الى: علي الشوك.
ثمة أحداث كثيرة افرزت عوامل متباينة في أهميتها ومتنوعة في خلفياتها، ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، وأثرت بعمق على منتج الممارسة المعمارية في العراق. وإذ قدرّ لنا ان نصف الفترة السابقة المحصورة بين بداية العشرينات، حيث تأسست الدولة الحديثة، ولغاية الحرب الكونية الثانية؛ بانها الفترة التى اسست للحداثة المعمارية بالعراق. فان الفترة اللاحقة المحددة زمنيا بعقد واحد تقريباً: والممتدة من نهاية الاربعينات الى نهاية الخمسينات، هي "الحلقة" الثانية من حلقات "موجة" التحديث الاولى، لكنها بالطبع، تختلف عن سابقتها، ليس فقط في نوعية اساليب المنتج التصميمي وانما، وهذا هو الاهم، في المرجعيات الفكرية المؤسسة لاساليب تصميمة مغايرة. عندما مارست الحداثة دورها التنويري في تكريس ذائقة جمالية جديدة للمنتج المعماري ابان الفترة الاولى، كانت الممارسة المعمارية المحلية وقتذاك غارقة في سكونيتها وثباتها على اشكال معمارية محددة، مكتفية باجترار رتيب للتقاليد البنائية المتوارثة. تخللها بين الحين والآخر، تجريب جرئ انعكس في نماذج مميزة جسدتها عمارة المساجد الجامعة، ولاسيما في تغطياتها القببية. وشهدت الفترة اللاحقة نتائج ذلك "العصف" التجديدي، بظهور سلسلة من مبان عديدة مصممة وفق رؤى ذلك التجديد، لكنه تجديد مابرح ان ظل وفياً لذائقتة "الكلاسيكية"، اذا جاز لنا التعبير؛ ذلك لان تلك الذائقة تطلعت لان تتصادى مع إطروحة حركة "الفنون والحرف" Arts & Crafts المعروفة في انكلترة النصف الثاني من القرن التاسع عشر. من جانب آخر، وصلت حلقات موجة الحداثة اياها في عقدين من النشاط التصميمي المكثف، الى آخر مداها، وقد فقدت الكثير من حيويتها وطزاجتها، مهيئة المشهد المعماري لما بعد الحرب، لظهور موجة آخرى من التحديث، سوف تستثمر تداعيات الاحداث المستجدة، لتؤسس لنفسها مناخاً ابداعياً سيرهص بالجديد، ويهجس بالمختلف عن كل ماتم انتاجه سابقاً. واذ نحن نتحدث عن عراق ما بعد الحرب العالمية الثانية، فاننا نعي مدى انتشار وأهمية مفهوم التحديث في المشهد الثقافي، وتغلغله في اجناس ابداعية متنوعة، شملت بالاضافة الى العمارة، الشعر والادب والفن والموسيقى والصحافة والتعليم ، وكل ما يمت بصلة الى الشأن الثقافي. كانت مزايا التحديث، وخصوصا تحديث البيئة المبنية ظاهرة للعيان في العقد الذي سبق الفترة التى نتكلم عنها. اذ توسعت بغداد باعتبارها مختبراً معماريا تجريبيا وطليعيا لجميع مناطق العراق الاخرى، واضيف الكثير الى تحسين بيئتها وانشئت مناطق سكنية حديثة، وتم مد شوارع جديدة، رافقتها حملة واسعة من تصاميم وتنفيذ مبان بوظائف مستجدة. لقد نظر كثر بايجابية مشوبة بالارتياح الى التغييرات الكبرى التى طرأت على مدينتهم وبيئتهم، من هنا كان التجديد المسكون بالتغيير، امرا مألوفاً وحتى مفضلا في المشهد الثقافي يديمه تطلعات النخب التواقة للتجديد والمغايرة. كان المعماريون العراقيون العاملون وقتذاك، يعوا أهمية اللحظة التجديدية اياها، ويدركون استحقاقاتها الابداعية. لكن ثقافتهم المعمارية، وهم بالاجماع (على قلتهم) خريجو المدارس البريطانية، كانت تقف حائلاً في اجتراح لغة معمارية جديدة تتساوق خصوصيتها مع أهمية الحدث الراهن يومذاك. ذلك