسيرة النضالية للإنسان وهو تماما ما يحتاج له الإنسان للتقدم ولإحراز المزيد من الحرية. أذكر جملة وردت على لسان بطل قصة روسية تعود إلى العشرينيات: "نعم، يقربنا التكنيك من هذا، لا لسنتمتر واحد، وإنما لمئات الأميال"!هذا الكلام كان قبل أكثر من سبعين سنة!إننا لا نتحدث في "الكماليات" او الثانويات من الأمور. البلد مدمر والجماهير ضالة مضطربة والهزيمة الأخلاقية واسعة الى حد مخيف، والواجب التاريخي اليوم إسناد الشعب والبلاد وحمايتهما من الهاوية. إن إعادة الثقة وإيقاد شعلة الحماسة الوطنية والنضالية في نفوس الجماهير مهمة آنية، وهي لا غيرها، ستمكنهم عندئذ من القراءة الجيدة والعمل الجيد والمسيرة الواثقة. وهي الكفيلة بـ"إعادة الإعمار" الأخلاقي والنفسي.نحن بهذا لا نريد كتابات هوجاء فارغة، لا ندعو للتغني بما هو ليس حقيقيا ولا ممكننا. لا نريد الحديث عن موضوع عام لا يحدد القضية ولا يمس الجوهر الإنساني او الدقيقة المُعاشة. على العكس، نحن ندعو إلى صلة أعمق وأكثر وعيا مع الواقع والحياة اليومية وكشف المرحلة مثلما كشف عيوب العصر ومباهجه بعامة وتزويد الإنسان المُسْتلَب في بلادنا، والمُضلَّل، والخاسر، وكذا المناضل الخائب، بالطاقة، بالإيمان بالمسيرة الإنسانية والحياة الجديدة وانه واحد من الإنسانية الواسعة، وليس وحيدا!قد نعتبر هذا "صناعة" فلتكن، هي صناعة حياة وبناء مجتمع جديد يؤمن الإنسان فيه بأنه محوّل الظروف التاريخية! بتجديد هذه الدعوة القديمة- الأبدية نحقق، ومن خلال التثقيف، بناء مجتمعنا اليوم وفتح الطريق مجددا لمواصلة النضال والتقدم في هذه البقعة من العالم. وسيكون لهذه الدعوة فعل في التحول الروحي والأخلاقي على نطاق الفرد. وبهذه الدعوة، اعني بهذه الحيوية، سنرى ادبا جديدا وكتابة حية ساخنة بعيدا عن الهلاك الموشك والتفسخ الذي يعقب الخيبات والهزائم. إنني اشعر بالأسف لان أحزاباً مناضلة لها تاريخها المجيد، قد تخلت أدبياتها عن دعوات كهذه وهم يرون الحال التي آلت إليها الجماهير، وكأنها هي ايضا استسلمت او شُغِلَتْ عنها، وهل يُشْغَلُ صاحب المهمات عن مهمته الأساس الأولى؟ وفي حال تلف الجماهير وخسارتها، بأي سلاح يكون النضال وكيف يكون المستقبل؟ أم إن هذا أمر لم يعد يعني أحداً ؟ لن أتوقف عند هذا الجرح الموجع، وأعود لإثارة ما خمد، لكنها دعوة لمنح الجماهير أملاً ونارا ومعنى. نعم، دعهم يعيشوا في حماسة العقيدة والهدف الأبعد ليكون للحياة عندهم معنى ويكون ايضا للكتابة معنى. قد لا يؤمن البعض بوجود "الفردوس" ولكن وجودها ضروري لملايين عريضة لا عزاء آخر لها، ولا شيء غير اصلاح حاضرها والأمل بالمستقبل يبقيها تعمل "خيراً" وتحافظ على قيم ومثُلٍ ,وتحرص على احترام الإنسانية والكوكب الذي تعيش عليه
لإيقاد الشعلة التي خمدت
|