أخبروه أن أمه تموت في بغداد. غادر لندن على أول طائرة إلى العاصمة الأردنية عمان وهو يناديها متوسلاً أن تبقى على قيد الحياة ليبث شوقه الذي خبأه في قلبه طوال العمر. عندما دخلت السيارة التي أقلته من عمان الحدود العراقية شمَّ رائحتها واطمأن إلى أنها ما تزال حية بانتظاره. وعلى طول الطريق البري إلى بغداد اتبّع الرائحة متلهفاً، كما كان يفعل وهو طفل يركض خلفها في السوق الكبير. وما أن دخل المنزل حتى انهار عند سريرها، وانفجر بنحيب عشرين سنة من الغربة. أفاقت من غيبوبتها، وأومأت بإصبعها نحوه وسألت: "هذا منين"؟ تعالى ضحك بناتها كأنها أطلقت نكتة: "شلون هذا منين؟ هذا ابنك"!
أشاحت بوجهها نحو النافذة، تتطلع إلى السماء، وقالت: "ما عندي قوة ألطم على صدري". وارتعد جسمه كله بالنشيج. حنّ قلبها. التفتت إليه ومدّت كفها تربت على خده، كما كانت تهدهده في الطفولة: "هاذي دموعك اللولو"، وراحت تتذكر معه الذكريات... قال له الأطباء إنها تعاني من خرف الشيخوخة الذي تسببه جلطات متكررة تحدث خثرات في أوردة الدماغ. المصاب بهذا الخرف لا يفقد إدراكه كاملاً، كما في مرض "الزهايمر" بل يصارع العدم بذهنه، وهذا هو الذي يحطّم القلب. فهي تتذكر بدقة مدهشة أحداث ومشاهد من الماضي البعيد، لكنها تنسى الفطور الذي تناولته في الصباح.
ذاكرتها تسرح في زمن الطفولة، تردد تراتيل دينية وأغنيات عاطفية من مطلع القرن العشرين، وتصمت طويلاً ثم تنطلق في زعيق وهذيان ساعات عدّة. وفجأة تستعيد ذهنها الحاد كالسكين لتفسر لابنها الذي يحمل جواز سفر بريطانيا محنته الأخلاقية: "بالخير الذي يغمركم الغرب هناك يغطي الشر الذي يعمله فينا هنا".
مُعلمةُ ذريتها حتى اللحظة الأخيرة. الأم التي منحت نسلها إجازة الحياة وعلمتهم أهم المهارات؛ من معرفة الحلال والحرام إلى التعامل مع الحب والألم، تعطيهم الآن الدرس الأخير: كيف يتعاملون مع الموت. وها هي تؤدي الموت بالمهارة التي أدّت بها كل شيء في حياتها، من طبخ الطعام وخياطة الملابس حتى حكاية القصص.
وكعادتها منهمكة في أدائها الأخير، كأن الموت مهارة أخرى، وهي معتزة بأدائها. تتحشرج أنفاسها كالشاة عند الذبح، وتصرخ إحدى بناتها هالعة: "أمي... قولي لا إله إلاّ الله... لا إله إلاّ الله". تتوقف الحشرجة. تفتح عينيها، وتُعنِّف ابنتها: "دائماً تبلعين نصف الكلام عندما تخافين". ويخشن صوتها بنبرة تأنيب حازمة وهي تُصحح لابنتها: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". وكما يحدث مع البنات كل مرة يُصدِّقن أمهن حتى عندما تكذب. ينفجرن بالضحك، وهن يعرفن أنها تكذب في عذابها. هاته النسوة العراقيات أيُّ مخلوقات عبقرية في التحايل على العذاب!
يرفلن حولها بالفرح الذي يقول عنه عالم الجينات البريطاني ريتشارد داوكنز: "يُعبِّرُ عن اعتزاز كل إنسان بأجداده وقبيلته... فمن بين ملايين الناس الذين ولدوا في كل زمان لا يبقى على قيد الحياة وينجب سوى القليل جداً... ليس هناك جد واحد توفي من دون أن يخلّف أحفاداً. هؤلاء الذين يقول عنهم كل إنسان أجدادي. جدّات وأجداد كل إنسان انحدروا من سلسلة بشرية تمتد إلى بداية الخليقة".
كيف شدّت هذه المخلوقة الرقيقة السلسلة في منطقة تناهشتها الكواسر المفترسة عبر أهوال القرن العشرين؟ كيف لم تمت خلال الحرب العالمية الأولى، وهي طفلة تركض مع نساء العشيرة من بلد إلى بلد بحثاً عن الأولاد الذين أسرهم الإنكليز؟ وكيف تدّبرت الحياة وتزوجت وأنجبت وأصبحت جدة في بلد قتل الحصار الدولي مليونا من أطفاله في التسعينيات؟
وها هي في لحظات الوداع ترمقها ثلاثة أجيال من الأبناء والأحفاد منتشرين حول العالم. أربعة وأربعين صبية وصبياً يحمل بعضهم جوازات سفر كندية وإيطالية وألمانية وسويدية وإيرلندية، وحتى أميركية وبريطانية. لكن لا الجوازت الغريبة ولا الرطانة الأجنبية تخفي عنها ما في قلب كل واحد منهم، وهذا يجعلهم يبكون كما كانوا يبكون صغاراً عندما تهدُّدهم بـ"قرصة أذن".
وقت للحياة ووقت للموت. ولا شيء أثمن من اللحظة التي هي فيها. تعابث حفيداتها، إذ يحمّمن جسمها الذي اختصره العمر إلى أربعين كيلوغراماً: "صرت لعبة بيد الأطفال". تأخذها الغفوة وهي تهدج بآية الكرسي، وما إن تصحو حتى تلتفت إلى أصغر أحفادها تتغزل بجماله: "يشبه جده حبيبي".
ليس هناك قلوب كثيرة بهذه الفتوة في أجسام بهذا البلى. من يستطيع أن يمازح في الجانب الآخر للحياة؟.. من يكون في لحظة الوداع حكيماً ونزقاً، متوهجاً ومنطفئاً، متشبثاً بالحياة ومتوسلاً بالموت، رائحاً وغادياً بينهما"؟
هكذا غادرتنا الوالدة نهاية عام 1999. وكانت تلك تحية الوداع التي أغفلت ذكر اسم المرسل والمرسل إليه. هل فعلتُ ذلك لأن العراقيين يتجنبون ذكر أسماء نسائهم الحبيبات، حتى لو كنّ الأمهات؟ ربما، فالتحية لم توجه لها، بل تضمنها عرض كتاب "الطبيعة الأم" Mother Nature لعالمة الأنثربولوجي الأميركية ساره هاردي. يرصد الكتاب الموسوعي في 700 صفحة أمهات البشر وسائر المخلوقات. مليارات الأمهات في الغابات وفي الجبال، فوق الأشجار وفي أعماق البحار عاقدات العزم على بقاء ذريتهن مهما كان الثمن. هذا هو الشغل الشاغل لأمهات البشر والطيور والزواحف والأسماك.
والأمهات لسن مجرد مبايض وأرحام، بل خيارات صعبة، وقرارات وجهود خطيرة يتوقف عليها بقاء "الجينات" التي يحملنها. و"الجينات" الموجودة داخل نواة خلايا جميع المخلوقات هي الشيفرة الكيماوية التي تحدد نوع الكائن وصفاته، سواء أكان عشبة، حشرة، تمساحاً أم إنساناً.
وتحمل ملايين الملايين من الخلايا التي يتكون منها جسم كل أنثى بشرية سجلات كفاح أجدادنا المستميت للبقاء، وتأمين بقاء نسلهم. هذه السجلات دليل عمل الأنوثة "الخالدة" التي لا تعني فقط الحنان الرؤوم والحب الطاغي والتضحية بالنفس، بل أيضاً ميل الأنثى للسيطرة، وقسوتها، وانتهازيتها. فأمهات البشر يتميّزن بانهماكهن الغريزي بوضع الخطط الاستراتيجية، واتخاذ القرارات، وعقد الصفقات والمساومات والتحالفات لضمان الفوز بالحياة لصغارهن.
والأمومة روح البشرية. يشرح ذلك الكتاب الجديد للعالمة الأميركية "الأمهات والآخرون" Mothers and Others. يستقصي الكتاب حسب عنوانه الثانوي، "أصل تطور التفاهم المشترك" بين البشر، وكيف فرضت فترة الحمل الطويلة، والرضاعة، وتنشئة المولود التعاون والتكافل داخل الأسرة والمجتمع. هذه "التنشئة التعاونية" ضمنت بقاء البشر وتطورهم، وانتشارهم حول الكرة الأرضية، في حين هلكت مخلوقات عدة في بيئاتها البدائية المنعزلة.
سلام العيد على الوالدة في دار السلام... |