حوار/ يعد الشاعر العراقي زاهر الجيزاني نموذجا للمثقف العضوي الذي يرفض العزلة ونأي الذات عن جوهر الوظيفة الحقيقية للمثقف في الشأن العام. فمثلما يطالب "الدولة" باعتباره مثقفا منتجا يقع عليها واجب رعايته لضمان "الإنتاج"، يدفع جمهرة المثقفين الى هجر ضفة الاستهلاك والكف عن لعب دور المثقف المستهلك.كما انه يرهن "عراقا" حيا مستقرا بحسم هويته الثقافية، التي يرى حقوق المواطنة وتكريسها ممارسة حقة واحدة من اهم ركائزها. زاهر الجيزاني أحد رواد جيل السبعينيات الشعري في العراق،عمل في مجلتي الأقلام والطليعة الأدبية ونشر في الصفحات الثقافية العراقية، انتخب رئيسا لمنتدى الأدباء الشباب في العراق بين عامي 81-82،عمل أستاذا محاضرا في جامعة صنعاء 90-91، غادر شمالي العراق 1993،وعمل في المؤسسات الإعلامية للمعارضة العراقية هناك 93-95، انتقل إلى سوريا ومنها إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث استقر فيها عام 1997، صدرت له: (تعالي نذهب إلى البرية) شعر 1977، (من اجل توضيح التباس القصد) شعر1980، (انطولوجيا الشعر العراقي)-الموجة الجديدة 1986،(الأب في مسائه الشخصي) شعر 1987،مختارات من الاعمال الكاملة 1996-وزارة الثقافة السورية( الحداثة والشعرية)،دراسة نقدية عن الشاعر عبد الوهاب البياتي 1996، -خمسة شعراء عراقيين 1996- دولة العراق-خطأ التأسيس-1996مخطوطة.
نهضة ثقافية بدأ الحوار مع الجيزاني من مقولة النهضة الثقافية، حيث يُبذل الحديث حولها عراقيا، في إطار لحظة تاريخية مهمومة بمتطلبات التغيير السياسي والاجتماعي، وتتشابك الرؤى، ومعها الحلول والاستنتاجات، حول نيل فرصة حقيقية للنهوض الثقافي. وقبل ان يخوض الجيزاني في البحث عن سبيل للنهوض، يحاول تقديم صورة واضحة للمثقف، ويقول: " اولا صورة المثقف وصورة الثقافة غير واضحتين لا في الخيال الشعبي ولا في خيال بعض المتعلمين- في الخيال الشعبي - الشخص الذي يحمل الجريدة ويقرأها يوميا له صورة المثقف والذي يقرأ الكتب الأدبية او الكتب السياسية والدينية والتاريخية والاقتصادية او كتب العلوم أيضاً له صورة المثقف-وهناك مثقف يكتب في الجريدة ويؤلف الكتب في الادب والفن والسياسة والتاريخ والدين والاقتصاد والاجتماع او يعمل في إنتاج البحث والدراسة والمقالة - كل هؤلاء الذين يقرأون والذين يكتبون او يمارسون الفن يطلق عليهم في الخيال الشعبي او في وسط المتعلمين بالمثقفين.. انها صورة واحدة فالسياسي يندرج في صورة المثقف والمثقف محتوى يضم السياسي، كما يضم الشاعر والباحث الاجتماعي، لكن فعلا هل صورة المثقف صورة واحدة ام صورتان؟ بمعنى هناك مثقف يستهلك الثقافة فهو (مستهلك) فقط يقرأ ويعرف، وهناك مثقف ينتج الثقافة (فهو (منتج). المثقف المستهلك موجود في كل مكان فهو يعمل في المؤسسة السياسية رئيسا او وزيرا او نائبا او مسؤولا حزبيا وفي المؤسسة الإدارية او العسكرية اوالمؤسسة التعليمية الخ. اما المثقف المنتج فانه يعمل في المؤسسة الثقافية في مراكزالبحوث، الجامعة، الصحافة، دور النشر والتأليف، دائرة الفنون، المقهى او البيت. السؤال من هو المعني حصرا بالنهضة الثقافية المثقف المستهلك ام المثقف المنتج؟ إذن المثقف المنتج ابتداء هو المسؤول عن مشروع النهضة الثقافية يليه المثقف المستهلك - تاريخيا النهضات الثقافية التي ظهرت في بلدنا منذ القرن التاسع عشر اقتصرت على الشعر اكثر من أي حقل ثقافي آخر- حتى بات الضيق واضحا عندما يجري الكلام عن الثقافة وكأنه كلام عن الشعر فقط، في حين لم تشهد حقول ثقافية أخرى أية نهضة. ان كتابا بسيطا في مادته وبسيطا في الجهد التحليلي مثل كتاب النهضة الأدبية في العراق للدكتور مهدي البصير يشكل اليوم مصدراً مهماً للباحثين في حقل النقد الأدبي- وأهميته تأتي كمادة وثائقية أكاديمية تخدم مؤسسة التعليم اكثر مما تخدم مشروع النهضة الثقافية". لكن الجيزاني يتساءل: لماذا لا تقوم نهضة ثقافية في العراق؟ ويجيب هو بالقول: "الجواب يكمن في ان المثقف المنتج غير معترف به قانونيا وليست هناك تسوية قانونية كي يدخل في كفالة الدولة فقط المؤسسة الثقافية هي المكفولة قانونيا وخاضعة إدارياً لضوابط الإدارة بمعنى ان المؤسسة الثقافية تقبل المثقف المنتج كموظف يخضع لقانون الدرجة الإدارية ولا يعامل وفقا لإنتاجه الثقافي". ويعود الجيزاني لإسناد مقولته في ركيزة النهضة ويقول: "الشعر وحده كان يتجدد ويحدّّّّث نفسه بسبب الحساسية العالية والفورة العاطفية فيه والتأثر السريع والمباشر بما يحدث كانت استجابته للاشتباك مع الواقع أسرع-لذلك رغم الواقع المزري للشعراء فقد طوروا هذا الحقل الأدبي والسياب مثال وعينة نموذجية للاختلال الكبير بين خط الحياة الصعب الذي عاشه وبين خط الانجاز الشعري الذي حققه، فقد لاحقه الحزبي المؤثث بالامتياز والسلطة في الخمسينيات فطرده من التعليم بحجة ان لديه آراء مختلفة ثم ساعده حزبي آخر وتوسط له ليعمل موظفا في التجارة ثم لاحقه حزبي آخر كتب عنه تقارير فسجنوه ثم توسط له حزبي آخر فأطلقوا سراحه ثم بقي عاطلا عن العمل ثم توسط له حزبي آخر ليعمل موظفا في الميناء ثم سقط في المرض ثم عومل كمتسول او مسكين يتلقى معونات حزبي آخر ثم مات". ويبدو ان المثقف المنتج في العراق لم يتعرض مرارا الى محاولات إبعاده عن وظيفته الحقيقية في النهضة وحسب، بل انه يجابه مجموعات من المثقفين الذين يلعبون دور حاجب الأمير، وهنا يقول الجيزاني: "السبب الثاني في تأخر مشروع النهضة الثقافية - المثقفون أنفسهم -دائما الحكومات المتعاقبة لديها مجموعة من المثقفين المناصرين حزبيا لها وهؤلاء ما ان يتم توظيفهم في مفاصل الدولة فأذا بهم يتحولون الى ملكيين اكثر من الملك يصنعون جماعات أدبية صغيرة ومغلقة تستفيد من دعم الحكومة وتتقوى بها وكأنها تعمل لنفسها وتقوم بدور حاجب الأمير