|
|
سعد جاسم … شاهد علي قيامة البلاد - عراق يورث أهله مواويل الحزن |
|
|
|
|
تاريخ النشر
11/02/2010 06:00 AM
|
|
|
ضمن إصدارات إتحاد بابل ، صدرت للشاعر المبدع (سعد جاسم) مجموعة شعرية جديدة عنوانها (قيامة البلاد) ضمّت خمس عشرة قصيدة مثقلة بهموم وطنه: العراق وأوجاعه ، وتقطر ألما وإحساسا مرّا بشدة بلاده الفاجعة.وسعد المجبول من طين الفرات المقدس وملح (الديوانية) الأم وقف أغلب منجزه الشعري ومنذ سنوات لمواجهة الطغيان والاحتلال.وهذا هو معدن الشاعر الغيور الملتحم بتراب وطنه الطهور.ولا أعلم كيف يمكن لمبدع أن يبارك حذاء أجنبيا غازيا يدوس تربة الرحم الذي أنجبه؟!. (يا بلادي التي.. ضيعتني ــ وأي فتي أضاعت ثم ضاعت يا بلادي التي... أمرضتني وتداعيت وتداعت يا بلادي التي تقتلين...... يا بلادي التي تُقتلين... يا بلادي التي... أورثتني.. مطر الحزن وموال الحنين ــ قصيدة (بلاد علي حافة الجنون). وإذ يكتب سعد قصائد هذه المجموعة كلها وهو في منفاه المميت ، فإن التفصيلات الدقيقة التي انسربت بين طيات متون قصائده عن الحياة العراقية اليومية تثبت أن الشاعر الحق يجب أن يتمتع بذاكرة عاشق كبير ، ذاكرة تقاوم صدأ الزمن وشحوب المسافات: (وهنا.. ك.. من يحب الدماء حتي لو كانت دماء أطفاله الذين هرب وعافهم يتسولون الخبز في الكاظمية (سعد يذكرني بأنموذج حقيقي !!) (الخمسة والعشرينات) تحت نصب الحرية وهنا... ك من يحب الأسلحة وأعني الآلية منها و (البرنو)لأنها بسملة الخلاص والمآتم في (الرميثة) و (شرق البصرة) ــ قصيدة (بلاد تحت الصفر). ويمكنني أن أعد قصيدة سعد (ما وراء الألم) وعنوانها يشي بإحالة إلي أطروحة "نيتشوية" ، لكنها إحالة فكهة لأن الألم الحقيقي الذي عبر إلي ما وراء تخوم الألم البشري الحقيقية هو ألم الإنسان العراقي.. أقول أنني يمكن أن أعدّ هذا النص واحدا من عيون قصائد النثر التي تصوّر حياة المنافي والغربة والتشرد والضياع.. لقد توفّر هذا النص علي رؤية فنية عالية ، ومقومات درامية شديدة الإحكام ، ومنحي سردي متماسك جعلت هذا النص أنموذجا في كتابة قصيدة النثر المقتدرة التي حوّلها بعض الشباب إلي قصيدة صور منضّدة صورة فوق صورة لا تختلف عن قصيدة العمود التي أدانوا تأسيسها علي وحدة البيت وأشاروا إلي أنها قصيدة منضدة بيتا فوق بيت.وفوق ذلك فإن الشاعر سرد حكاية بطله المضيّع بضمير الغائب وحسنا فعل لأن استخدام هذا الضمير أتاح له ملاحقة حركته بعين عدسة سينمائية مشهدية عريضة: (.. وفجأة اكتشف أنه كان قد نسي: ــ كتاب خفته التي لا تحتمل ــ حقيبته المثقوبة بمدية الاحتراس المهذّب والمكتظة بالقميص ــ البحر الذي لم يره مطلقا - ساعة جيبه التي تنساه دائما مثلما تتناسي أيامها العاطلة تذكرها.. فجري بخطي صاهلة ــ من أين جاءت هذه القافية؟ من عبقر الشيطان... أم مضارب الهاوية نطردها... نهرب من رويّها تخلّصا من تهمة البنيوي والناقد الرؤيوي بأننا لا نفهم الحداثة الآتية ما ذنبنا إن كانت القافية في دمنا غافية؟ ــ ص 12) وفي القصيدة يكرر سعد اسم (ميلان كونديرا) أكثر من مرة في هذه القصيدة وحتي في القصيدة التي يرثي بها الحبيب الأعز الراحل (كريم چثير) وهو ــ أو بطله المنكسر ــ يحمل روايته الشهيرة (خفة الكائن التي لا تحتمل) في حقيبته ، فيذكرني بعبارة كونديرا الشهيرة (صراع الفرد ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان).. وصراع الشاعر العراقي ضد النوائب الفاجعات التي تمحق وجود شعبه ــ حتي وهو علي بعد آلاف الكيلومترات ــ هو صراع محتويات صندوق الذاكرة الأسود ضد عوامل التعرية التي تشنها مسافات الغربة وضغوط المنافي التي يبدو أنها لم تنل من سعد صاحب الضمير المتوهج رغم جسامتها.. كيف صحت في متن النص تلك المفردات العامية التي نسيتها حتي جدّاتنا؟: (كان يمشي... ويمشي لكأنه ذاهب إلي مجهوله الأبدي أو فردوسه الحلمي أو جحيمه الأخير كان يمشي... مترنما بأغنية (ثعولت) في قلبه الشائط فراح (يثغب) بها لائبا من فرط وحشته الجارحة كان يمشي.. ويبكي.. يم.. وي: - (يمّه الوطن باگوه من رحتوا إنتو طير بسجن حطّوه زين وخلصتو.. ــ ص 11) وفي تصاعد التوتر الدرامي في المشهد الأخير أقول بثقة أن هذه القصيدة يمكن أن تكون نصا مسرحيا مونودراميا هائلا خصوصا وأن الشاعر قد خلق فسحا يمكن أن تُوظف من خلالها مؤثرات موسيقية وصوتية وضوئية. وإذ أتذكر القصة الشهيرة (24 ساعة من حياة امرأة 9 لستيفان زفايج ، فإن نص سعد القدير هذا يمكن أن يكون (24 ساعة من حياة منفي عراقي) وأقول عراقي تحديدا لأن ضمن هذا التوصيف تتجسد فرادة النص وطبيعته الإستثنائية ، لكن هل سيتنبه إليه أحد.. أستطيع القول بخشية ومتردّدا: لا.ولماذا؟ وهنا دعوني أهمس في آذان أشقاء روحي أدباء بابل الذين تولوا إصدار المجموعة: هوّه بس هذا الـ (سعد) عدنه.. وجاينه من كندا.. ما كان ممكن تخرجون المجموعة بشكل أحسن؟؟؟ والمصيبة كلكم شعراء؟؟.. - وقد قلت سابقا وفي مناسبات كثيرة أن الشعر العراقي يكاد يكون عبارة عن مرثية طويلة تنطلق من سرّة حنجرة لزمان لتعبر الآفاق والقرون لتصلنا حية خالدة حتي لكأننا نتعامل مع مرثية جلجامش لأنكيدو (إلي أين أوجه وجهي ــ وين أنطي وجهي ــ والمثكل ينام في مضجعي؟) وكأنها رثاء الحسين الشهيد لأخيه العباس قطيع اليدين.. مثلما يعبر إلي رثاء سعد لكريم چثير وكأنه يرثي إخوتي اللذين ابتلعتهم غولة الحرب.. خصوصا وسعد جاسم يتعمد تمزيق قلوبنا بتلك اللازمات العراقية المسمومة القادرة علي إهارة جبل رجولي متماسك: (حبيبي كرّومي.. النسوان يموتن عليك.. دوختك وخبصتك).. ولكن أرجو أن لا يتصورن أحد من القراء أن ما أقدمه من توصيفات يعني الهبوط بالنص وابتذاله.. النصوص مثقلة بالرؤي والمحمولات الثقافية الرفيعة التي يوظفها سعد باقتدار ــ والأصح يسخّرها ــ ليجعل خيوطها