لو عدنا إلى سنوات انقضت، ما هي المسوغات التي دفعتك إلى الانتقال من كتابة قصيدة التفعيلة إلى كتابة قصيدة النثر؟
-لا أكتمك، إن بدايتي كانت مغايرة تماماً، انتقلت في الحقيقة من قصيدة النثر إلى القصيدة الموزونة، فأول قصيدة نشرت لي كانت قصيدة نثر، نشرتها في صحيفة «طريق الشعب» الشيوعية، نشرها لي الشاعر سعدي يوسف الذي كان مكلفاً بمتابعة الملف الشعري في الصحيفة، لم أزل أتذكر اسم القصيدة «أشياء عن الفتى الجميل» وكتبتها على شكل متوالية شعرية، ذات حركة دائرية، عبرها طلب سعدي أن آتي إليه ليتعرف علي، ومذاك انبنت بيني وبينه صداقة طويلة، القصيدة الثانية أيضاً كانت نثرية كتبتْ ككتلة دائرية، نشرتْ في عدد مجلة الكلمة المخصص لجيل السبعينيات، اسم القصيدة كان «ماذا عن الآنسة الكلدانية» إلى جانب هذه القصيدة كانت هناك قصيدة موزونة ثانية ضمها عدد «الكلمة» لي كان اسم القصيدة «ثلاث حركات عن الليل»، كانت قصيدة النثر في العراق شبه ممنوعة آنذاك ومن هنا ذهبت لاستعادة الوزن بطريقة علمية، مدروسة وصحيحة، قارئاً العروض كمادة تطبيقية أطبّقها على مشروعي الشعري الجديد، وليس كما كنت أكتبه في السابق كلاسيكياً مستمداً من السليقة وطريقة السماع العفوية التي كتبت فيها العديد من القصائد العمودية. وبالمناسبة القصائد النثرية التي نشرتها في تلك الفترة إلى جانب قصائد موزونة كثيرة من ضمنها قصيدتان طويلتان هما «بانوراما الأزهار» و«المعلقة الثامنة» استبعدت الكل من مشروعي الشعري الجديد الذي ابتدأ بديواني الأول «قصائد أليفة».
بدأت تجربتك في زمن صعب كثر فيه الاسترزاق بمديح الطاغية ورغم ذلك نأيت بنفسك عن هذه اللوثة، كيف استطعت أن تنجو من هذا الإغراء؟
-منذ بواكيري كنت منحازاً للحياة والحقيقة وللألم، والذي يمثل هذه الحقيقة كان ولا يزال هم الفقراء والناس البسطاء وصنّاع الحياة من عمال وكسبة ومزارعين وما شابه، لأني أظن أن هؤلاء هم الحياة ذاتها ومن يقف بالضد من هؤلاء هم الطغاة والقتلة والمرابون وباعة الأوطان من سياسيين ومنافقين ومأجورين، لذا منذ بداياتي في الشعر والأدب وعملي في الصحافة كنت منحازاً إلى هذه الشريحة من المجتمع، وقد تجلى ذلك في شعري على نحو واضح وخصوصاً في ديوانيّ الثاني والثالث «أقمار منزلية» و«شموس مختلفة» اللذين كانا يحملان في متونهما تمجيداً للبساطة وصناعها وإطراءً بالغاً للرموز الحية الفاعلة فيها.
كتبت في ديوانك «إعادة نظر»، قصيدة بعنوان (كلمات متقاطعة) تقول فيها: «حلَّ يا صاحبي لغز هذا البلدْ/تجدها مبعثرة ً في عقارٍ ومعكوسة تحت ذاك الزبدْ/ستراها بطبخة قرعٍ/بعرق القرنفل/أو بين كأس العرقْ/ سيجيب الصدى لا أحدْ حلّ لغز البلدْ». كم يوجعك أن القصيدة لا تزال صحيحة وهل ترى أن السلطات العربية الحاكمة تخلت عن العراق فآل إلى هذا الوضع؟
-يوجعني حال العراق على الدوام، لقد كتبت عنه قصائد لا تحصى وهذه القصيدة من ديوان «إعادة نظر» وجله مكتوب في دمشق حيث كنت أقيم أيامئذ وكان ذلك بعد حصار بيروت العام 1982 في هذا الديوان قصيدة اسمها (خريف الطاغية)، رسمت في القصيدة نهاية الطاغية وكانت صحيحة وفي ديواني «هدأة الهدهد» ثمة قصيدة بعنوان (بوريتريه طاغية)، كتبتها في منتصف التسعينيات وكانت أيضاً صحيحة كل أشعاري عن العراق كانت متطابقة وتحمل المغزى المراد معها، إلا العراق الذي لم يكن صحيحاً يوماً ولم يكن متطابقاً مع نفسه وناسه وظل ضائعاً حتى هذه اللحظة، لا نريد هنا أن نحمّل الآخرين وزر أخطائنا، بالطبع هناك أطماع وثارات وأحقاد إقليمية وعالمية ولكن نحن الذين جئنا بالاحتلال نحن العراقيين، نحن الذين أصبحنا أدلاء للمستعمر الحديث نحن الذين وضعنا الخرائط والخطط والمراسيم بين يديه وفتحنا له أبوابنا ونوافذنا وآبارنا وآذاننا لكي نصغي لأوامره وننفذها بحذافيرها لا بل نزيد عليها فنقتل من نقتل ونمحو من نمحو ونزيد أهلنا قهراً وإذلالاً وتعباً وتبعية، إن هذا الكلام يوجعني حقاً ولا أريد الخوض في تفاصيله اللانهائية.