الذي يحجب نصف الحقيقة وهذه طبعا لا يهمها أي مشروع لإصلاح الثقافة او تحسين أوضاع المثقف بشكل عام-والأمثلة كثيرة وعشناها بمرارة - في النظام السابق كانت هناك- جماعة عبد الأمير معلة وجماعة عادل عبد الجبار وجماعة عبد الرزاق عبد الواحد وجماعة لؤي حقي وهذه الجماعات تعتبر جماعات السلطة وهم أعضاء في اتحاد الأدباء - حاضرون في المهرجانات وحاضرون في المكافآت. عندما تتوفر للحكومة، اية حكومة، مجموعة من المثقفين تؤدي حسب الإشارة عروضا أدبية او فنية تكون جزءا من الخدمة العامة الدعائية للنظام ستستغني الحكومة عن باقي المثقفين". الجيزاني لا يرفض قيام مجموعات أدبية او معرفية او فنية فالنهضة دائما تصنعها مثل هذه المجموعات ولكنه يرفض المجموعات التي يتأسس عملها على المكائد وليس على احترام الانجاز الثقافي، ويطلق عليها اسم (مجموعات المكائد)، ويواصل حديثه: "السبب الثالث هو ان البلد لم يستقر سياسيا منذ مائة سنة ومن سوء حظنا لم يتشكل حاكم وطني حتى الان وليس السبب ان الحكام العراقيين عملاء وأشرار ولصوص بل لغياب التربية الوطنية، فما ان خرجنا من الاحتلال العثماني متلهفين ان نرى العراق ونلتصق به وننشد له في المدارس ونعرف حدوده وأنهاره وناسه وتاريخه حتى أخذونا بالقوة ننشد للجزائر ولمصر وتونس والخليج ووصل الامر في أواخر الثمانينيات الى حجب العراق حتى من الكتب. مرة ذهبت الى المكتبة الوطنية وكنت محتاجا لقراءة كتاب طه الهاشمي واحد من المراجع الجغرافية المهمة عن جغرافية العراق وفوجئت بأن الكتاب ممنوع من التداول.. لست ضد الانتماء للإقليم العربي ولكن اولا نريد ان نصنع انتماءا عراقيا، وكبرت أجيال عراقية لا تعرف سوى ان العراق جزء (من الأمة العربية) وليس دولة ترعى مصالح شعبها كما يحدث في مصر التي يقول رئيسها) مصر اولا والكويتي الكويت اولا والسعودي السعودية أولاً)، الا حكام العراق على الدوام يصنفون العراق ثانيا وثالثا والعراقي خائنا ومعاديا ولا يستحق الحياة اللائقة؛ تلك تصنيفات صدام، اما اليوم فيصنف يتيما وعابر سبيل ومسكينا وحتى حقوقه البسيطة يتحايل عليها موظفو الدولة ويحرمونه منها باسم الضوابط والتعليمات ولن ينالها الا بالرشوة لذلك عوملت الثقافة على يد الحزبيين على انها (حالة بطر)، وعومل المثقف بالإبعاد والإهمال والتجاهل. فكيف لماكنة الانتاج المهملة والمقطوعة عن الإدامة ان تنتج او تحسّن إنتاجها. في النهاية اذا لم تتكفل الدولة رعاية المثقف المنتج، ماليا، من خلال تسوية قانونية فأي إصلاح ثقافي او نهضة ثقافية لن يكتب لها النجاح. اليوم النتاج الثقافي النوعي يصلنا من دول الجوار".
