|
|
فهم المجتمع المدني في العراق |
|
|
|
|
تاريخ النشر
02/02/2010 06:00 AM
|
|
|
بدءا، لا بد من الإشارة إلى أننا لا نملك تراثا بحثيا تحليليا عن تجربة المجتمع المدني في العراق، على غرار سائر بلدان المنطقة، بسبب أن العراق لم يشهد تجربة مجتمع مدني حقيقية وواضحة، في الأقل في العقود الأربعة الأخيرة، مع تشكل النظام التوتاليتاري خلال حقبة حكم حزب البعث (1968 ـ 2003). ولذلك، كان العراق غائبا عن البيبليوغرافيا الطويلة عن المجتمع المدني في المنطقة، التي بدأت تتشكل مع بداية التسعينيات، مع مجموعة من الكتب الرائدة: الندوة التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت سنة 1992 وصدرت أعمالُها في السنة نفسها في كتاب حمل عنوان (المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية)، وكتاب أماني قنديل (المجتمع المدني في العالم العربي)، الصادر سنة 1994، وكتاب أوغست ريتشارد نورتن ( Civil Society in the Middle East)، الصادر سنة 1995. التصوّر الوحيد عن تجربة المجتمع المدني في العراق ضمّه كتاب توفيق المديني (المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي)، الصادر سنة 1997، الذي خصّص مبحثا طويلا عن العراق، ركّز فيه المؤلِّفُ على الأحزاب السياسية بوصفها المظهر الأهم للمجتمع المدني في العراق، وذهب إلى أن المهمة التأريخية التي حاول هذا المجتمعُ المدني أن يقوم بها تتمثل فيما يمكن أن نسميه (تحقيق الاندماج الوطني)، يقول: "خاصية المجتمع المدني في العراق تبدأ مع طرد ونفي هذه الصراعات بين العشائر والمدن، وفيما بين العشائر نفسها، باعتبار ذلك يمثل بذرة أية وحدة مجتمعية مدنية متماسكة، ومع ضرب سلطة العشيرة المتخلفة، وبالتالي مع إقحام العراق ضمن مسار حركة التقدم التاريخي التي تقود إلى نهوض المدن مجدداً وبداية تفكك وانحلال النظام العشائري". غير أن استمرار القوى التقليدية، التي دعمت الكولونياليةُ البريطانية وجودَها، بحسب ما يرى، جعل من هذا المجتمع المدني حالة نخبوية محضة. ومع ذلك، أسهمت هذه الأحزاب في بناء حركة نقابية جادة منذ نهاية العشرينيات. وبالفعل، كانت تجربةُ المجتمع المدني في العراق، تأريخيا، تتمحور حول الحركة النقابية، التي كانت ترتبط بالحركة اليسارية من جهة، وبالأحزاب السياسية على نحو أعم من جهة ثانية. وقد كانت النقابات واحدة من فضاءات الصراع بين الأحزاب الأيديولوجية الكبرى في العراق، وذلك انطلاقا من رؤية الفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي بأن المجتمع المدني هو مجال الهيمنة، أي بما يتعدى وظيفتَها الظاهرة بأنها منظمات للرعاية والدفاع عن مصالح وحقوق فئوية. ولا تزال النقابات، إلى هذه اللحظة، تشهد صراعات بين الأحزاب التقليدية، امتدادا للتقاليد التأريخية في الصراع عليها بين هذه الأحزاب، على نحو ما يحدث في بلدان عدة في المنطقة. وعلى الرغم من أن تجربة المجتمع المدني هذه كانت تستند إلى أسس أيديولوجية تختلف عن تجربة المجتمع المدني ما بعد 2003، ستظل هذه الرؤيةُ الغرامشية تتحكم بفهم ومسار المجتمع المدني في العراق، في الأقل من قبل اللاعبين السياسيين. ولم تخرج التجربةُ النقابية خلال حقبة حكم حزب البعث عن هذا النموذج العام، فقد ظل الحزبُ ينظر إلى النقابات بوصفها مجالا للهيمنة، وقد عمل على ربط النشاط النقابي به والإشراف عليه. ومع ذلك، قدّم التغييرُ السياسي الراديكالي الذي شهده العراق من خلال إسقاط نظام صدّام حسين على يد القوات الأميركية رهانا وتحديا جادّين أمام بناء مجتمع مدني. وقد كانت نقطةُ القطيعة التي مثّلتها هذه اللحظةُ هي أنها غيّرت المنظورَ كليا في ما يخص الفهم والتعامل مع (المجتمع المدني). لقد أصبح العراقُ أمام مفهوم جديد لـ (المجتمع المدني)، لا يرى فيه مجال للهيمنة، بل عنصر أساسي وحيوي في بناء نظام ديمقراطي. ولم يعد المجتمع المدني، الآن، مجرد تنظيمات معنية بالدفاع عن مصالح فئوية، بل إنها تنظِّم توزيع الحوكمة governance بين المجتمع والدولة. لقد كان هذا جزءا من الرؤية النيوليبرالية التي حاولت الولاياتُ المتحدة تطبيقها في العراق، والتي ترى أن (الدولة) هي أصل العلل والعائق الأول أمام بناء حياة ديمقراطية. أودّ، هنا، أن أحيل إلى بحث Robert Looney، الذي يحمل عنوانThe Neo-liberal model's planned role in Iraq's economic transition، والمنشور في المجلة الأميركية (The Middle East Journal) صيف 2003، والذي يقدِّم فيه الرؤيةَ النيوليبرالية الأميركية في العراق. لقد كانت هذه الرؤية تتضمن أن إضعاف الدولة سيقود إلى نتيجتين حاسمتين في سبيل بناء ديمقراطية سياسية: ان المجتمع سيكون أقوى من الدولة، وانه سيسمح بظهور تنظيمات مدنية في داخل المجتمع، أي شكل من أشكال تنظيم المجتمع لنفسه بعيدا عن تدخل الدولة، ذات التراث الطويل في التحكم بحركة المجتمع العراقي. وبالفعل، عمل البرنامج النيوليبرالي الأميركي في العراق على إضعاف الدولة في ظل تصوّر بأنه سيقود إلى بناء مجتمع مدني. وعلى نحو إجمالي، يجب أن نلاحظ أن تجربة المجتمع المدني في العراق ما بعد 2003 لا يمكن إدراك خصوصيتها وانقطاعها عن التجارب السابقة إلا من خلال التقابلات الآتية: • انه لا يقوم على فكرة (العمل الخيري)، التي شكّلت هاجس التنظيمات المدنية المبكرة في العراق، بقدر ما يقوم على فكرة (المشاركة الشعبية)، • وانه لا يُختَزَل بكونه دفاعا عن حقوق ومصالح فئوية، الأمر الذي تجلّى في الحركة النقابية، بل ينبغي أن يُفهَم بأنه ركن جوهري في بناء الديمقراطية، • وان النموذج الذي يتحكم بفهمه هو مبدأ (الاستقلال عن الدولة)، وليس أنه (مجال للهيمنة). وبناء على هذا، اتجهت معظم الدراسات التي تناولت المجتمع المدني في العراق ما بعد 2003، على قلتها، إلى هذا الاتجاه النظري: توضيح مكانة المجتمع المدني في سياق بناء الديمقراطية، أو على نحو أكثر دقة: توضيح علاقة المجتمع المدني بالدولة. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ د. حيدر سعيد
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|