أجد أن قصيدتك منسجمة مع روحك الهادئة فعلى أية تربة تأسست قصيدتك مبتعدة عن النزوع الخطابي؟
-قد تكون التربية الجمالية التي نشأت عليها والمعرفة التي اغترفت منها وقد تكون الذائقة الفنية التي تربتْ معي منذ مطالع حياتي الأدبية، لا أكتمنك أيضاً أن طبيعتي الشخصية التي تفضلت بالإشارة إليها ربما كانت إحدى السمات المكونة لهذه الميّزة.
قصيدة اللوحة التي تبدعها تستدعي ما بات معروفا من صلة الشعري بالتشكيلي هل لديك اهتمامات بالتصوير، أم إنك تحاول رسم اللوحة شعرياً فقط وما الذي تمنحك هذه القصائد؟
-تكونت ملامح تجربتي الشعرية في مطلع السبعينيات وهي حقبة تاريخية ضاجة بالفنون والآداب والأفكار اليسارية، إنها من أهم الحقب الثقافية في تاريخ العراق الحديث لانفتاحها على أهم التجارب الإبداعية في العالم، ورموز جيلي كانوا ينهلون من هذه الينابيع الخلاقة وخصوصاً على مستوى الشعر والفن التشكيلي، من هنا أخذت تجاربنا تتسع وتتنوع على صعيد الشكل والمحتوى، والمستوى التعبيري، حتى أصبحت القصيدة واللوحة متداخلتين ويمكن القول إنهما تناصّتا وأفادت واحدتها الأخرى، وفي بغداد تلك الأيام كان الشاعر والرسام وحتى المسرحي متشابكاً ومندغماً في نسيج فني واحد. خذ تجربتي الشعرية على سبيل المثال فهي تحمل ثقافة لونية وبالأخص الرسم وقصيدتي كما أسلفت الإشارة لها صلة ما باللوحة، لا أقصد باللوحة هنا كمفهوم تشكيلي بل كمفهوم رؤيوي تصويري، وقصيدتي خصوصاً هي قصيدة تعنى بالتفصيلي وعالم الملموسيات ومفعمة بالصور والحركات الإيمائية، وأعتبر هذي وجهة نظر شخصية أن القصيدة الخالية من الصور هي ليست بقصيدة. أما ما الذي تمنحني إياه هذه القصائد أو هذا الاتجاه، فهي تدرّب العين على الالتقاط وتمنحها التحديق الدائم في تفاصيل الحياة والكائنات المحيطة بها وتعلمنا السجود الدائم للجمال والأشياء والطبيعة وتمنحنا متعة متابعة الوجود. أما بخصوص إرضاء المتلقي فهذه المسألة تهم المتلقي ذاته لأني لا أتحدث في القصيدة عن أجرام سماوية وكائنات تجريدية وعن رؤى ذهنية أني أتحدث في القصيدة عن الإنسان نفسه أما كيف يتلقاها للقصيدة فهذه القضية تعود إليه بالدرجة الأولى لأن مهمتي تكون قد انتهت في حال نشري للقصيدة، وكما قلت آنفاً أن قصيدتي إيمائية قصيرة ومكثفة وتسعى إلى الإيجاز قدر الإمكان والابتعاد عن التهويمات والإسفاف والهذيان وتكاد تقترب من عالم الهايكو من ناحية القصر والتقطير اللغوي فقط، لانّ الهايكو عالم قائم بذاته وينطوي على عناصر خاصة به، لها علاقة بالزمان والمكان وتحولات الطبيعة.