لان مرجعيات تلك الثقافة انتمت، كما هو معروف، الى مدرسة فكرية مبنية على قيم وافكار المقاربات الكلاسيكية، او بالاحرى الـ"نيو" كلاسيكية الشائعة، حينها، في الخطاب المعماري الانكليزي. صحيح ان تلك المدرسة الفكرية لم تقف موقف معادٍ بالمطلق "لهزات" الحداثة وتجديداتها التى شارك في ابداعها المعماريون الالمان والروس والفرنسيون؛ لكنها ظلت بشكل عام، بمنأى عنها وعن تأثيراتها القوية، وهو ما انعكس جلياً على منظومات مناهج التعليم المعماري، الذي في كنفه إستقى المعماريون العراقيون مبادئ تلك المناهج وقيمها التى بدت وكأنها ثابتة، غير قابلة للتغير او المساءلة. ثمة تعارض، أذاً، بدا واضحاً بين خصوصية الممارسة المعمارية المحلية ومتطلبات المرحلة التى تنزع الى تجسيد مادي لها. لم يكن حل تلك الاشكالية مرضياً، كما تبين ذلك لاحقاً، عن طريق "استيراد" نماذج لمخططات معمارية من دول الجوار او الاقليم. وكانت تجربة ممارسة المعمار المصري في تصميم "عمارة الدامرجي" (1946-48)، مؤثرة فقط لجهة طبيعة حلولها الانشائية، اكثر بكثير من نوعية لغتها المعمارية، الموسومة معالجاتها بتنطيق صريح للفراغات الوظيفية، وهي في الواقع صدى لمعالجات شائعة في العمارة المصرية ولاسيما في مباني القاهرة . (على الرغم من ان الحل الانشائي هو الذي يسرّ امكانية اجتراح علوّ لم تعرفه مباني بغداد المدنية سابقا، ما جعل من ارتفاع "عمارة الدامرجي" غير المسبوق لان يكون حاضرا بقوة في المخيال الشعبي لعقود عديدة من السنين، مع ان أرتفاع المبنى لا يتجاوز ستة طوابق فقط!). وكان يمكن أن يكون دور "فيليب هيرست" Philip Herst ، المعمار الطليعي الموظف في مصلحة السكك الحديدية وقتذاك في الاربعينات، اكثر وضوحا وتأثيراً في الممارسة التصميمية المحلية، وخصوصا وقد وجد في "عبد الله احسان كامل" (1919-1985)، المعمار الشاب المتفرد في خلفيته التعليمية المعمارية، والغاص بهوى الحداثة، مساعدا ونصيراً في مسعاه التجديدي. لكن طبيعة الاعمال المنوطة بهما ومقياسها المتواضع، حالت دون ان تؤثر تأثيرا عميقا في الممارسة المعمارية المحلية. لقد اغتنمت هذه الفرصة، فرصة ايجاد لغة معمارية مغايرة تنسجم مع استحقاقات فترة زمنية تتطلع للتعبير عنها معماريا، اغتنمـتها "الين جودت الايوبي" (1921) Ellen Jawdat Aubbi ، الآتية تواً من امريكا مع زوجها " نزار علي جودت الايوبي" (1920). وكان مبنى " مشغل الهلال الاحمر" في العلوية (1949) التجسيد المادي للاجواء السائدة في الخطاب الثقافي العراقي يومذاك. ومنه، من عمارة هذا المبنى حازت المعمارية، الامريكية المنشأ والعراقية بحكم الزواج، على شهرة واسعة، آهلها لان تكون رائدة الحداثة المعمارية في نسختها الاقليمية، وصاحبة تصاميم مميّزة، وحداثية ذات مرجعيات فكرية متضادة ومتقاطعة تماما مع المقاربات التصممية السابقة. وتسعى هذه الدراسة، الاشارة الى بعض تلك التصاميم الحداثية، وتتطلع عبرها الى قراءة جديدة في تقصي جذور الحداثة المعمارية بالعراق. درست "الين الايوبي" في "هارفارد" ونالت منها شهداة الماجستير بالعمارة، بعد ان تخرجت من "كلية فاسار" في نيويورك سنة 1942 حيث درست فيها تاريخ الفن. كما نال زوجها "نزار الايوبي" الماجستير ايضا من هارفارد (1946)، هو الذي درس