ثنائية الدولة والمثقف يخوض المهتمون بالشأن الثقافي العراقي نقاشا حاميا حول ثنائية الدولة والمثقف؛ البعض لا يريد وصاية حكومية على المشهد، والبعض الاخر يطالب بتوفير مناخ وبيئة سليمة لإنعاشها عبر الدعم والإسناد، في وقت لا يسمح هذا البعض للحكومة بالتدخل في شؤون المرافق التي تؤسس نفسها كمراكز للإنتاج الثقافي. بمعنى انهم يطالبون بتوفير حياة كريمة للمثقفين لكنهم يرفضون الوصاية على مؤسساتهم. فما قول الشاعر الجيزاني في شكل العلاقة بين السلطة، أية سلطة، والمثقف؟ يقول:"يجب ان يقبل المثقفون بالدعم الحكومي لعملهم ولكن من خلال تسوية قانونية ترقم فيها البنود التي تتكفلها الدولة. مثلا ان يقر مجلس النواب منحة ثقافية شهرية لكل أديب او فنان اوكاتب منتج، لا تقل عن مليون دينار، وان تدعم الحكومة التفرغ الادبي والفني والفكري، وان تكون هناك جهة ثقافية مسؤولة مثل اتحاد الأدباء والكتاب او اتحاد الفنانين او اتحاد التشكيليين وغيرها من الاتحادات الثقافية يطلب الأديب او الفنان او الكاتب تفرغا لمدة سنة او اكثر لانجاز عمل ثقافي محدد، وان تدعم الحكومة عبر هذه الاتحادات أي إنتاج ثقافي للمثقف يتقدم به:طبع كتاب، إقامة معرض رسم، حفلة موسيقية، ندوة فكرية، فيلم سينمائي، مسرحية، منحوتة فنية، تقديم جوائز الخ، إضافة الى رفع سقف المكافآت في المطبوع او الفضائيات، مكافآت الأدباء والكتاب والفنانين والصحفيين بائسة ومهينة، ان على شبكة الإعلام العراقية وهيئة الإشراف على الصحف الأهلية والفضائيات تحمل واجب أخلاقي مسؤول في زيادة سقف المكافأة للناشرين العراقيين. هذا ما نطلق عليه توفير حياة كريمة للمثقف والحفاظ قانونا على كرامته. اليوم يتحدث الكثير عن اولئك الأدباء والفنانين والكتاب ممن رهن جزءا من فنه وادبه وكتاباته لمديح الطغاة والحكام الفاسدين ليس فقط في حقبة صدام أيضاً في حقب سابقة كان الشيخ علي الشرقي رجل دين مرموقا وشاعرا ألف كتابا عن رئيس الحكومة في العشرينيات محسن السعدون تحت عنوان( ذكرى السعدون او بطل التضحية والإخلاص) لأن السعدون التزامه وعينه موظفا ثم نائبا وهكذا في حين يرى كثيرون ان السعدون سليل اكبر عائلة اقطاعية استولت على أراضي جنوب البلاد من خلال سنود مزورة وحولت شعبا كاملا هناك الى عبيد. واليوم ستتكرر الآلية ذاتها اذا لم نسرع لتحصين أدبائنا وفنانينا وكتابنا من خلال بند قانوني يضمن حياة لائقة لهم نحن انتقلنا من زمن قديم الى زمن جديد من زمن الحاكم الواحد المستبد وزمن القرارات التي ليس لها سند دستوري وحكومة الانقلاب العسكري والحزب الواحد الى زمن فيه دستور دائم وحكومة تفوز بالسلطة عبر الصناديق وشعب يختار ومكونات متنوعة لها شراكة في السلطة لكن هذا التغيير فيه أخطاء كبيرة( اسميها أخطاء التغيير) والكلام عن هذه الأخطاء والتذكير بها وتوجيه النقد واللوم للحكومة من جهة وللأحزاب من جهة أخرى لا يعني ان المثقفين ما زالوا يعانون من إرهاب السلطة القديم ويجدون صعوبة في التكيف مع الحكومة الجديدة انما يجدون صعوبة في ان الحكومة او الأحزاب لا تصغي جيدا لما يقال في الصحافة والبعض منهم لا يعمل لتضميد الجراح والانفتاح على