وثمة قصيدة (إمرأة) في الديوان ذاته أيضاً، تقول في مطلعها: «أحلم بامرأة من هيل ٍوبنفسجْ/ تسكب في آنية الزهرِ/معبّأة بشموس تتوهجْ/ البرق ُيؤاخيها والنجم يقود خطاها... «في رأيك لماذا الشاعر دائم الحلم بامرأة من هذا القبيل؟
-الشاعر حالم أبديّ ، ومهمة الشعر هي إضافة البعد الغامض للشيء، والمرأة بحد ذاتها كائن جميل ورقيق، ودور الشاعر هنا هو ترقيق الرقيق وتجميل الجمال بإضافته البعد السري للكائن وللشيء، كيما يغدو أكثر سحراً وأوسع دلالة وإلا ما نفع الشعر إنْ هو افتقد الدور السحري الذي يجعلك تندهش وتتوهم وتشك.
يلمس قارئ ديوانك «هدأة الهدهد» تشاؤماً وقد تجلى ذلك بشكل صارخ في قصيدة (مرثية المستقبل)، ألاً تعتقد بأن الشعر يمكن له أن يزرع التفاؤل؟
-ليس للشعر وظيفة مطلقاً، وإذا حددت للشعر وظيفة ما، سقط وبطل كونه شعراً لأنّ الشعر ببساطة كائن متمرد وخارج على المواصفات والقوانين المرسومة وليس له حدود تؤطره في سور وقيد وبوتقة، باختصار الشعر هو الحرية والشاعر المتفائل أحسبه شاعراً ساذجاً لا يعي ما يحيط به ويدور حوله من كوارث ومآس وعذابات تعيق مسيرته الإنسانية وما قلته في (مرثية المستقبل) كان صحيحاً وكان فيها الكثير من الرؤيا ولا أقول النبؤة وقد تحقق جزءاً منها في الراهن المعاصر وهناك الكثير من الرؤى الذي ظل كامناً فيها وأعتقد أنه سيتحقق يوماً إذا ما ظل العالم سائراً نحو خرابه ونحو دمار البشرية، القصيدة كتبت في العام 2000 ونشرت في صحيفة «الحياة» وقتذاك ومنها على سبيل المثال: بفارغ الصبر سننتظر الغزاة/ سنقف على السطوح علنا نلمح راياتهم/ سنسمي التتارَ إخوتنا/ سنجلس على مائدة واحدة ٍلنأكل معهم الكتب والحديد/ سنضع مثلهم القرون على جباهنا/ وننحني ممتنّين لقامة الخرتيت/ سنسهر معهم حتى تتشقق جفوننا وتيبس الأحداقُ/ سنمجّدُ السرابَ دون كلل/ سنبجل الظلام دون هوادة ونُطري صنّاعه وخالقيه».
تحظى بيروت ودمشق بمكانة خاصة لديك ولذلك تحرص على أن تحيي أماسي شعرية وأن تصدر كتبك فيهما، غير الذي كتبته عنهما في ديوانك الأخير، ما دورهما في إغناء تجربتك؟
-بيروت ودمشق هما منازل القلب وفيهما مواطئ للروح، في بيروت انفتحت تجربتي على مسار إبداعي ثان، بعد مسار التجربة الأولى في بغداد، كنت في نهاية العشرينيات حين وفدت إليها، فانخرطت في أجوائها الثقافية، مرتشفاً الجماليات التي كنت أصادفها في طريقي وسط حشد من المثقفين اللبنانيين والعرب، كانت بيروت تعج بالنشاطات الأدبية والثقافية والفنية، فيها تصدر عشرات الصحف والمجلات، كاليريهات وحانات ومقاه أدبية تغمرها النقاشات والكتب والقصائد، رغم الطابع الحربي الذي كان يسود المدينة ويخلط طعم الكلمات برائحة البارود، كان فيها أوانذاك الرموز الكبيرة للشعر العربي، نزار قباني أدونيس أنسي الحاج سعدي يوسف ومحمود درويش، هذا عدا كوكبة من الشعراء الشباب الذي سيغيرون فيما بعد سياق الشعر العربي ليصبح عالمياً.
