بموت الشاعر صباح العزاوي يمكننا إغلاق عالم من الحكمة والجنون والشعر، كان قد فتح بعذابات ووقائع وتواريخ ألهمتنا التأمل، وأعطتنا تأكيدات على قوة الابتكار الانساني وهو يتحطم على انكسارات ابطالنا الشعريين المستلهمين لتمرد جمالي كسلوك شعري وحياتي، وامتزاجهم بمخيلة غامضة، تسعى نحو تدوين حكاية شعراء لم يسجلها تاريخ،
حكاية اختيار للحظة الحياة، واختيار لفتنة عيشها على نحو صادم ممتلئ بمواجهة تسمح بقول الحقيقة من دون تدخل ، كمن يتحدث عن الدم بوصفه لونا للزهور الحمر. سير مفقودة كلّما مررت بالوزيرية أو باب المعظم وصولا إلى ساحة الميدان استوقفتني صور قديمة لصعاليك شعراء، طالما تركوا مسحة من الجمال واللامعقولية على إيقاع شارع شهد الكثير من حوادث الجوع والموت والخوف والحنين. خلفوا أثرهم بوصفهم كائنات متمردة على السياق الاجتماعي وذاكرته الثقافية، فسيرة حسين مردان والحصيري وجان دمو ونصيف الناصري صورة حقيقية ومؤثرة ومنتجة عن جنوح شخصيات أدبية تركت نتاجها كتابة وسلوكا على وقائع الحياة الأدبية في العراق،شخصيات يصعب درجها ضمن إطار المستقرات والمتعارف عليه، أو لنقل يصعب إخضاعها لسيرة اجتماعية وثقافية، فهي دائماً تبحث عن صياغة وجود آخر، بشروط أخرى، وقد بدا هذا واضحا من المواقف التالية لنصيف الناصري وهو يؤرخ ويصوغ حقيقة هذا الموقف من الحياة والكتابة والصعلكة. وبموت أو مغادرة تلك الأجيال البلاد تركت امتداداتها تتوالد على الرغم من اختلاف الظروف السياسية والاجتماعية،فقد اقفلوا على حكاية نادرة من حكايات الصعلكة. فبعد أن اختفى هادي السيد عن زوايا الكرنتينة والميدان وباب المعظم.. تحول الشارع الذي يربط جسر باب المعظم بكلية الفنون الجميلة إلى بقية من أحجار وروائح وأشجار يابسة.فطالما حفر هادي السيد هذا الطريق بخطوات مترنحة صارخا في وجه الأشجار والمارة والأدباء. هذا المكان المزدان بشطحات شعراء تركوا حكمتهم وبكاءهم وسورياليتهم على مناطق انتظار الباص ومداخل المقاهي،وأبواب المطاعم ،ووجوه الجنود وكتب الطلبة ، وفي الفضاء المواجه لزجاج مقهى حسن عجمي ، ومدخل شارع جريدة الجمهورية، الأرض التي تحرك عليها هؤلاء الصعاليك، دخلت وعي وتاريخ أجيال من القراء ومحبي الأدب والكتاب والطلبة والجنود، صعاليك تناوبوا على سدانة شارع يمتد من جسر مشاة باب المعظم وحتى مدخل كلية الفنون الجميلة، ولم يزيدوا على تلك المساحة كي يدخلوا كافتيريات أنشئت فيما بعد، فهم يتحسسون من الألوان البراقة والموسيقى الهادئة،والملابس الأنيقة تستفزهم تلك الأكواب الفاخرة، أو فناجين تدار على رواد قاعات الرسم في الوزيرية.