الآراء المختلفة انما يعمل بدافع الانتقام والغطرسة. ولا يوجد حاكم مارس الانتقام والغطرسة مثل صدام لكن في النهاية القي جثة هامدة في حوض سيارة بيك آب، فهذه الثنائية بين الحكومة والمثقف تزول اذا عملت دولة التغيير او الزمن الجديد على ازالة الظلم التاريخي الذي لحق بالأدباء والفنانين والكتاب بسبب الإهمال المقصود وعن سبق الاصرار من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة".
نظرة دونية يؤاخذ على النخب السياسية العراقية نظرتها الدونية للثقافة، بل ان بعضا من المثقفين يتهمون تلك النخب بلعب دور سلبي في تهميشها وإبعادها عن دائرة القرار. في ظل ظرف عراقي معقد ومتشابك، كيف يرى الجيزاني دور المثقف في الحياة السياسية، وما هي مقولتك في شان (السياسي – المثقف)؟ لكن الجيزاني يضيف سؤالا اخر:"هل هناك سياسة في العراق وهناك سياسي" ويوضح اجابته بالقول:"تأريخ السياسة في العراق يقول ان هناك أحزابا وهناك حزبي، وهذه الأحزاب لم تتحاور بشأن البلاد بل كانت تتقاتل ودائما هذه الاحزاب مسلحة او لديها زمر مسلحة ولديها برنامج وحيد هو العمل على إزالة الحكومة والإحلال محلها، ثم تندرج في الآلية القديمة ذاتها للحزب المنحل الذي سبقها؛ تعيين الأقارب في مفاصل الدولة وإبعاد الكفاءات، وتقسيم المجتمع العراقي الى موالين ومعادين.. قبل شهرين كنت حاضرا نشاطا شعريا واستمعت الى مقدم الندوة يستعرض السيرة الذاتية لشاعر شاب في مقتبل عمره، وقد شغل وظائف كبيرة وعديدة منها مساعد وكيل وزارة ومدير عام ومسؤول في الإعلام، على الفور تذكرت الشاعر حميد سعيد في بداية مجيئ البعث، ولم يزل في العشرينيات عندما أصبح مديرا عاما وملحقا ثقافيا ورئيس تحرير ووكيل وزارة. اذن الآلية نفسها؛ آلية الأقارب والحزبيين وتصنيف المواطنين الى (معنا او ضدنا). السياسي العراقي المسؤول محتم بقوة الامتيازات التي يملكها ولا يملك سوى هذه القوة (المتقاوية بقوتها القووية) زيادة لتأكيد القوة الغاشمة وعندما لا يكون لديه برنامج وطني سيتصرف تصرف القوي الغاشم. ليست فقط نظرة هذا القوي الغاشم للمثقف، كذلك النظرة ذاتها الى المواطنين، تتذكر كيف حول صدام بعض المثقفين بالقوة الغاشمة التي يملكها الى أبواق وحول المواطنين الى وقود للحروب والفقر. اليوم انا أعول على البيئة السياسية فهي تساعد على بناء دولة وتجبر السياسيين على تعديل مسارهم بما يتناغم ودولة القانون ودولة الحقوق للكل والواجبات على الكل وإحياء النسيج الوطني العراقي، هذا هو اليوم دور المثقف العراقي ان يرسل رسائل مستمرة الى السياسيين ان لديهم فرصة كبيرة لبناء دولة وتغيير نظرة الكراهية فيما بيننا الى نظرة تشع بالأمل القادم".