فضلاً عن أن بعض المدن ومنها بيروت هي التي تغير فيك لا أنت، تضيف لك وأنت تتلقى الضوء المنهمر من أفقها الإبداعي المترع بالرؤيا والألوان والشغف، في بيروت لي صداقات مديدة عمرها ثلاثون عاماً، مع الشعراء والأدباء والصحف والمجلات، مع البحر والرصيف والمقهى، مع الأزقة والحارات والمكتبات والأسواق وروائح المرتفعات، ولي امرأة منتقاة من ذرى الجبل اللبناني، إضافة إلى ذلك، ثمة إحساس دائم ينتابني حين أكون في بيروت هو أنك تدور في حيز ثقافي، خذ مثلا شارع الحمراء، إنه شارع ثقافي بامتياز، ففي هذا الشارع الذي لا يتجاوز طوله الكيلو متر واحد، تجد فيه مقاهي المثقفين، أي انك إذا أردت أن تعثر على شخص ما فإنك ستلقاه ههنا دون أن تذهب إلى بيته أو تهتف له، مكاتب الصحف المهمة قريبة منه، حيث فيها يوجد أغلب الأصدقاء من كتاب وشعراء وصحافيين، ثمة دور النشر الكبيرة متناثرة حواليه، ناهيك عن المكتبات والمطاعم والحانات والعلب الليلية، فإن كنت سائراً هناك فإنك لابد ملاق أحد الأصدقاء الذي سيدعوك إلى حضور أمسية شعرية أو القراءة فيها، فهناك ثلاث حانات تقدم الشعر الطازج مع المتبلات الثقافية الأخرى. أما دمشق، فهي مدينة الألفة، المدينة الناعمة، وهي لها مكانة خاصة بين الضلوع ترقد دافئة مكللة بالأنفاس، أحبها وأحيانا أغنجها في شعري، فيها البتة لا أشعر بالغربة، أو أني غريب، فيها تزوجت وأنجبت ولدي البكر، ودمشق تمتلك كل مقومات المدينة، أسواق كبيرة، مقاه شعبية، مقاه للنخبة، مطاعم ومقاصف تقدمان الطعام والشراب والمازة الشامية الشهيرة، حمامات للنساء والرجال، سينمات ومسارح، دور نشر عديدة، مكتبات فارهة، حدائق ونوافير وأرصفة واسعة... الخ وإن فكرت مستقبلاً في قضاء بقية حياتي فستكون في دمشق.
أزعم أن ترجمتك مؤخراً للشاعر الياباني باشو لم تأت خارج سياق شعرك الذي يصغي أيضاً لمفردات الطبيعة والأشياء والأماكن والنباتات، فهل التقاطع مع هذا الشعر أم التأثر به إيجاباً دفعك لترجمته؟
-إن شعر الهايكو عموماً مرتبط بالطبيعة وله مواصفات وشروط ومواصفات معينة، سأختصرها بالزمان والمكان والطبيعة، ينضاف لهذه الأسس مقدرة الشاعر على بلوغ درجات من الرؤيا النبوئية والحكمة التي تتأتى من خلال التصادي مع الوجود الذي يترك بصمته مع المتأمل فيه والمتمرئي في طياته، فضلاً عن الإيقاع المبتسر والمدروس حسب وحداته المعروفة به، من هنا سر تقشف هذا الشعر في التقطير اللغوي والصفاء التعبيري وجلاء العبارة، ليتني أمتلك هذه الصفات، ولو امتلكتها لبقي شعري لسنوات طويلة تمتد لقرون، كشعر ماتسو باشو الذي تجاوز الخمس مئة سنة، من يقرأ هذا الشاعر الآن يحس أنه يعيش بيننا، وله نفس أوجاعنا وتخيلاتنا وهواجسنا أجل أحس بقرب هذا الشعر لدفئه وصدقه وحميميته، إضافة إلى قاموسه المغموس في قلب الطبيعة، إن باشو شاعر جوال كان يجوب المدائن والدساكر والثغور من أجل العثور على الهالة، من أجل ملاقاة الرؤى، من أجل مصادفة بيت من الشعر، إن قصائدي القصار قريبة من هذا النبض. إني ناقل ذواقة، ترجمت إلى جانب باشو، اليوناني يانيس ريتسوس قصائد مختارة والإنكليزي أدريان ميتشيل مختارات من قصائده، وهناك على هذه الشاكلة الرومانية الأميركية نينا كيسيان ومختارات لخمسين شاعراً عالمياً يضمهم كتاب واحد، ناهيك عن كتاب مئة قصيدة من الشعر الصيني ينتمون إلى مختلف المراحل الشعرية كلاسيكية وحديثة، وكتاب عن شعر الهايكو يضم نخبة من شعراء الهايكو المعروفين على مر العصور، هذه الكتب أبحث عن ناشر لها يقدر الجهد المكرس والمبذول فيها والذي امتد لعشرين عاما تقريباً في عزلة العاصمة البريطانية لندن.