العمارة في البدء بجامعة كامبردج بانكلترة، (1939-40) ثم الاقتصاد في الجامعة الامريكية ببيروت (1940-42). ( رفعة الجادرجي، الاخيضر والقصر البلوري، ص. 26-27). كانت مدرسة "هارفارد" وقتها حاضنة لمفاهيم عمارة الحداثة في الولايات المتحدة، حالها حال "معهد الينوي التكنولوجي" في شيكاغو؛ اذ ترأس ادارة المدرستين إثنان من أشهر معماري الحداثة ومؤسسيها وهما، "فالتر غروبيوس" (1883-1969) W. Gropuis ، للاولى و"لودفيك ميس فان دير روّ" (1986-1969) L. Mies van der Rohe للثانية. كان تأثير غروبيوس على طلابه كبيراً، زارعاً لديهم حب عمارة الحداثة في مقارباتها الوظيفية. وكانت وسائل التأثير والتعليم مختلفة، منها طبيعة المنهاج الدراسي الجديد الحافل مفرداته بمتوازيات مع منهاج "الباهوس" الشهير الذي اسسه ورأسه غروبيوس نفسه في العشرينات بالمانيا، والاطلاع على نماذج اعماله المعمارية المنفذة في الارض الاميركية، فضلا على الاحاطة المعرفية العميقة لنماذج عمارة الحداثة المبتدعة من قبل آخرين في القارة الاوربية ( وعن أهية النقطة الاخيرة تحديداً، وتأثيراتها على تشكل "الين الايوبي" المعماري، سوف نشير بصورة خاصة لها، لاحقا في هذه الدراسة ً). في إختصار، اذاً، جرت عملية "تغذية" مبادئ عمارة الحداثة وتعلمّها لطلاب هارفارد على مستويات مختلفة: نظريا وتطبيقياً، ما جعل من تقبل قضايا تلك العمارة وادراكها، امراً سهلا وعميقاً في آن. وضمن تأثيرات الرؤى المعمارية الجديدة اياها، استوعب الزوجان الخريجان: الين ونزار الايوبي الدرس الحداثي بنسخته الوظيفية، وبنيلهما شهادتهما العليا المعمارية، قفلا راجعين الى العراق. عُيـّن نزار في مصلحة السكك الحديدية، ثم انخرط لاحقا في عمل تجاري خاص؛ ومارست الين النشاط المعماري الحرّ. كانت الاجواء الثقافية البغدادية، كما اسلفنا، مترعة بتوق التغيير. وكان الخطاب التجديدي ينطوي، وقتها، على ثقة كبرى بالتقدم الانساني اياً كان مصدره، نتائجه التى تطلع كثر من المبدعين لان تكون جزءا عضويا من تشكيلات المناخ الفكري المحلي، من دون ان يقعوا في "وهم المماثلة" بلغة "ادونيس" مع تلك النتائج... بتعبير آخر، راهن كثر من المثقفيين على أمكانية النهل من اللحظة الثقافية الغربية في أشد لحظات توترها الابداعي الخلاق. وكان هذا الرهان غير متصل بهاجس الخوف المركب على الهوية او ما يسمي بالخصوصية كما هو رائج الان. ذلك لان مثل تلك الهواجس التى سوف تستشري مرضياً في المجتمعات العربية لاحقاً، والمنادية بالتخلي عن التحديث والاصلاح واقصاء فكر الحداثة، التى تختفي خلفها عادة قوى ومصالح واهداف تدفع باصرار لتبني افكار وقيم غارقة في ماضويتها وسلفيتها، لم يكن لها تأثير رائج او حتى قبول في الخطاب الثقافي وقتذاك، وهي لم تلقَ اذنا صاغية لا من المجتمع نفسه، ولا ،طبعا، من نخبه الثقافية على وجه الخصوص. عندما وافقت "الين الايوبي" على اجراء تصميم مبنى "مشغل الهلال الاحمر"، كانت تبتغي من تلك الموافقة انجازعمارة متميزة للمبنى المقترح، يمكن بها تحقيق رؤاها التصميمية وإظهار إنتمائها لافكار عمارة الحداثة. فالحدث التصميمي المنتظر، يراد منه تبيان سهولة "توطين" الحداثة المعمارية في لحظتها الابداعية المتجددة؛ الحدث المؤسس لخطاب معرفي وفكري