الهوية الوطنية ودور المثقف يدور الصراع الراهن في العراق، أصلا، حول الهوية الوطنية للدولة؛ شكلها والأسس الثقافية التي ترتكز عليها. وبينما يحدث هذا تتفاقم المخاوف من تقلص دائرة التنوير والمدنية. كيف ترى الأفق في ظل هذا الصراع الذي تزدهر فيه أدوات مثل العنف، تقليص حريات التعبير، فرض المزيد من القيود، التجاوز والاحتيال على مفهوم الديمقراطية؟ وهنا يقول الجيزاني انه ينخفض الى مستوى التناظر مع أس المشكلة ولكن عن بعد، ويسترسل: "الحديث ينصب دائما على مشاكل محايثة عن مشاكل تقع بالقرب من المشكلة الأصلية وهي مشكلة يعرفها الكل ولا يسمح الكم الكبير من تزييف غايات الأحداث ومسارها المنظور من الاقتراب من المعاينة الأولية للمشكلة، فالصراع يجب ان يكون حول الهوية الوطنية ولكن الصراع اليوم الذي يتخذ اشكالا مختلفة للأسف حول السلطة والثروة. عام 1933 وفي مقابلة معه قال جعفر أبو التمن، وكان آنذاك وزيرا، (العراق للعراقيين) هذه الجملة كان يجب ان تشكل الإطار الصحيح للهوية الوطنية، ولكن هذه الجملة لا ملامح لها على الأرض؛ أثناء الحرب العراقية الإيرانية وفي تجمع حاشد في قاطع العمارة، كان صدام يتحدث مع الجنود عن الأرض والدفاع عن الوطن، وانبرى له احد الجنود وكان التسجيل على الهواء، قائلا كيف أدافع عن ارض لا املك فيها شبرا وعن وطن ليس لي فيه بيت، وكان هذا الجندي يسمع قصصا وإخباراً عن آخرين من العراقيين الذين تمنح لهم أراض وبيوت ودونمات زراعية مجانا، عن شبان يواجهون أسئلة امتحانات كلها الغاز ويرسبون وشبان توزع عليهم أجوبة الأسئلة ليلا وينجحون ويقبلون سريعا في الجامعات. ثم الفجوة تزداد اطرادا بين عراقيين مالكين وعراقيين مؤجرين بين عراقيين متعلمين وعراقيين راسبين ثم خلل اجتماعي ثم خلل وطني. يقول أولئك الذين يملكون السلطة والثروة يجب ان نحب الوطن وندافع عنه، وعندما يطردون من السلطة يقولون ما عاد هذا الوطن وطنا يجب ان يحرق ويهدم والذين يجيئون للسلطة ينهبون البلد ويهملونه يقولون نحن لا نعرف الهوية الوطنية نعرف اننا حرمنا من السلطة والثروة وهذا يومنا. هذا هو الاشتباك منذ الجملة الحقيقية التي قالها جعفر أبو التمن وحتى اليوم. وهنا يجادل الجيزاني منعطفات تاريخية مهمة مرت على البلاد، وقد يختلف معه كثيرون. غير انه، في النهاية، يستند الى حلم المواطنة الذي فشلت في صياغته وتحقيقه نخب وسلطات وحروب، ويقول: "هذا البلد كاد يكون دولة راسخة مرتين في تاريخه، والعراقيون كلهم يملكونه، مرتان كتب لنا دستور دائم فيه الحقوق والواجبات واضحة؛ مرة بأمر البريطانيين 1921والاخرى بأمر الأمريكيين 2005 وفي الحالتين ترفض النخبة التي تحكم فكرة الدولة وفكرة الدستور الدائم من خلال تسييد النظام الحزبي وتفضيله وإحلاله بديلاً عن الدولة. وعن الدستور اليوم هناك صراع في طور الاحتكاك بين الحزبية التي تخشى من بناء دولة يحكمها قانون فتضعف سلطتها وبين شعب تعب من الحرمان والفقر في بلد من أغنى البلدان يريد قانونا صارما فيه العدالة الاجتماعية واضحة وحقوقه معلنة، وهذا الدور الذي يجب ان يلعبه المثقف العضوي وسط أغلبية فقيرة ومهانة؛ دور التبصير بأهمية وجود دولة قانون.. صمام الأمان الأخير للعراقيين كل العراقيين، وسيتبنى المثقف الدفاع من اجل العدالة في توزيع حقوق المواطنة التي اقرها الدستور، فالعراقي مخدوع قانونيا وحقوقه مسروقة ولا يعرفها..هذا هو الأفق الذي أراه في قابل الأيام".