تربكهم تلك الأجواء والفضاءات التي تذكر بعالم آخر غير عالم شارع الرشيد وحسن عجمي والميدان. موت .. وكلمات أخيرة لن آتي على مدح أو رثاء من رحل من هؤلاء.. لكنني سأستعين بمناسبة رحيل شاعر ، تاه بين حجيم الديكتاتورية ، وبين فوضى ما بعد سقوطها ، فموت الشاعر صباح العزاوي أعادني بقوة إلى ماض سيختفي بالتأكيد من أطراف الحياة الثقافية كما كان يحيط بها، حطم حواجز وثوابت هؤلاء الصعاليك الذين أسسوا لعالم من الجنون والكتابة والحب والحياة. واحد من هؤلاء بدا عصيا على موجة التغييب والإخفاء التي تفرضها وقائع حياتنا الآن. فمثلما كان عبد اللطيف الراشد يرى فيَّ وفي علي بدر صديقين وفيين ليسلمنا ديوانه ذات يوم ليقدمه علي بدر وأراجعه أنا وأطبعه فيما بعد. اعتاد (صباح العزاوي) أن يسلمني كل مدة مجموعة من القصائد لأنشرها له هنا أو هناك. أتذكر اليوم وانا اقرأ نبأ موته من على شاشة العراقية كخبر عابر ، غير آبه بالزلزال الذي يضرب حياتنا ومصائرنا ، اتذكر انه ثمة ملف في مكتبتي فيها مختارات شعرية لم تنشر لصباح العزاوي ، اعود لمكتبتي على عجل واعثر على ما ترك ، وابدأ بالقراءة ، الآن سيفقد المكان بغياب هذا الشاعر طرفا من وجوده، إن لم اقل طريقا من طرائق الحياة فيه. أتذكر الشارع الذي يربط الباب المعظم بكلية الفنون الجميلة نحو قاعة حوار، مارّا بمقهى الجماهير، وأتذكر الزقاق المؤدي إلى المقهى فتتقافز وجوه هادي السيد، وعبد اللطيف الراشد وصباح العزاوي وغيرهم بوصفهم من كبار مؤسسي التيه والشجاعة والتمرد والضياع والحقيقة، لمرحلة ما بعد التسعينيات، لم أتأكد فيما لو كان صباح العزاوي حياً أم اختفى هو الآخر،لكنني تذكرت بوضوح دموع هادي السيد وهو يستقبلني من بعيد، تذكرت ابتسامة عبد اللطيف الراشد، وهو يوبخ الأصدقاء.. لم أجد في ذاكرتي صورة تلخص لي صباح العزاوي... فضحكته تنافسها مشيته، ودفتره ينافس جملا بلا معنى تتطاير فوق أشجار المطابع العسكرية،وعلى ارصفة بناية صحيفة الجمهورية، وفوق نوافذ دار الحرية للطباعة، لكنني كنت مشدودا لعصيانه على التوثيق في ذاكرتي... يحضر بتفاصيلة فوق مسودات القصائد وحنين جارف يشدني نحو مقهى الجماهير، ووجوه قافلة من التائهين تنعكس هنا وهناك، ترثي مكانا حمانا من جوع الحصار، وأمن لنا موطنا ضد سنوات الحاجة والقمع واليأس. مؤرخ الصعلكة صورة صباح العزاوي تنقصها الكثير من الملامح، يتوجب الوقوف عندها ،ليخرج علينا من أرصفة الوزيرية كمومياء داكنة، هيكل عظمي غطته ملابس زرقاء. كل مرة كان يظهر لي وينظر في وجهي ويصرخ : أين قصائدي؟ أدين بالفضل لمعرفتي بعالم هؤلاء للشاعر خالد مطلك.. خالد الذي أعده أبا روحيا لاكتشاف المتوحدين، والمواهب المدفونة.. خالد الذي لا يشبهه أحد في التقاط الأذكياء من الصعاليك، نظرته وهو يرصد كلماتهم أو يختبر معارفهم.. تشير إلى شاعر جاء في زمن خاطئ، اندهش كيف لم يكتب إلى الآن تاريخا عن هؤلاء؟ فمنذ أن أسس نصيف الناصري الجزء اللاحق من تاريخ الصعلكة لمرحلة ما بعد الستينيات والسبعينيات متأثرا بجان دمو ومن سبقه، اندفع خالد مطلك بدفع هؤلاء إلى واجهة اليوميات الأدبية في العراق، فهو الأب الروحي لو جاز لي القول لصعاليك زمن الحروب دون أن يعني ذلك منافسة الشاعر نصيف الناصري، وأظن أن ضياع تراث الجيل اللاحق لهؤلاء بتفاصيلهم وكتاباتهم بسبب هجرة خالد مطلك من العراق، فهو مكتشفهم، ومن وضعهم على طريق الصعلكة، ومن نظّر لأفكار التيه والضياع في مواجهة الاندثار والقمع والظلم، ولو قدر لشاعر مثل خالد مطلك أن يدون شيئا عن التاريخ الاجتماعي للحركة الشعرية منذ الثمانينيات لخصّهم بفصول ووقائع شاهدها الوحيد وصانعها هو لا غيره. رمزية الصعلوك شعريا لست هنا بصدد وضع مخطط عن حركة ودور وتأثير هذه الجماعة التي اقفلت تاريخا بموت صباح العزواي ، لكنني اتخذ من موت آخرهم ( العزاوي) مناسبة للنظر في فكرة الإخفاء والضياع، بسبب اختفاء مجال الصعلكة ذاته، بفعل يوميات العنف والموت والحيرة والمجهول في راهن حياتنا الان ، فكيف يمكن لمجموعة من الحالمين أن يتصدوا لآلة التفخيخ والاغتيال والانفجارات، هؤلاء الذين ليس لهم من الحياة سوى قصائد وحقائب وشطحات، وحكمة عاجزة إزاء انقراض حياة بأكملها، اطمح هنا وعبر حادثة موت (صباح العزاوي) حيا أن انشر مجموعة من قصائد هذا الشاعر لأذكر بجانب حي وجميل وغني من وقائع حياتنا الأدبية، لعلني بهذا التذكير أحرض مخيلة وذاكرة أصدقاء آخرين ليدونوا سيرا ربما ستضيع لو لم نوثق تفاصيلها. والموضوع ببساطة ليس إلا مواجهة للصعاليك جديدة مع قوة جديدة هي الفوضى والإرهاب والحياة المبتورة التي تحاول امتصاص نسغ حياة صعاليك بغداد، فوجدتني أفكر بسؤال ما الذي يمكن أن نفعله باختفاء جمعية الشعراء الصعاليك هذه في مواجهة ما يعانيه الانسان الان في العراق؟ عندما يحزن الشاعر تحدث الشاعر صباح العزاوي عام 2004 عن العقل الأمريكي وجمال ما انتجه،لكنه كان حائرا بالحياة التي خربها الاميركان انفسهم ، كان يصرخ بين جملة وأخرى لا افهم لم قتلوا شاعرا هنا، أو دهسوا حديقة هناك بسياراتهم . تأكدت من أن صباح لم يزل يعترض، كما كان يفعل وهو يقف وسط سوق الكتب ببغداد ويلعن جلاوزة الدكتاتور. لم أفكر بشيء...وانا اتصفح القصائد التي اودعها صباح لدي.. اقلب الان الاوراق التي سودها واتذكر كيف مددت يدي لأسلم عليه فمد يده بتردد وما أن سمعت حشرجة صوته حتى تبين لي انه في طريقه إلى الموت.. سحب يده قائلا... أنا مصاب بمرض معد... لكن أين قصائدي؟ قلت له: نشرت لك اكثر من مرة بعضاً مما لدي ، وهناك الكثير لنتركه لما بعد موتك ، هل لديك قصائد أخرى؟ فأخرج دفترا ممزقا قال: خذ هذه بعض قصائدي، تصفحت تلك الأوراق الممزقة ورحت اقرأ فيها، فقام هو تاركاً المكان وهو يشير بأصبعه إلى ديوانه الممزق الذي لم يكن سوى قصائد بدا لي أنها كتبت وسط ظلام، أو تحت وطأة خوف، كان الخط عسيرا عند القراءة، فوجدت أن انشر منها بعض المقاطع.
(ينشر الموقع قصيدتان لصباح العزاوي في خانة نصوص شعرية) |