جديدين. بيد ان عملية التأسيس ما كان لها أن تكون اصلاً، لولا وجود ركيزتين أساسيتين، يحددهما أحد الباحثين بـ "حرية التفكير والممارسة، والثانية حرية الوصول والايصال". وهو ما توافر للمعمارية في حينه. إذ إنطوت الفترة الزمنية وقتها بخلوها التام من اي نوع من انواع ثقافات "التابوات" التى طالما وقفت في وجه التجديد والحداثة؛ ما منح الفكر التائق للممارسة والتجريب افاقاًً واسعة لجهة حرية تبني مقاربات ابداعية وجد فيها كثر من المبدعيين ذات فائدة قصوى للثقافة وللمجتمع، رغم ان مصداقيتها قد أُخُتبرت في كنف ثقافات آخرى. فما هو ايجابي ونفعي هناك، لا يمكن، وفقاً لقناعتهم، الا ان يكون ايجابياً ونفعياً هنا. " فالحق لا يضاد الحـق" بحسب إطروحة "ابن رشد" (القرن الثاني عشر) المتقدمة كثيراً على زمانها. وفيما يخص الركيزة الثانية، فقد وظفت "الين" ببراعة طبيعة المبنى كمشغل لجمعية الهلال الاحمر، ومكان تواجد النخب النسائية وانهماك تلك النخب بالعمل التطوعي فيه، لايصال مفاهيمها الحداثية عبر عمارتها التى سيكون "إنموذجها" Paradigm حدثا راسخا، مقروءا ومنظوراً من الجميع، ويفترض ان يكون قريبا منهم: مثقفين او ناس عاديين.
يقع مبنى مشغل الهلال الاحمر في احدى الضواحي الجديدة للعاصمة العراقية، ذات التخطيط الحديث، المتسمة عمارتها على لغة تصميمية حداثية، مقارنةً بفترتها، فترة الثلاثينات، التى بها شرع في تخطيط تلك الضاحية . والمبنى بموقعه هذا يتاخم حدائق "بارك السعدون" – الحدث التخطيطي الابرز في مكونات تخطيط بغداد وقتذاك. ومنه، من ذلك الحدث، يستقي المبنى مشروعية لغته التصميمية الحداثية، مثلما ينشد الى ان تكون عمارته المميزة اضافة ملموسة في اثراء المناخ التجديدي الوليد، الذي بدء يعبق باريجه خطاب التطلعات المشروعة نحو التغيير والمغايرة. يتعين التذكير ، ابتداءاً، بان المبنى "ابتلى" بالعديد من التغييرات الوظيفية المتنوعة، ما افضى الى تبدلات جذرية في هيئته الاصلية وتشويه متعمد لحق باشكال عناصره التصميمية. كما ان كتلة المبنى، طرأت عليها تغييرات مستمرة، طيلة نيف ونصف قرن منذ تاريخ اكتمال تنفيذه في نهاية الاربعينات، جراء الاضافات غير المدروسة التى تمثلت خصوصا في تشييد اقسام جديدة الحقت بالمبنى سعيا لتلبية متطلبات وظيفية طارئة اجبر المبنى على القيام بها. لكني ساعتمد في قراءتي لعمارة المبنى على صيغة هيئته الاصلية، وطبيعة وظيفته الاولى، والتى إستبقتها صور قديمة تعود الى تلك الفترة، احتفظ بها في ارشيفي الخاص، وعلى متابعتي الشخصية للمبنى، خصوصا في عقدي السبعينات والثمانينات، حيث اوليت مع طلابي، اهتماما مهنيا واكاديميا به وبعمارته. بالاضافة الى مراجعة كتابات متفرقة، تناولته في اوقات مختلفة؛ سيما ما نشرته "الين الايوبي" في مقال شامل لها، عن العمارة الحديثة بالعراق في العدد الخاص من مجلة "التصميم المعماري" Architectural Design البريطانية ، العدد أذار/ مارت 1957، والمكرس لعمارة الشرق الاوسط. وفي المقال اياه المنشور في المجلة المذكورة، اشارة واضحة من الكاتبة بان مصممي المشغل هما: "الين ونزار علي جودت" ؛ وسوف نعتمد هذه المعلومة الموثقة لاحقا في الحديث عن عمارة المبنى.□□
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون |