|
|
طريق الكراكي |
|
|
|
|
تاريخ النشر
20/01/2010 06:00 AM
|
|
|
ثلاثة شخوص تقرأ وتعيش وتكتب هذه الرواية: الشخصية الأولى هي شخصية ضيف البنسيون الجالس، منتظراً، الآن، موعد نزهة القارب، والشخصية الثانية هي شخصية الراوي وهو يعيش في زمن آخر غير زمن الضيف، والشخصية الثالثة هي شخصية الأعزل في الرواية وهو يعيش في زمن مختلف عن زمن الضيف وزمن الراوي وهو شخصية نصية داخل نسيج لغوي في حين ان الضيف هو شخص واقعي لكن ما كان له أن يكون موجوداً في النص خارج نسيج اللغة أيضا، وأما الراوي فلا يتجاوز دوره دور العنكبوت. إنه نسّاج. ناصب فخاخ. صانع حكاية. الضيف يعيش في بنسيون وأمام شريط نهري من الأشجار والضفاف والدغل في شبه جزيرة منعزلة وقد عاد من المنفى في زيارة لكنه لا يعرف على وجه الدقة كم ستمتد وكيف ستنتهي. طلقة مسدس في الظلام يمكن التحكم بلحظة الاطلاق لكن لا يمكن معرفة مكان الاصابة على وجه الدقة. الأعزل يعيش داخل بنية روائية وعالق في عالم لزج: قد يكون عالم العنكبوت أو الراوي. الشخص الثالث هو الراوي يعيش رحلة الضيف ودوامة الأعزل، واذا كانت حركة الأعزل قد تحددت داخل الحكاية، إلا ان حركة الضيف في صيرورة مستمرة. اذا انطلق القارب الليلة، مثلا، يكون الضيف موجودا في القارب مع العقيد والفتى اليتيم، لكن الأعزل يبقى داخل كتاب على كرسي الخيزران أو فوق طاولة، في حين ربما يكون الراوي في حافلة أو مطار أو محطة قطارات أو في حديقة وفي كل الأحوال هو يحلم. لو قدر له أن يموت في حادث قبل اكتمال الحكاية، فلن يعرف أحد شيئاً عن مصير الضيف ولكن مصير الأعزل قد تحدد في اطار حكايته. اذا كان الراوي يحلم في كل الأحوال، ألا تكون نزهة القارب كغيرها حلماً داخل اللغة؟ هل يغير ذلك من طبيعة الحوادث سواء كان كل شيء حلما داخل لغة أم واقعا داخل قارب أو بنسيون أو غابة أو ضفة؟ وأي شيء يحرك القارب؟ الوقود أم الكلمات؟ وأين ستكون الرحلة داخل مياه النهر أم داخل نسيج لغوي؟ هو يتطابق مع السؤال الاسباني عن اين نعثر على دون كيشوت: في الواقع أم في مخيلة سيرفانتيس؟ أم في اللغة؟ أي شيء يجمع بين هؤلاء الثلاثة: الأعزل والضيف والراوي؟ ينتظر الضيف قدوم العقيد للمضي في النزهة الليلية في القارب منذ بضع ساعات، والراوي استغرق بضعة ايام للاعداد لهذه الرحلة. لكن من قال للآنسة فرح في الهاتف عندما عرضت عليه اقتراح مسرح الهواء الطلق ـ" ستكون فرصة للبريتاني أن يحاسب القتلة"؟. تخيل نفسه على خشبة مسرح أمام جمهور حاشد قادم من كل مكان ولن يتعرف عليه أحد لأنه هو غير قادر على التعرف على نفسه في الصور القديمة. كيف سيواجهون الأمر؟. لماذا يذهب مباشرة الى قلب الموضوع والسؤال المركزي؟ لماذا لا يجعلهم يشاركونه لحظات السعادة المسروقة في الحرب والهروب والموت والمنفى والأرق؟ لكن هل هناك من يفكر اليوم بمصير امرأة عاشقة في زمن قديم وقد جاءتهم أوقات بعد ذلك صارت فيها رائحة الموت كرائحة قهوة الصباح أو أزهار الليمون في شوارع البلدة؟ ليس الموت العادي ولا القتل العادي بل الذبح العلني في الشوارع. ليس الذبح الطقسي لخراف العيد ولكنه الوحش البشري المستحم بالدم. عند هذا الحد تبدو هذه الشخصية قد فلتت من المخطط المرسوم ولم يعد أحد، بما في ذلك الراوي، يستطيع التحكم بأفعالها. في حلم العبور في القارب الليلة الماضية، قالت له الفتاة ـ" ليس مهما أن نصل الى الشاطئ الآخر، لأن الأهم أننا انطلقنا". الا يبدو هذا الكلام تشفيرا لقول يسرى في الفندق ـ" لا تقلق أرجوك. يجب أن يعيش أحدنا لكي يروي هذه الحكاية"؟. هل تحمَّلَ ثقل الحياة والنفي والعبور الى العدو من أجل الحفاظ على حكاية؟ حتى لو تم الحفاظ على الحكاية وهو ما حدث في" الأعزل" لكن التفسخ الذي لم يُشم يومذاك، تحول بعد سنوات الى جثث مرمية في الشوارع والمزابل والى انقاض ومهالك. هل كان هذا الصوت القادم من عمق الرواية نبوءة أم دعاءً بالخراب :" هناك أشياء كثيرة تتفسخ الآن. الفضيحة الحقيقية في مكان آخر. الرائحة تكاد أن تكون مرئية كالاعلانات. الغريب أن أحدا لا يشم. الرائحة في كل مكان لكن أحداً لا يشم". قال راوي الأعزل ذلك يوم كانت الأوضاع تلوح، في الظاهر، متماسكة، لكن العشاق، كما الشعراء الكبار، كالأطفال، يشمون رائحة الموت والأزهار والأحلام وهي في الجذور. من يسمع صراخ البطريق حين يشم رائحة العاصفة قبل الهبوب؟ ليست الجثث الطافية فوق النهر، التفسخ والانهيار والرائحة جديدة: الجديد هو خروج الوحش الى الشوارع، غوريلا مسعورة تستحم بالدم، وكما كانت ربيضة تتداعى، الأشجار تقتلع، الكراكي تغير طريقها، نباتات الحَلْفاء والطرفاء والشوك والعتمة والظلال الدافئة تختفي، العشاق يهربون ويقتلون، الفنادق مزروعة بالمخبرين، موت الغابات، هروب الذئاب، هجرة الأوز، جفاف المستنقعات، كان كل شيء آخر يتداعى ويتفسخ وما من أحد يشم، إلا حين صار الموت مرئيا وراكضا ومتجولا في الشوارع كوحش ضخم يرتدي قناع الموت. هو، الآن، في مواجهة هذا الشفق الرماني المحترق، الضفاف التي تعتم، الأشجار التي تغرق في عتمة المساء، أزيز الجنادب في احتفالات ليل وشيك، هدير الموج الخافت، صمت الأدغال، غرفة في فندق قديم ،الخنادق الموحلة في الحرب، الليالي الثلجية العاصفة، قارب في منفى ورائحة جسد انثوي بدائي أشقر مجنح، لوحة الوردة المتمرئية لغوغان، عبور حقول الألغام، الأسلاك الشائكة في الفجر، كل شيء ينهض، الآن، في هذا الشفق المتوهج، كمخلوقات تقوم من الرماد :" من أين تأتي عليَّ ـ كل يوم ـ بهداياك أيها الماضي؟ خذ هداياك بعيدا عني، واركب أول قطار يوصلك الى الجحيم" صوت رعد عبد القادر يطلع من حطام الذاكرة والوجع. ـ" هل كل شيء على ما يرام؟" دوى صوت العقيد في الهاتف وكان هو على وشك الدخول الى الحمام عندما انتهى من القراءة. أضاف العقيد ـ" أعني هل أنت مستعد؟". ـ " متى ننطلق؟". ـ " هل تكفي ساعة لكي تجمع قطيع أحلامك؟". قال العقيد وهو يضحك وتابع ـ" أمامك سرب متأخر من طيور الكراكي في السماء". ـ " متأخر؟". أجاب العقيد" من عادة الكراكي أن تعود الى موطنها الأصلي في الربيع وأوائل الصيف ونحن الآن في شهر آب. هل ترى كيف تسافر؟". نظر عبر واجهة الشرفة وكانت الكراكي قد عبرت النهر وتتجه نحو الشرق في حمرة الشفق الأخيرة وقال ـ" تحلق على شكل مثلث ناقص الضلع الأخير أو رأس رمح بلغتك الحربية". قال العقيد ـ" هل تعرف ان الكراكي ترقص قبل التزاوج، الذكر والانثى معا؟ لون رمادي وخط ابيض من العين الى الرقبة وسيقان طويلة. لكن لماذا يعود هذا السرب من الكراكي متأخرا؟". ـ " لا أدري". قال العقيد، مرحاً، قبل أن ينهي المكالمة ـ" ولا أنا لأنني لم أجرب المنفى بعد. عش سعيداً". ليس من الواضح ان العقيد سمع رده ـ" لا سعادة مع ذاكرة حية". كان سرب الكراكي قد اختفى في الغسق اللازوردي وكانت الأشجار في الجانب الشرقي تعتم مع الليل المقترب وفي الجانب الشرقي من الحدود الخنادق القديمة، المتروكة، الآن، مغمورة بضوء القمر المنزلق، ناعماً، فتياً، من خلف بقايا الأسلاك الشائكة: لا شيء فيها سوى ما حملته الريح من أوراق ومزق بدلات عسكرية بالية مرفرفة وعلب أرزاق طوارئ صدئة وأغلفة رصاص ورسائل منسية وصرخات مكتومة في التراب وعشب بري وزهور حمراء بلون الدم. في الحمام، تحت الماء الدافئ من حرارة الشمس، لم تكن هناك صور حرب تتداعى كما في فندق سيوان في زمن الحرب الطويلة، بل صور مدن وحدود ومكاتب وثلوج وعواصف وقطارات متداخلة: قطار الخروج من سجن كويتا الى اسلام آباد. قطار قديم متمايل يقطع السهول الآسيوية الشاحبة والميتة في عراء قاحل وجاف. قطارات بودابست تحت وفوق مياه الدانوب. قطار خارج من انفاق وخلجان وجبال النرويج الى السهول السويدية المعشبة والطليقة في الصيف. قطار يخترق الريف الدنماركي. قطار الدار البيضاء الى الجديدة والمشي حافي القدمين على رمال البحر الابيض المتوسط وطائرات ورقية ملونة تحلق عاليا. قطار بغداد، في المساء، تحت المطر، الى الجنوب: هو القطار الأخير قبل عبور الحدود. من بين كل القطارات يلوح هذا القطار، الآن، في الحمام تحت نثار الماء، أكثر القطارات وضوحاً. حقول صامتة ونوافذ كئيبة زادها المطر عزلة. جسور صغيرة وضفاف داكنة واشجار متراجعة تبدو مقتلعة. ربما يكون هذا هو جذر الشعور الذي أظهرته صور فيلم الكاميرا المحمولة للأشجار في القطار الأخير. لا تتشابه كل القطارات ولا كل المدن ولا كل الرحلات. قطار بغداد الأخير النازل نحو الجنوب كان كصقر يقود فريسته، محلقا، الى العش. قطار كويتا المنطلق الى اسلام آباد كان يحمل سجينا مطلق السراح بعد بضعة شهور بتهمة عبور الحدود بدون ترخيض على القدمين.