نقاش : في زيارة تعد الاولى لأكاديمي فرنسي كبير، وصل الى بغداد "جيل كيبل" الذي يعد اهم المتخصصين الاوربيين في الاسلام السياسي، يعمل كيبل رئيسا لقسم الدراسات الشرق أوسطية والبحر متوسطية، ورئيس برنامج "العقول العربية والمسلمة" للدراسات العليا، بمركز الدراسات السياسية بباريس IEP. وهو حاصل على الدكتوراه في الاجتماع والعلوم السياسية، وعلى درجات علمية في اللغتين العربية والإنجليزية والفلسفة. وحول اخر اطروحات كيبل عن مثلث الازمات في الشرق الاوسط ومستقبل العراق بعد انسحاب القوات الاميركية أجرت نقاش حوارا معه يستشرف مستقبل العراق والمنطقة قبيل الانتخابات البرلمانية العراقية.
نقاش : ما هي دوافع زيارتك للعراق؟
كيبل: زيارتي للعراق تمثل محاولة من قبل الاوساط الاكاديمية الفرنسية من اجل دعم العلاقات الثقافية والاكاديمية بين البلدين، وقد القيت محاضرة في المركز الثقافي الفرنسي وقابلت بعض المسؤولين الاكاديمين على مستوى الوزراء لنبحث معا ملف ارسال طلاب الى فرنسا وتبادل الاساتذة، وهو ما يشكل صفحة جديدة من العلاقات لا يمكن تصورها قبل اعوام، فأنا ازور العراق في وقت لم تكن لي مثل هذه الامكانية في زمن صدام، والعلاقات الجديدة مع العراق هي علاقات تبدأ من المجتمع المدني، ونحن نركز على العلاقات بين الاجيال الشابة، ويتضافر ذلك مع وجود ارادة سياسية في فرنسا لتنمية العلاقات العراقية الفرنسية لا سيما بعد زيارة رئيس الوزراء المالكي ورئيس الجمهورية الطالباني لفرنسا.
نقاش: تتحدث عن محاور أزمات أو مثلث ازمات يشكل هوية الشرق الاوسط الجديد، كيف تصف لنا أضلاع هذا المثلث وأين موقع العراق منها؟
كيبل: صحيح، يمكننا تمييز ثلاث محاور أزمة تميز الشرق الاوسط المعاصر، فهناك "ازمة الشرق" والمتمثلة بالصراع الاسرائيلي-الفلسطيني وامتداده اللبناني-السوري، و"ازمة الخليج" حول مصادر الطاقة والتنافس الايراني-العربي والسني-الشيعي، وأزمة منطقة افغانستان-باكستان.
وبالطبع لكل محور من هذه المحاور الثلاث منطقه الخاص به، ولكنها مرتبطة بشكل وثيق على المستوى الاعمق. وهوية الشرق الاوسط تتشكل من خلال تداخل هذه المحاور كإشكالية معقدة بامتياز في النظام الدولي. ولذلك قلت ان الرئيس الاميركي أوباما عندما يخاطب العالم الاسلامي من القاهرة، وعندما يفتتح الرئيس ساركوزي قاعدة بحرية فرنسية في ابوظبي، فعليهما أن ياخذا بنظر الاعتبار هذه المحاور المتداخلة بنظر الاعتبار.
نقاش : هل نفهم من هذا الطرح ان الصراع التقليدي الذي شكل هوية الشرق الاوسط خلال اكثر من نصف قرن (الصراع العربي الاسرائيلي) لم يعد هو المحور الرئيس في حين تتقدم محاور اخرى كالصراع الطائفي السني- الشيعي؟
كيبل: نعم، ازمة الشرق تتراجع لصالح تقدم محور الخليج، فقد كانت ازمة الشرق تحتل الاهتمام الاعلامي منذ ستة عقود فضلا عن البعد العاطفي للصراع بين اليهود والفلسطينين، لكنها تتراجع اليوم امام هيمنة محور الخليج..لأسباب عديدة منها مصادر الطاقة التي تعبر يوميا عبر مضيق هرمز والتي تشكل خمس استهلاك الطاقة العالمي. ويندرج في صميم محور الخليج تحديات جمّة، كمعالجة الفوضى في العراق، وانسحاب القوات الامريكية منه، وعودة انضمام ايران إلى النظام الامني الاقليمي مقابل اندماجها مجددا في الاقتصاد العالمي، وهو الرهان الاكثر خطورة بالنسبة للرئيس الامريكي الجديد..
نقاش: الى أي قدر كان لاحتلال العراق اثر في تقدّم محور الخليج ليحتل موقع الصدارة في الاهتمام العالمي؟
كيبل: الصورة الحالية لازمة الخليج جاءت نتيجة لفشل مشروع جورج بوش في العراق الذي انطلق على خلفية تفكير المحافظين الجدد في تغيير العراق الى بلد مسالم ومتوافق مع الرؤية الاميركية تحكمه الاكثرية الشيعية-الكردية من دون نزاعات مع اسرائيل ولا انضمام إلى منظمة الدول المصدرة للنفط "اوبك".
وقد حل محل هذا الوهم خلال عهد الرئيس اوباما، الضرورة الكبرى من اجل اطلاق سياسة نشيطة تفضي إلى حل شامل للمشكلة الثلاثية الابعاد في الشرق الاوسط من خلال مد اليد إلى طهران. وفي هذا السياق، احتاجت الولايات المتحدة إلى تحييد الميليشيات الشيعية العراقية الموالية لطهران، في حين انها كانت تصطدم مع التمرد السني.
انتخاب احمدي نجاد في حزيران 2005 شكل بالنسبة للمؤسسة السياسية الايرانية فرصة من اجل الاستفادة القصوى من التورط الامريكي في العراق من خلال التصعيد اكثر فاكثر.
وهنا ينبغي القول، انه اذا كان المرشد الاعلى خامنئي قد دعم بقوة اعادة انتخاب نجاد، فان اوساط اخرى في السلطة منهم الرئيس السابق رفسنجاني، المساند لترشيح الاصلاحي موسوي، هي اكثر انفتاحا على الرؤية الامريكية وهم يرون الابقاء على نفوذهم في اطار دولة اسلامية اقل تشددا فكريا واكثر عملية، وكذلك الابقاء على الهيمنة الايرانية على الخليج مقابل توافق بين واشنطن-طهران.
نقاش: من برأيك الذي يسيطر على الاسلام السياسي في المنطقة ويتحكم بمفاتيحه، هل هم السنة او الشيعة؟
كيبل: انا قلت في اكثر من مناسبة أن أغلبية الناس لا يعرفون ما الذي حصل بتاريخ 15 شباط/ فبراير من العام 1989 بعد الانسحاب الروسي من افغانستان وانتصار الاسلام السياسي السني في حربه ضد الشيوعية، لماذا؟ لان حدثا أخر جذب انتباه الناس جميعا قبل ذلك التاريخ بيوم، اي في 14 شباط/ فبراير وهو صدور فتوى الخميني ضد كتاب سلمان رشدي آيات شيطانية. لقد قرأ الخميني انتصار الاسلام السياسي السني ضد الشيوعية على انه هزيمة للثورة الإيرانية الشيعية ونموذجها الاسلامي في الحكم، وكان اصدار الفتوى تعبيرا على الصراع بين الشيعة والسنة للهيمنة على الاسلام السياسي. وقد ضرب الاميركيون في ذلك النصر عصفورين بحجر واحد - كما تقولون بالعربية- لانهم هزموا الشيوعية من جهة واظهروا الخميني كعدو للانظمة العربية السنية من جهة اخرى.
نقاش: ولكن اليست ايران هي من يتحكم اليوم بأوراق الاسلام السياسي بشقيه السني (القاعدة) والشيعي (الميليشيات الشيعية في العراق، حزب الله في لبنان، الحوثييين في اليمن)؟
كيبل: ذلك يعود الى فشل الاسلام السياسي الراديكالي السني، اي فشل تنظيم القاعدة والذي فتح الابواب امام صعود نجم احمدي نجاد الذي شاهدناه في حرب او جهاد حزب الله ضد اسرائيل في حرب 33 يوما او تموز 2006، حيث كان بن لادن والقاعدة يجلسون في المقعد الخلفي في حين كان نصر الله ونجاد في الصف الاول. لكن محاولة السيطرة على الاسلام السياسي سوف تستمر وتفتح ابواب صراع جديدة بين البلدان العربية ذات الغالبية السنية -لا سيما في شبه الجزيرة العربية- من جهة وبين ايران - والعراق الى حد ما- من جهة اخرى.
نقاش: كيف ترون أثر الصراع الطائفي السني- الشيعي على مستقبل العراق؟
كيبل: العراقيون اليوم أمام مفترق طرق، ولديهم الخيار بين نظام طائفي كما في المثال اللبناني يقوم على التمييز الطائفي بين محافظة سنية واخرى شيعية لكن هذه الانشقاقات الكثيرة ستؤدي الى النهاية أو من الممكن أن يستفيد العراقيون من التجربة الاوربية، اذ لدينا تعايش بين الفرنسيين والالمان والبلجيكيين في نظام متوحد على المستوى الاقتصادي فيه تكافوء وتكامل، وربما سيشكل هذا رمزا للعراق الجديد الواقف بين خياري الفدرالية والتوحيد.
ان السؤال عن عراق آخر متوحد الاقطاب يتم الاتفاق فيه على اهمية العراق كبلد سواء بنظام فيدرالي او شبه فيدرالي سوف نسمع جوابه قريبا من خلال صناديق الاقتراع، وان كنا قد شاهدنا بعض التغيرات من السنة الماضية بعد انتخابات مجالس المحافظات ورد فعل المنتخبين ضد الفكرة الطائفية.
نقاش: بعد فشل التغيير من الخارج، هل تعتقد بأهمية الإصلاح من الداخل في العراق؟
كيبل: التغيير من الخارج او من فوق عن طريق الدبابات او باستخدام بالطائرات أدى الى اسقاط صدام وهذا امر جيد، ولكن قبل ذلك كانت لدى الاميركيين فكرة مسبقة عن ان اسقاط نظام صدام سيعمل على ازدهارالمجتمع المدني، ولكنهم نسوا ان العراق في العشر سنوات السابقة على اسقاط صدام كان يرزح تحت حصار اقتصادي دمر المجتمع المدني ومزق النسيج الاجتماعي العراقي فكان رد فعل الفرد الرجوع الى الى هويته الأولية، لذا فان الفرد في مدينة صدام سابقا ومدينة الصدر حاليا كان ينظر الى مرجعه الديني ورجع السني الى قبيلته مثلا والكردي الى هويته الكردية.. وهكذا عندما رفع الغطاء باسقاط صدام وجدنا مجموعة من الولاءات والطوائف، ومن المهم الان ان نفكر بكيفية بناء النسيج الاجتماعي العراقي، وهو أمر لابد ان ينبثق من الداخل.. |