الشعر اليوم وفي خضم الجدل حول دور المثقف، تدور الأسئلة حول ما ينتجه من منجز إبداعي وتطرح الأسئلة حول جدواه، فهل تجاوب المنجز الأدبي مع ظروف التغيير؟ هل نجح في خلق مفردات جديدة تواكبه وتتورط معه؟ أم إن أمر مواصلة البحث عن هوية ثقافية للمجتمع مازال ينطبق على المنجز الأدبي؟ ويتحدث الجيزاني هنا عن الشعر اليوم: "أتحدث عن الشعر حصرا فهو انجز صورة كاملة وذات قيمة فنية عالية عن فترة الدكتاتورية السوداء عن الفظاعة التي عشناها وعن انتظار الأمل، وعن حلم التغيير كانت مقهى حسن عجمي المكان الأثير الذي شاركنا هذا الحلم في الاقل أتذكر مجموعتين من مجموعات العد العكسي لسقوط النظام مجموعتنا التي تضم أصدقائي الأدباء كمال سبتي ورعد عبد القادر وحميد قاسم وعبد الستار البيضاني ومحمد سعدون السباهي ومأمون عبد العال تقريبا كل ظهيرة نلتقي نحن الذين نتابع أخبار مونت كارلو والببي سي وصوت أمريكا انا وحميد قاسم وعبد الستار البيضاني ومحمد سعدون السباهي ومأمون عبد العال، حميد قاسم دائما لديه أخبار تشير الى ان صدام سيسقط من الداخل مرة بتمرد عسكري ومرة بمؤامرة من داخل الحزب او مكيدة من أخوته وعبد الستار البيضاني لديه أخبار عن تحركات أمريكية وخليجية ومصرية متأهبة ومع اني كما يقال كنست الإذاعات كلها في الثامنة صباحا لم اسمع خبرا بهذا السيناريو وكان البيضاني يركب الخبر بطريقة مشوقة مستفيدا من براعته كقاص ثم ينبري عبد العال يحلل الإخبار خبرا ودائما كنت أصغي لا للخبر لاني اعرفه بل للمنطق المقنع وراء تحليل الخبر.. طبعا هذا الجو الذي يتم فيه يوميا رسم نهاية صدام، يتشكل أيضاً عند مجموعة ثانية قريبة منا ومجموعة ثالثة ورابعة أيضاً مع كمال سبتي ورعد عبد القادر وخزعل الماجدي وسلام كاظم وحميد قاسم وكريم شغيدل. كان حديثنا حول الانجازات الشعرية التي خاضت في تفاصيل الصورة المأساوية وقدرة هذا الشعر على ان يصبح وثيقة مستقبلا ثم حدث التغيير وظهرت أخطاء لم نعش فسحة هدوء ولو صغيرة كي ينتقل الإبداع من ضغط فترة النظام السابق الى فترة الحرية، انا كتبت قصيدتين بعد التغيير الأولى عنوانها(المكان العاقل مهدد بكتب التنجيم) موضوع القصيدة تلخصه الجملة الافتتاحية هكذا:(لم يفز الا بحزنه وهو الخاسر حتى في فوزه).. تساؤل عن (الى اين ستأخذ الاحزاب الدينية البلد والشعب؟ الى حياة كريمة وبلد يعيده الاعمار والبناء الى واجهة الدول المتقدمة ام الى الاقتتال الطائفي وزرع الخوف في القلوب وترك البلد للخراب والقمامة؟). ثم كتبت قصيدتي الثانية (الخروج من الجنة) وفيها إصرار على احترام العقل فثمة حكايات مجنونة تسيرنا بقوة نحو كراهية الحياة وتعطيلها وتمجيد الموت والقبور والانتحار-اليوم ينطبق علينا بيت شعر قاله الجواهري قبل أربعين سنة : لا تقترح جنس مولود وصورته* وخلها حرة تأتي بما تلد أمام مشكلة عويصة مثل المشكلة العراقية نحتاج أيضاً الى وقت لنرى ما هي النتائج الأخيرة للتغيير؟" ومع ذلك فان الجيزاني يرى خيرا في جيل شعري معاصر: "قرأت وسمعت الكثير من الشعر هنا الشعراء الشباب بلغتهم السليمة البليغة المؤثرة سواء كانوا شعراء العمود او النثر شيء يثير الفخر والأمل. الشعراء الجيدون والشعر الجيد اكثر من الضعيف والعادي، ورغم التنابز بين هذه المجموعة وتلك، الا ان الشعراء الجادين رغم اختلافهم سيلتقون على محبة الشعر وعلى هدفهم النبيل في مواجهة الشر من أية جهة يأتي".
تكية الشعر العمودي اختفت كلما اجتمع شعراء النثر في أي محفل ثقافي عربي تخرج بعض الاصوات، هنا وهناك، لتندد بشعرية النثر، وتحاول جعل (العمود) و (قواعده الفاضلة) مرجعا وحيدا للشعر، وينكرون على موسيقى القصيدة صورتها بدعوى ان الموسيقى لا تعزف الا (بقانون). ما يلفت الانتباه في مثل هذه (الدعوات) ارتباطها بـ(محاصصة صحافية)؛ صحف لا تنشر النثر.. فترد الأخرى لتحظر "العمود". يستنتج الجيزاني من هذا الاختلاف ما قوله: "الجديد والقديم يتنازعان ويفوز الجديد ثم يصبح قديما وينبثق جديد ينازعه وهكذا لكن الأجناس الأدبية كلها تعمل والبقاء للأصلح اما الذين ينددون ويرفضون الجديد لم يصغوا جيدا لجريان الزمن كل شيء تغير اللغات تغيرت لم تعد اللغة العربية هي ذاتها اللغة العربية قبل 500 سنة المفردة وصوتها تغير كذلك المفردة ومعناها تغير قصيدة السياب والبياتي الموزونة لم تعد تلك القصيدة الموزونة المبهرة عندما تقارن مثلا بقصيدة يوسف الصائغ الموزونة أيضاً وقصيدة يوسف الصائغ الموزونة لم تعد مبهرة عندما تقارن بقصيدة سامي مهدي الموزونة وهكذا. وظيفة الشعر وهدفه تغير الشاعر ذاته تغير انتقل من شاعر فطري الى شاعر متعلم الى شاعر معرفي والقصيدة من قصيدة إيقاع الى قصيدة صامتة الإيقاع ومن قصيدة الغرض الواحد الضيق الى قصيدة مفتوحة واسعة وليست هناك تكية خاصة للشعر العمودي فهذه التكية اختفت والشعراء الشباب العموديون يؤمنون بقدر التحديث بدليل انهم خائفون من إعادة تكية العمودي والبقاء فيها اليوم هم أيضاً يكتبون قصيدة نثر الى جانب العمودي كأنهم قبلوا بالوقوف على حافة الأجناس المتنوعة ليكون تحولهم -سهلا- من نمط الى نمط، ليس هناك اختلاف فني، هناك أمزجة شخصية تثير غبارا وهذه الأمزجة موجودة في كل حقبة أدبية، وهذه الأمزجة تصنع دوائر مغلقة على نفسها، لكنها لن تستمر طويلا نحن بلد الإبداع الشعري وفي زمن التغيير، هذا وزمن الحرية الذي يتشكل على مهل، سيثّبت كل جيل صنيعه على هذه المدونة الخالدة التي اسمها الشعر العراقي". |