هل المدن التي أقمت فيها دفعتك لكتابة «مدن مرئية» كتابك النثري الجديد أيضاً، أم عشق قديم لأدب الرحلات ولكتابة ما لم تستطع كتابته شعراً؟
-كانت هناك حاجة لوقفة، للفرار من ضغط الشعر وضرباته المستمرة على الرأس، حاجة إلى النظر حواليك، وفرصة لطرح التنوع في الكتابة، ترجمة، سرد، نثر إضافة إلى الشعر هذه البلوى الأثيرة، ناهيك أني أجد متعة فنية وجمالية في الكتابة عن المدن، ولكن ليس كمختص في هذا الشأن، يكتب ما يسمى أدب رحلات، شأن الرحالة السوريين واللبنانيين والمصريين القدامى الذين كانوا يجوبون الآفاق من أجل الاستكشاف أو العيش والبحث عن فرص للعمل، لست بالتأكيد من هذا الطراز ولا أود أنْ أكون مثلهم، كما أني لست ساعياً لأن تكون كتاباتي هذه المسماة «مدن مرئية» كتابات متخيلة تبحث عن يوتوبيات، بل هي ملامسات حقيقية، جرت عبر زيارات حميمة تتعلق بمحبة خاصة لبعض المواقع العربية، ومن هنا جاءت الكتابة محملة بنبرة شعرية ومسحة رومانتيكية تبجل المكان الأليف، الزوايا الدافئة المعبّأة بالذكريات والأحلام والنداءات البواحة، المقاهي والشوارع والساحات والمقاصف والحانات والأسواق والدكاكين، تلك الأماكن المفعمة بالروح والأنفاس البشرية المحفورة كلآلئ فوق الشغاف والشرايين، الأماكن التي تتدفق بالشعر والخفة ومنابع الجمال والرفعة، مدن مثل بغداد، بيروت، دمشق، القاهرة، الرباط، رام الله، عمّان، باريس، برلين، وارسو، وغيرها من المدن التي تركت في مخيلتي طعم الأحلام.
ما الذي يؤسس لعلاقة مميزة بين الشاعر والمكان ليتجلى الأخير فيما بعد في القصيدة؟
-كوني شاعراً أرضياً وحسّياً، وأعشق الأشياء المرئية والملموسة، تراني مرتبطاً ارتباطاً ملحوظاً بالمكان، ومتشبثاً بالتراب والجذور والحجر بشكل جلي تستطيع أن تراه دون كبير جهد في شعري، وأزعم أن شعري حافل بتفاصيل المكان، برموزه وأشكاله وصوره ، ثمة روائح مكانية تهب عليك حين تطالعه، لأن قصيدتي في المحصلة هي قصيدة مدينية، تعيش راهنها وترى نفسها في وجوه الناس في تفاصيلهم اليومية، في حركاتهم التي يقطعونها داخل مسيرتهم الوجودية بين الزمان والمكان، هل نستطيع القول أنها تنهل من فلسفة المكان بكل تعابيره وتمظهراته الواقعية؟ ولأن الشعر هو غير الواقع المنقول في القصيدة، كون الشعر عالماً متخيلاً، يصنع واقعاً جمالياً فنطازياً مستنبطاً من الواقع العيني ليعطيه في المآل كلمة السر الجمالية المدموغة بالبصمة السحرية التي هي بالأساس الفن بكل تمفصلاته الجوهرية.
إذاً المكان حين يظهر في القصيدة فانه يأتي حاملاً الحياة ، حاملاً روائحها، وتفاصيلها وشؤونها اليومية، ثمة في القصيدة مقهى، في المقهى رواد، إذاً هناك أفعال، حركات، طعم، روائح، أشياء حسية تتمظهر داخل المقهى، ثمة زمن في المقهى، انتظار وترقب، هنا يظهر المجهول مطلاً برأسه، المجهول يحيل إلى الميتافيزيق والنظر تجاه الآفاق البعيدة لتأمل الكون، وتفحص الوجود وجدواه ودراسة الحياة وماذا تريد من الإنسان خلال تجواله القصير في الزمان الوجودي.
عن" السفير "