الجديدة " المستحدثة " تلتحم بخيوط النسيج " المحلي " الأصلي الراسخ في الوجدان فيستوعبه ويحتويه ، فيصعّد من ألقه وبهاه المعرفي والنفسي: (كريم چثير: حماستك الأولي بالإنغمار والانصهار في عوالم هؤلاء المخلوقات العجيبة و (دوختك وخبصتك) وهاجسك اليومي لمسرحة طقوسهم... واستحضارك لشكسبير وعبد الرزاق الربيعي حيث الانجليزي بثيماته الهاملتية والعطيلية والماكبثية الماكرة وحيث العراقي يصرخ ويستغيث: (آه أيتها العاصفة) ــ قصيدة "الحداد لا يليق بكريم چثير " ، ص 59). وكما قلت مرارا إن الفطرة ــ الشاعر المفطور ــ سيصبح عبئا علي الشعر الحديث لأن الشعر الحديث " علم " في حين أن الشعر "القديم" فطرة.. فإن مناصفة فهم النص واقتسام دلالاته بين الشاعر من جهة والقاريء والناقد من جهة أخري ، يشكل عبئا ومفتاح تفريج في الوقت نفسه للطرفين.. فلو توفرت لدي القاريء السيرة الفاجعة لكريم چثير وأهم أعماله المسرحية المنشورة لوجد أن عنوان القصيدة الذي صمّمه سعد: " الحداد لا يليق بكريم چثير " ليحيلنا إلي الأثر الأهم الذي استول علي حياة الفقيد " الحداد لا يليق بألكترا أو بأنتيغون ".. ولكن هذه المرثية الشخصية التي يحاول الشاعر منحها بعدا أوسع وأكثر غني من ناحية دلالات اللاشعور الجمعي لا يمكن فصلها عن السياق العام الكلي للمجموعة التي يخيم عليها مزاج الثكلان الأسود.. بدءا من أول قصيدة في المجموعة " طفل الأبدية " التي تلخص ــ وحسب معرفتي ــ السيرة الشخصية المدمرة للشاعر.. عذاباته وخيباته واحباطاته.. مرورا بقصيدة (أهذا كل شيء) التي يهديها إلي أخي الشهيد (قاسم عجام) و(مباهج صغيرة) و(homesickness) و (حياة فادحة) و (كرنفال الخلاص وأسئلته المفخخة) التي يختمها بالقول: (أنا وثمة حالمون مثلي مازلنا حافلين ومازلنا محتفين بفيض الخلاص الذي يشبه نور اليقين في الأبدية.................) النور وقد امحي في سماوات بلاد الرافدين.. وتأكد الجميع من امحائه.. من يؤكد لنا وجوده وأنه يقبض علي جذوته مثل برومثيوس الذي أمرت الآلهة بتمزيق كبده أزلا وبلا هوادة؟.. إنه الشاعر.. هو سعد جاسم الذي يسرق الجذوة ليس علي الطريقة الفرويدية الدفاعية ولكن لأن الشاعر يشعر (بما لا يشعر به غيره) يشعر بأنه في الرحم الأمومي الفردوسي وهو في المنافي التي لا شفاء منها ، ورغم ذلك يعلن عن هول المأساة التي تتحملها الأمومة في بلاده ، مأساة تعجز عنها حتي الجبال الرواسي التي عرض الله عليهن الأمانة فرفضنها ضعفا ، وقبلها العراقي: (كلما فاجأها الطلق وكلما رفس رحمها يريد الخروج تتكوّر عليه كما الأرض هامسة: نم يا حبيبي فأنت الآن مؤجل لأنني لا أريدك أن تلعنني وتقول: أنت من ألقيتِ بي في هذا الجحيم الذي يسمونه: ا.. ل.. و.. ط.. ن.. ــ ص 45و46). |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ حسين سرمك
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|