كل قطار مرحلة. قطار المحارب. قطار السجين. قطار المشرد. قطار السائح في الأراضي الاسكندنافية وفوق وتحت مياه الدانوب. لا تختلف طبيعة الرحلة ونوعية القطار فحسب بل طبيعة ونوعية المسافرين: قطار الجنوب الأخير كان يحمل جنوداً في الطريق الى الحرب. قطار كويتا كان يحمل سجناء في الطريق الى تيه آخر أو الى الحرية. قطار الدار البيضاء كان يحمل سيّاحاً الى البحر. ليست القطارات الحقيقية وحدها تسافر بل قطارات الخيال: مثلا، قطار رواية" بصرياثا" الصاعد الى بغداد ـ عكس قطار بغداد الأخير تحت المطر في الحرب ـ وهو يمر بمحطات الجنوب الصامتة المضاءة بالفوانيس الخضر. هناك قطار آخر قبله هو قطار حكاية" القطار الصاعد الى بغداد" لمحمود عبد الوهاب. قطار منتصف القرن العشرين. قطار السهول المفتوحة على النهار والأمل. الايقاع بطيء كالموسيقى في تلك الأزمنة. ثلاثة أجيال ورحلات وأزمنة على السكة الحديدية نفسها وربما في القطار نفسه لكن تغيرت نوعية المسافرين والطبيعة وايقاع الوقت. قطار بصرياثا تأملي ومرتبك وهاجس ولكنه لا يواجه خطراً. كان ضوء القمر، عبر الشرفة، يترك ظلالا طرية على الأرض، وفوق الطاولة، والكرسي، ويخلِّف على الجدران الصامتة ظلاً راعشاً كقلب يرتجف في العتمة الحارة. خيل اليه أنه يسمع، الآن، صفير قطار. لا توجد محطة قطارات هنا ولا في مكان قريب. إنه واحد من تلك القطارات الحقيقية والمتخيلة المنطلقة في الذاكرة دون أن تتوقف بعد خروجها من سكة الحديد الى سكة الذاكرة. لوَّح العقيد عبر مرايا الشرفة وكان ظله المنطرح فوق العشب طويلا في ضوء القمر كما لو أنه شبح يبزغ في العتمة بين الأشجار، وهو يرتدي قميصا أبيض ويضع على ذراعه معطفا خفيفا. كان قد خرج من باب الغرفة وأغلق الباب خلفه بالمفتاح، وهو يتقدم نحو العقيد وشعر بالهواء الرطب الحار يلفح وجهه، وشم رائحة الأعشاب النهرية، بل شم ضوء القمر ومن يدري لعله سمع الظلال المتكسرة، وأقبل العقيد مصافحا ـ" هل أنت مستعد؟". ـ " تماما" وأضاف ـ "واين الغلام"؟. ـ " نزل الى القارب. انت ترتدي سترة مناسبة لأن الجو يبرد في الليل وعندك ذاكرة حية فعلا وأفهم معنى كلامك في الهاتف: لا سعادة مع ذاكرة حية. هل نمت قليلا؟". ـ "لم اشعر بالحاجة الى النوم. من أين سنبدأ؟". قال العقيد ـ "ستكون أنت قائد القارب وتصرف كيفما يحلو لك". ـ " هذا لطف منك. ". كانا يخطوان نحو النهر وبدت الضفاف المعتمة والمصابيح الوامضة، داخل البساتين، خلف الأشجار، وبدا الجسر في ضوء القمر كما لو أنه غارق في الضباب، وعلى الرمل مع المد كان الرمل يبرق بانعكاسات خاطفة، هرعت مخلوقات نهرية صغيرة جاءت مع المد الليلي الى النهر الذي كان يبدو مشرقا بالنور المتلألئ وقد جعل القارب المنتظر المشهد كله يبدو كلوحة شروق الشمس لكلود مونيه رغم عتمة الليل الخفيفة والهادئة والمطمئنة. صعدا سلما معدنيا صغيرا واهتز القارب ووقف في نهايته فتى ناحل وأقبل يرحب بالضيف مصافحا وعرف نفسه ـ " اسمي سعيد والبقية تعرفها". ابتسم. رغم أن العتمة كانت تخفي قليلا تجاعيد الوجه، لكنه رآى ان الفتى يبدو أكبر سناً مما هو عليه في الواقع، ولكنه فكر في اللحظة ذاتها ان الأشياء كلها تبدو على هذا النحو. كانا قد جلسا في الغرفة داخل القارب وشعر برطوبة النهر وطلب من العقيد رفع الغطاء إذا كان ذلك ممكنا، وحين تم ذلك ونظر الى السماء، كانت ملايين النجوم تومض في العراء الليلي. قال دون أن يكف عن النظر ـ " إنه احتفال" وعلّق العقيد ـ " من أجلك". ـ " هذه أكبر كذبة جميلة سمعتها في حياتي". قال العقيد يسأل الفتى ـ " هل صحيح أنني أكذب؟". ورد الفتى وهو يدير الدفة نحو عمق النهر وهدر المحرك وانساب القارب بسلاسة فوق المياه الهادئة ـ" عمي لا يكذب الا عندما يسكر ويقول أمورا غريبة ولكنها ليست كذبا". علق العقيد وهو يرفع صندوقا بلاستيكيا، عدته من الشراب والثلج ويركنه جانبا تحت طاولة صغيرة شطّبها ضوء القمر ـ " هل سمعت؟ انني لا أكذب". ـ " ولكن ما هي الاشياء الغريبة التي تتحدث بها عند الشرب؟". ضحك العقيد، قائلا ـ " من فينا لا يقول هذه الاشياء عند السكر يا صاحبي؟". ـ "صاحبي؟ قلها مرة ثانية لطفا لأنني لم أسمع هذه الكلمة منذ تركت الحرب". ـ "سأقولها حين يكون ذلك ضروريا. اين تريد أن نتجه الآن؟". قال هو ينظر نحو الجسر ـ "الى الجسر وعكس التيار ثم نرجع لكي نمر بالشاطئ كله حتى منعطف النهر ثم نعود. هل يروقك هذا المخطط؟". ـ " رائع. سعيد هل سمعت كلام الضيف؟". ـ " سمعته جيداً". بكل خفة انزلق القارب نحو الجسر وكان الآن في منتصف النهر والضفاف من الجانبين مضاءة بنور قمر صيفي حار وحي وفاتن. هل هي رحلة أم رحيل؟ فكر مع نفسه وهو يتأمل المشهد السحري كما لو انه صورة مقتطعة من حلم أو دليل سياحي مفرط في المبالغة وكان يرنو الى الضفتين بحنو واستغراق كما لو أنه يبحث عن أشياء مفقودة. قال ـ " أتذكر جيدا انني نزلت من تلك الزاوية مع صديق لكي نعوم باطار سيارة مطاطي من الجسر الى البلدة. كان ذلك تمرينا شخصيا لتحمل التعذيب في السجن". ـ " هل سمعت يا سعيد؟ قبل أن يشرب صار يتحدث عن أمور غريبة. هل حقا كنت تفعل ذلك التمرين المشؤوم؟". ـ " بكل تأكيد. كنا حالمين أو واهمين بموت جميل وبطولي وفروسي تحت الأحذية. أين كنت تلك الأيام؟". قال العقيد ـ " اذا فهمتك جيدا كنت ضابطا برتبة ملازم أول في القصر الجمهوري. لا شك كنا سنضحك لو عرفنا بحقيقة هذا التمرين. هل تعرف اننا كنا تلك الأوقات قد انتهينا من انشاء بنية تحتية للمفاعل النووي وانت تتمرن على اطار مطاطي لمواجهة سلطة جبارة. غير معقول". الآن، يمرق القارب من تحت الجسر وتلوح الدعامات رمادية رغم المصابيح وبادر العقيد وهو يرى انه يتأمل الجسر من الأسفل وقد توقف القارب تحته تماما ـ" أصيب الجسر بقصف مباشر ولا أظن أنهم أرادوا تدميره كليا". خرجا من عتمة خفيفة، صامتين، وكانت تلوح الآن مصابيح لقرى تنام على الشاطئين. قال ـ" إنه أمر غريب اننا جميعا بما في ذلك الجسر نحمل علامات حرب: انت وأنا وسعيد". وعلق العقيد، ضاحكا ـ"على يميننا حقل دواجن دمر تماما. هل سنبقى نتحدث عن الحرب يا صاحبي العزيز؟". وأجاب بصوت عميق وجاف وناءٍ ـ " نحن لا نتحدث عن الحرب ولكننا نراها. هل يمكن أن نشرب قليلا؟". ضحك العقيد بانتشاء ـ " هذه هي اللحظة التي تروق لي أفضل من غيرها وربما سأتحدث بامور غريبة . اليس كذلك يا سعيد؟". وضحك سعيد وقال ـ " أواصل المضي الى الأمام أم أنعطف الى الخلف؟". قال العقيد وهو يرفع كاسه للنجوم ـ " الى الأمام، الى الأمام، ولا وراء بعد اليوم". كان جذلا وسعيداً وطفلاً. ـ " هل كنت تقول لجنود الوحدة الخاصة هذا النداء؟". ـ " ابداً لأن العدو صار في الخلف وفي الجوانب كلها ولم نعد نميز بين الأمام والوراء وكما نقول في الأمثال" ضرط الوزان وضاع الحساب. هل نسيت هذه الأمثال؟". ـ " لا، لكن المشكلة في الوزان" واضاف يقول لسعيد المنتشي بالموسيقى وهو يضع سماعتين صغيرتين على الأذنين تتيحان له سماع الأوامر في القارب ـ " هل يمكن أن ترجع؟". انعطف القارب وانساب مع التيار وكانت العتمة الآن في هذا المكان أشد منه في أمكنة أخرى وقال العقيد ـ " الأمر يتوقف على كثافة الأشجار والدغل". كان هو في تلك اللحظة لا يسمع أشياء كثيرة مما يقال ولكنه صار يفكر بحاسة شمه. قال ـ " روائح الأزهار والأعشاب والنباتات في الليل غيرها في النهار". وقال سعيد ـ " على الضفة اليمنى بقعة دغل لا تستطيع المرور منها في الليل دون أن تصاب بالدوار". ـ " لا أريد أن اصاب بالدوار" وقال العقيد ضاحكا ـ " يقصد انه عطر مهيّج". ـ " مهيج ماذا؟". وضحك العقيد قائلا ـ " مهيج للقارب". وضحكوا جميعاً وقد صار الجسر في الخلف جميلا رماديا مضاءً كما كان وهو لا يتخيل سنواته السابقة بلا هذا الجسر، بل انه لا يستطيع الدخول الى البلدة في احلام يقظته في المنفى من دون عبوره، وفكر بلا ارادة في أن تدمير الجسر كان سيؤدي الى تدمير جزئي أو كلي لذاكرته، ولكن الجسر قائم الآن، وهو ينعم بالشراب والصداقة ويوغل في النهر الذي ولد قربه وعاش فيه وحمل صورته كما حمل النهر جسده من والى هذا المكان المنعزل، وعلى الرغم من أنه كان يجلس في القارب ويتبادل الحديث مع الصديقين الرائعين، الا أنه شعر أن حواره الداخلي كان في أمكنة أخرى. قال العقيد ـ " هل دب دبيبها؟". ـ " منذ مررنا تحت الجسر". وقال سعيد وهو يشير الى جزيرة صغيرة في النهر كثيفة الأشجار ومظللة بضوء القمر وبالعتمة الدافئة والمتوحدة ـ " هذه أجمل بقعة في النهر". واضاف بلهفة ـ " بل في العالم". قال العقيد من داخل الانتشاء والمرح ـ " أنت لم تر من العالم اشياء كثيرة ، يا سعيد، كما رآها ضيفنا". قال سعيد ـ " مع أن ضيفنا رآى الكثير لكن ألا ترى انه مبهور بكل شيء؟". ـ " انت على حق يا سعيد" قال ذلك واضاف كما لو أنه يوجه كلامه الى الليل ـ " ما دمت قد خربت حياتك في هذا المكان، فهي خراب أينما حللت، كما قال عجوز يوناني يوما". قال العقيد ـ " هل سمعت يا سعيد؟ بدأ ضيفنا العزيز يقول أشياء غريبة. لا تظن الأمر يتعلق بي". سرح شعره بيده من الخلف بسبب ريح خفيفة يولدها اندفاع القارب وقال ـ " كان يجب أن أحلق شعري، دغل كثيف من الخلف وصحراء من الأمام". ضحك في حين قال العقيد من داخل وجومه ـ " كنت أريد أن أقول ذلك ذلك ولكني ترددت". ـ " أخشى أن تكون هذه الحلاقة كنبوءة تروتسكي. قال لزوجته نتاليا في المساء السابق لإغتياله إنه يفكر في حلاقة شعره وعلى سرير المستشفى كانت ممرضة تقص شعره وهو ناقع بالدم ومهشم الرأس بيد قاتل محترف، فقال لها غامزا قبل أن يدخل في الغيبوبة النهائية ـ أترين، حتى الحلاق جاء هو أيضا". ـ " ذهنية مطارد". ـ "ربما نفكر في كل شيء على هذه الصورة بناء على ذهنية المطارد كما تقول ولكن هل جربت أن تكون مطاردا مرة واحدة، حضرة العقيد؟". ـ " أبدا، الا من الطائرات الأمريكية عند الغزو. من صحة تروتسكي وكل الأحلام الثورية المجهضة على ضوء القمر". رفع كأسه المترعة بالويسكي هو الآخر وكان ضوء القمر يجعل قطعة الثلج الصغيرة في الكأس تلمع كالبلور في الظلام وسمع بخفوت ناعم صوت أغنية تأتي من سماعة أذن سعيد وهي أغنية شهيرة طالما كان يحب سماعها تتحدث عن قطار ليل وتحت السنابل قطا وبرد الصبح وفضة عرس وقهوة ونهد وشَعَر وعيون وطيور ومجاذيف. ـ"هل يمكن أن تذهب في هذا الاتجاه؟" قال مخاطبا الفتى وكان القارب في تلك اللحظة ينزلق فوق الماء وعلى ضوء القمر كحكاية من حكايات الف ليلة وليلة باستثناء انه ينقل ركابه الجرحى من حروب مختلفة. قد تكون الجراح ملتئمة في الظاهرة لكن من يستطيع أن ينسى هذا النوع من الجراح الغائرة في القلب؟. كان القارب شديد القرب من الضفة الأخرى الموازية للبلدة ولكنه بعيد عن البلدة الاصلية بمسافة عدة كيلومترات، وتقع على هذا الجانب المحاذي لهم الآن بساتين فواكه ونخيل وتشخص في الضفاف أدغال حلفاء متشابكة في النور الفتي والظلال الداكنة. ـ "عند هذه النقطة خرجنا من النهر بالاطار المطاطي تلك الايام وخلف هذه الأشجار يقع منزل عائلة عبد الله الفاضل وأولاده. هربنا معا أواخر السبعينات كل في طريق وحين قبض عليّ رأيت نجوم الظهيرة خلال الاستجواب والسؤال عنهم ولم أكن أعرف مكانهم وكنت تحت تعذيب لا يطاق وعند الهروب الى ايران عثرت على الأب والأم والبنات وكانوا يسكنون في مدينة يزد الايرانية الرائعة. اقول مدينة رائعة لأنني وصلت المدينة في الرابعة فجراً ولم أكن أتكلم لغة البلد ومع ذلك كنت أحمل ورقة كتُب عليها العنوان وكان أهل يزد المستيقظين في تلك الساعة للأفران أو العمل يطوفون بي الشوارع حتى وصلت المنزل". وعلق العقيد ـ "هذا لأن أهل يزد مجوس. هل رأيت المعبد المجوسي والنار المشتعلة منذ عصور؟". ـ "نعم وكان معبدا طينياً قديماً في شارع فقير". سأل العقيد ـ "هل عثرت على العائلة؟". ـ " الأم والأب والبنات وابن واحد وأما الأبناء الثلاثة فلم أعثر عليهم ولم تكن العائلة تعرف طريقهم، ولكني علمت بعد الاحتلال انهم أحياء بل عادوا الى البلدة وهم ينامون الآن على مرمى حجر من هنا". قال العقيد بنبرة أكثر جدية كما لو أنه وجد ان الفرصة مناسبة وكان القارب ينزلق مع التيار بعد أن أطفأ سعيد المحرك واستغرق في أغانيه ـ" كنت أريد سؤالك عن ذلك ولكني ترددت: هل تفكر في زيارة البلدة؟". ـ " أفكر وسأفعل ولكن ليس الآن". قالها بلهجة عميقة وهو يرنو الى دغل الحلفاء واضاف" بالتأكيد سأفعل". ـ " هل لديك عائلة؟" قالها العقيد وتابع مسرعا بلطف واحتراس ـ " اذا سمحت لي بالسؤال؟". ـ" بقايا عائلة، يا صاحبي في الزاد والملح. هل تراودك شكوك حولي؟". قال العقيد بعاطفة حارة ـ" أبدا. ولكن فرح لفتت انتباهي الى شيء لم يخطر ببالي هذا المساء". ـ " هل هو شيء خطير يتعلق بالأمن القومي حضرة العقيد؟". ضحك العقيد قائلا ـ" لا، ابدا. يتعلق باسمك في الجواز. هل يقلقك هذا الأمر؟". ـ " لكني لم أفهم حتى الآن؟". كان سرب من الطيور المجفلة قد فرّ من الدغل عند اقتراب القارب وقال العقيد ـ" في جوازك كتبوا اسم الأب أولا ثم الجد ثانيا واسمك ثالثا، اي قلبوا التسلسل السلالي حسب تقاليدهم، لكن اعادة قلب الاسم على وضعه الأصلي كما فعلت فرح يتطابق مع اسم كاتب رواية" الأعزل" ولست أظن ذلك ولا يعني الأمر شيئاً، بل كنت ساكون فخوراً به ولستَ مطالباً بجواب وتستطيع أن تنسى الأمر وتتأمل الضفة والأشجار وتتذكر وتخاطب الأشباح والموتى". قال من داخل أعماقه النائية وهو يشم عطر الأعشاب المسكر ورائحة الطين ويستعيد رفيف أجنحة الطيور المجفلة وهي المرة الأولى التي يسمع فيها هذا الرفيف ويشم هذه العطور الشذية وطين الشواطئ ويوغل في النهر كما لو أنه يوغل في تاريخ منسي أو مقصي ـ" ليس الآن". وبما يشبه الهمس أضاف ـ" خلف كل شجرة حكاية". وقال بصوت واضح لا ينسجم مع طريقتهم في الكلام التي بدأوا بها منذ انطلاق الرحلة ـ "هذا الليل حضرة العقيد لن يبق منه في النهاية غير الحكاية. هناك دائما شخص ما يرانا ولا نراه يروي للأجيال. هل عملت في المدفعية"؟. ـ " في المدفعية؟" كما لو أن العقيد بوغت بالسؤال وكان يفكر بشيء آخر واضاف وهو يمسح الطاولة المعتمة الآن حيث أطفأ نور المصباح وفي كثافة الدخل والصفصاف المنحني على الجروف صارت الوجوة مبقعة بالظلال المتباينة من ظلال داكنة واخرى خفيفة ـ "نعم، كنت مرة آمر وحدة مدفعية في الفرقة الخامسة". ـ "حقا؟ كنتُ في اللواء العشرين التابع للفرقة". وكما لو أن العقيد أراد أن يعيد الجو المرح للقارب، قال ـ " لو كنت أعرفك خندقك في ذلك الوقت لكنت قد تلقيت مني رشقة مدفعية ولم تكن بحاجة الى كل هذه المنافي وعبور الحدود والمحطات والآهات. أين كنت صبيحة عيد تموز سنة 1982؟". ـ "كنا نخوض معارك شرسة شرق البصرة". ـ " أعرف ذلك ولكن أين كنت أنت؟". ـ " واين يمكن أن أكون في تلك الأوقات الجهنمية غير الخنادق؟". ويبدو أن العقيد قد استعاد بعض ذاكرته عن تلك الأيام فقال ـ" تركتم المواقع في واحدة من المعارك. هل هذا دقيق؟". ـ " دقيق تماما ولكنك ربما نسيت أننا طُوِّقنا من الخلف والمعركة نشبت في مقر الفوج الثالث في الغسق بعد عواصف رملية صحراوية طوال النهار". ـ " كان آمركم هو العقيد...؟" ـ " هو بلاشك، وكان يقضي النهار مختبئاً كجرذ في ملجأ محصن وهو يشرب الويسكي وفي الليل يلبس جلد الأسد". صرخ العقيد فجأة ـ " خذ حذرك من هذه الشجرة يا سعيد". وكانت هناك شجرة ناتئة في مرتفع دغلي أمام القارب المتهادي وكان الفتى غارقا في عالمه وربما في عالمهم. أضاف العقيد مازحا ـ " لو مات الضيف، فستكون نبوءة تروتسكي قد تحققت، وسيقولون انه استدرج الى النهر من قبل عقيد مغرم بالدكتاتورية ودبروا له موتا يليق بهارب". عاد الجو الى الصفاء وخرج القارب من الظلال وصار ، الآن، في منتصف النهر وقد انعكست عليه أشعة القمر، ومن بعيد كانت تلوح نوافذ مضاءة ـ " نوافذ قصر الشيخ" قالها بصوت مسموع كما لو كان يحدث نفسه. قال العقيد ـ " نعم، وهو بيت جد زهران". ـ " من يكون زهران؟". ـ " السائق الذي أقلك أمس الى البنسيون وبالمناسبة سأل عنك هذا الصباح وهو شديد اللطف ونجيب الى أبعد حد ويخجل جدا من الحديث عن الاقطاع رغم انه ولد بعد تلك الفترة". سأل وهو يضع كاسه ويرفع ملعقة من اللبن الى فمه ويمسحه بيده ـ " هل تخجل أنت حضرة العقيد من ماضيك؟". ـ " ابدا، لا أشعر بالخجل ولكني أشعر بالألم لأن الأمور وصلت الى ما تعرف. عكس كل ما يتصوره المثقفون، لم نكن نحن شيئاً مهماً في تلك المؤسسة الضخمة". ـ " هل كنت مستعدا للموت تلك الأيام؟". ـ " كنت سأموت غبياً من أجل مبادئ قد لا تكون صحيحة". ـ" برتراند راسل قال ذلك يوما. أنت لطيف جدا وأحب أن أمازحك كثيرا ولكني سأكون شاكراً لو نسيت حلاّق تروتسكي". ـ " أعرف ذلك جيدا" ورفع كأسه عاليا وقد امتلأ الآن بضوء القمر وكان الشراب الذهبي فيه يرتج. ذّكره هذا الارتجاج بصوت مطر قديم ونافذة وفندق وسجادة خيول على الحائط وليل ماطر في محطة سفر وفتاة تغوص في حشود المسافرين من الجنود الى الحرب. قال ـ" جميل هذا الليل. اين نحن الآن؟". ـ" نقترب من مكان العبّارة القديم". قال سعيد وهو يدير القارب لكي يقترب من الشاطئ. كانت بضعة أضواء تلوح في الليل بين الأشجار والبلدة كلها تقع خلف النهر وشم في النسيم العذب رائحة طحالب عفنة لكنها أشعرته بالابتهاج وتأمل الضفة عن قرب وتمكن من تحديد مكان المقهى الثاني القائم على الضفة الأخرى المتاخمة للبلدة حيث توجد مقهى على كل جانب كمحطة انتظار قدوم العبّارة. اشار الى مكان عبر الشاطئ قائلا في الضوء الليلي الفاتر الناعس وقد أخذ الجو في الابتراد، قائلا ـ"خلف تلك الأشجار تقع مضخة ماء قديمة". ـ" هذا صحيح" قال سعيد وهو يخفف من سرعة القارب وأضاف ـ "خلف الفندق تماما". ـ" هل تدري ان هذا الفندق القائم الآن أمامنا كان وكراً للشرطة السرية والعاهرات؟". ولما لم يجب العقيد تابع ـ" يوم كنت أنت آمر قوة حماية في الجزيرة، كان هذا الفندق يعج بالمساوئ". ـ" هذا خارج واجبي يا صاحبي. لم تكن عندي صلاحية خارج الضفة الأخرى". ـ" أعرف ذلك جيدا لكني كنت اقول ان الضفتين محتلتان تماما. هل تدري حضرة العقيد أن الاحتلال قديم وانه حدث في الواقع قبل تاريخه؟". ـ" يرى البعض ذلك ولكن لا أهمية لذلك اليوم". ـ" لست معك في هذا الرأي". كانت الضفة تقترب ومصابيح الفندق مضاءة وتلوح في هذه العتمة الكثيفة من الأشجار والصمت والضوء القمري كلوحة سياحية من تلك التي كان يراها في مكاتب السفر. مد يده اليمنى الى مكان في الشاطئ قائلا ـ" هناك توجد مزارع الخيار". قال سعيد ـ" خيار شواطئ لذيذ جدا. هل تحب أن أحصل لك على واحدة؟". ـ" سأفعل ذلك بنفسي. هذه أمنية". قالها بصوت غريب عنه كما لو أنه الآن يمارس حلما مستحيلا عاش معه كل تلك السنوات القاسية من النفي. قال العقيد شبه الثمل، ضاحكا ـ" هل رأيت يا صاحبي ماذا حلّ بك؟ صار الخيار أمنية. ماذا تقول اذن عن السلطة؟". ـ" لا أقول شيئاً. لم تعد السلطة تشغل بالي الا في السرير وحين أرى الكلسون متدليا من كرسي أو منطرحاً على الأرض". وضحك العقيد وشاركه سعيد الضحك ـ" إن عمي يحب هذا الحديث كثيرا". ـ" ولكن لماذا تتذكرها في السرير؟". ـ" كما يتذكر حطاب ما فعله به الزمن وهو يهوي على الشجرة، منهكاً". ـ" هل ينهكك ذاك الشيء؟". قالها العقيد وضحك بعمق وبدا يقظاً. ـ" ليس هو المنهك، بل لأن ذلك ارتبط في كل المراحل بالحروب. هل يخطر ببالك أن صديقا روى لي أنه وفي تلك النشوة الخاطفة يرى، أحياناً، بريق مدافع؟". ضحك العقيد بامتلاء حقيقي ودفع رأسه الى الوراء وهو يصفق بيديه قائلا ـ" ليست مدافع الفرقة الخامسة على أية حال" وضحكوا جميعا وكان القارب، الآن، مستقرا قرب الجرف. هو أول اقتراب من الشاطئ. ـ" كنا سجونا وثكنات ومصحات متجولة حتى في المكان الجديد. من عاش نظيفا هنا عاش نظيفا هناك ومن عاش سافلا هنا عاش كسرسري حتى النهاية هناك. سنتحدث كثيرا عن ذلك في المقبل من الأيام بشكل ممل ". شعر ان هذا الكلام يوقع في نفسه الملل وربما في نفوس الآخرين وقرر أن يكف عنه وقال ـ" اذا كنت ستدخل الجنة يوما، فستدخلها بسبب هذه الرحلة". ضحك العقيد بسرور وعلّق ـ " ومن يدري ربما لا يكون الأمر كذلك". وبعد صمت فترة قصيرة، قال العقيد كما لو أنه كان يفكر في مكان آخر ـ" أنت اذن غير مستعجل وستنزل البلدة في وقت ما. هل قلت هذا تماما؟". ـ" نعم قلت ذلك: أريد أن يكون الطريق طويلا أتعرف فيه على أصدقاء رائعين مثلكم وعلى مغامرات بعاطفة حية مشتعلة وقلب مفتوح ونهارات صيف مغمورة بالشمس والمتعة وأشترى هدايا من أسواق مليئة بالعطور والبضائع لأن الأجمل هو شوق الرحلة، ولو شعرت بالخيبة يوما فقد تكون حكمة السفر تعويضا وكذلك المعرفة"1. وأضاف ـ" قد تكون الخيبة قاتلة أكثر من مدافعك حضرة العقيد الشريف والوفي. هل تربي القطط؟". أطلق العقيد ضحكة مدوية عاد صداها من بعيد وقال ـ " كيف يمكن لعقيد سرحان أن يربي القطط. هل نسيت أن أسمي يعني الذئب؟". ـ" غاب عن بالي تماما. هل رأيت أننا لا نكون أذكياء دائما؟". قال العقيد، مبتهجا ـ "خاصة في حضرة الذئاب". ـ" ومع ذلك أنت تربي القطط. لماذا ترفض الاعتراف بذلك؟". قال منتشيا بالشراب والقمر والنهر والقارب والصداقة والجسر ورائحة العشب وعتمة الادغال. اكتست ملامح العقيد سرحان مسحة جدية لكنها ليست عنيفة وقال ـ" يبدو انك لم تسمع جيدا ما قالته لك فرح. حين هجرنا الجزيرة كانت تعيش هنا مجموعة من القطط وكانت ستموت من الجوع وهي قطط مدللة وحين عدت لأخذ القارب، حملت طعاما لها وجمعتها في بيت واحد وحملتها معي في الشاحنة ثم أطلقت سراحها في المدينة عندما وصلت". ـ" كنت أريد ملاطفتك. فرح قالت ذلك تماما. هل تعرف أخي سرحان أن عدم حب الكائنات والطبيعة هو نوع من الرذيلة ومن المؤسف أن القوانين لا تعاقب على ذلك؟ في صحة قطط العقيد سرحان جوال المهن. من دك مواقع الحرس الثوري الايراني بالقنابل الى حماية نخبة الطهارة والسمو والنقاء العرقي الى حماية القطط". وضحك سعيد بنشوة وهو يرنو الى العقيد وقال ـ" وجامع اليتامى أيضا". واضاف العقيد بلهجة مفعمة بالمرح والود ـ" ومأوى المشردين والمنفيين". ـ" الق المرساة يا سعيد واربط الحبل بتلك الشجرة" قال العقيد ذلك وأخذ يد الضيف ونزلا معا الى الشاطئ ـ" تماما كما لو أنني أقودك الى غرفة عرس". وضحكا معا لكنه تلك اللحظة كان يرتجف من أعماقه خاصة بعد أن حط رجله اليمنى على الأرض وتبعها باليسرى لأول مرة بعد كل سنوات النفي وصارا الآن معاً على أرض عشبية مليئة بالشجيرات الصغيرة لأن هذا المكان ومنذ رآه أول مرة لم تكن هنا ثمة أشجار كبيرة الحجم وشم رائحة ورق الخيار ـ" هل تشم؟" قال للعقيد واضاف ـ " رائحته طيبة جدا". وجلس في عتمة مضاءة بضوء قمري مشتت من أوراق النباتات والشجيرات الصغيرة كما لو كان يصلي وشم بعمق رائحة الأوراق ولم يشعر كم دام ذلك الى أن قال له العقيد ـ" هل انتهيت؟". نهض كما لو أنه قرأ في عطر النبات عصراً كاملا وقال ـ" نعم، لنذهب". قال العقيد ـ" هل تحب أن نمضي أبعد؟". ـ"لا، هذا يكفي اليوم، لنرجع. هل تشعر أن البلدة تغيرت؟". ـ"لست أدري تماما. تغيرت أسماء الشوارع والأحياء والمحلات التجارية والمقاهي وشعارات الحيطان وأسماء الأطفال الجدد وعلب المشروبات الغازية وأماكن العبادة والطرق والمرطبات الصيفية". ـ " لست مهتماً بذلك، أخي أبو فرح. هل هناك أشياء أخرى تغيرت؟ ". ـ " أزياء الشرطة وأسماء القوارب والأعياد والمقابر والسيارات والأسلحة". ـ " وأشكال الحدائق وجدران المنازل الخارجية و أقفال الأبواب ؟". ـ"لم تتغير". ـ" هذا غير مطمئن". صعدا القارب في حين كان سعيد ينظف الغرفة ويسحب السقف بعد برودة الجو متمايلا مع الموسيقى. قال العقيد ـ "سنمضي حتى منعطف النهر ثم نعود الى البنسيون" واندفع القارب هذه المرة بسرعة أكبر وكان هو صامتا. غطى هدير المحرك على أزيز الجنادب وحشرات الليل النهرية. كانت نوافذ قليلة تُرى من حافة البلدة مخترقة كثافة الأشجار لكن بناية المكتبة العامة والمدرسة الثانوية للبنات ودار الاستراحة المبنية أوائل ستينات القرن الماضي كانت تلوح واضحة تحت أضواء المصابيح. كان القارب ينعطف مع النهر لأن هذا هو المنعطف الأخير للنهر ثم يمضي بضعة كيلمترات قبل أن يعود وينعطف نحو الجنوب. قال الضيف ـ" حين عبرنا المنعطف كانت هناك دوامات في الماضي". ولم يعلق العقيد على ذلك وترك الضيف يعيد بناء عالمه القديم مباشرة من قلب القارب ولكنه في لحظة تالية قال ـ" هل تشعر بالجوع؟". أجابه ـ " نعم وأفضل النزول الى الشاطئ في أقرب مكان". ـ" أترك لك خيار المكان" قال العقيد وهو يشرب جرعته الاخيرة من الكأس. ـ"هذا كرم منك حضرة العقيد الليبرالي وكان على رئيسك أن يفكر بهذه الطريقة". نزلا عند أحد الجروف. كان الليل يتقدم. المكان يطل على النهر من مرتفع وعلى الجزيرة والأفق الشرقي، وتلوح سماء البلدة مضاءة بسحابة كبيرة من مصابيح الشوارع والمنازل والتي لا ترى من هذا المكان، ولم يظهر الجسر من هذه الزاوية، لكن يلوح شريط أشجار النخيل عند الحافة البعيدة من النهر وهو يمضي في السهول المضاءة، الآن، بقمر عراقي منزلق وقرون الغزال الأسطوري كما هي، متوثبة، وبعد الطعام وقف فوق حافة النهر كما كان يقف في أحلامه المرتجلة أو في السرير وكان الفجر يبزغ بطيئا بتلك العتمة الشفقية المحمرة المحترقة وكان منظر النهر وقارب صيد يتحرك فيه من الضفة المقابلة بمجذافين يسمع صوت ضرباتهما من هذا المكان أقرب ما يكون الى لوحة كلود مونيه: شروق الشمس. ـ"هل انتهيت؟" سأل العقيد بتوقير تام وحقيقي. ـ" نعم ، لننطلق الآن". قال العقيد سرحان وهو يجلس قبالته في القارب تفصل بينهما طاولة خشبية ـ " أشعر بسعادة غامرة الليلة ". ـ" لا أظن ذلك أخي سرحان. لا أظن ذلك". ـ " ما الذي يحملك على الظن؟". رد عليه وهو يرى الفجر يبزغ فوق النهر والأشجار والجروف ويلوح قارب الصيد مغمورا بغشاوة ضباب أبيض بحمرة خفيفة ـ " أنت نبيل أكثر مما يسمح به الظرف وهذا النبل يقف عائقاً في طريقة سعادة حقيقية أو متعة وانت ترى شخصا يتمزق بصمت. مجرد رغبتك في فهمي هي أقصى أنواع النبل والشجاعة". عندها نهض العقيد سرحان ووضع رأسه على كتفه وهو يقول بنبرة متوترة ـ" أفهمك " وأضاف والقارب يزيد من سرعته ـ " في الصداقة كما في الحب يقوم الانسان بافعال خارقة خارج حدود الخير أو الشر". ـ " نيتشة قال هذا الكلام أيضا". قال العقيد كما لو أنه لم يسمع ـ" كانت فرح على حق". ـ " في أي شيء". ـ" ليس الآن، ليس الآن". تلك اللحظة، وهو يتسلق الجرف المنحدر نحو البنسيون، على ضوء الفجر الحليبي الأبيض، ويصل الممشى المؤدي الى الشرفة، كانت مخلوقات أرضية قد شرعت في النشيد في الدغل المندّى، في حين نامت مخلوقات ليلية أخرى في انتظار طلوع القمر. جفلت قبرة وطارت في الضباب. كان مفتاح الشرفة بارداً برودة ثلجية. قبل أن يستلقي على السرير في غرفة النوم، سحب ستارة النافذة المطلة على الأفق الشرقي، وكان آخر شيء وقع بصره عليه هو طائر الأوز العراقي الأبيض الثقيل بصوته الأخن وهو يحلق، واطئاً، نحو النهر ـ " ربما عاد هو الآخر من بحيرة تشينغهاي الصينية بعد تجفيف الأهوار في الجنوب تلك الأيام". قال ذلك واستلقى على السرير وخطر له أن يسأل نفسه قبل أن يَغرق في النوم ـ" أليس هو نفسه طائر التم؟". - 1 تناص مع قصيدة كافافي الشهيرة: الطريق الى ايثاكا. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ حمزة الحسن
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|