|
|
( صانع ) بلند وحسين مردان : صفاء الحيدري لا عذاب يشبه عذابه |
|
|
|
|
تاريخ النشر
27/10/2009 06:00 AM
|
|
|
بابلون بابلون مجري عميقْ من كرم خمار عتيق عصر الرحيق ببرعمَي صدر أنيق سكران ، غافٍ ، مستفيق ما كل ما لفظت شفاه شيء وعاه إلاّ هواه إلاّ هواه ومشتهاه خذ بابلونك ، بابلونك ، يا إله .. هذه ( اللوحة ) من ملحمة ، أو مطولة شعرية اسمها ( بابلون ) لشاعر عراقي لم يبتسم له الحظ ، ولم يذع صيته ، ولم يشتهر أسوة بشعراء جيله من الرواد ، ولم ينصفه النقاد ، ونادرا ما يتذكره الشعراء والأدباء ، على الرغم من أنه كثيرا ما كان يفتخر بأنه ( صنع ) شاعرين كبيرين ، الأول بلند الحيدري ، وهو أخوه الشقيق ، والثاني حسين مردان ، ثم يتكلف قليلا ، فيزيد أن بدر شاكر السياب سرق منه قصيدة ( زقاق ) وقلده في صورها وأجوائها ، وكتب من بعدها ( المومس العمياء ) !. ولما كانت الدنيا مثل دواليب هواء العيد .. صعود ، ونزول ، ودوران .. فان صفاء الحيدري هو هذا الشاعر ، صديقنا المبدع الراحل ، الذي كان من دفء الشخصية ، وحميميتها ، فلا يملك من يختلط به إلا أن يحبه .. كان أرق من نسمة صبح باردة في فجر صيف قائظ .. وفي الوقت نفسه ، كان كثير الهواجس ، كثير القلق ، يتملكه أحياناً خوف همجي يفقد معه القدرة على الكلام ، ونحن نراه يرتعش من قمّة رأسه إلى أخمص قدميه ، وهو في هذه الحالة لا يتورع عن النطق بأكثر الألفاظ استفزازاً حدّ الشتيمة .. وكنا نكتم أنفاسنا حدَّ أن كاد يسمع واحدنا وجيب قلبه !. كان صفاء نموذجاً غريباً من الأدباء لم أصادف مثله في حياتي ، بل لعلّه أغرب نموذج التقيت به في الحياة ، ما دعاني يوماً أن أنشر مقالاً عنه عنوانه : ( ينام الشعراء وتصحو البلابل ) ، وعندما تعرّفت عليه في بدايات سنة 1987 وتآلفنا مع بعضنا ، كان عمره تجاوز العقد السادس بسنوات ست ، وكان حريصاً على أن يبدو متصابياً ، وشاباً قوياً ، لكنه كان يخفي في داخله إحساسا بالألم ، مع الإحساس بالغربة ، وكذلك الإحساس بالخيبة !. وصفاء يحب أن يعرّفك دائما بنفسه ، فيقول لك : أنه( صانع ) حسين مردان ، وأكثر من ذلك ، كان يقرضه المال وهو يعلم أنه لن يعيد إليه شيئا مما يستدين ، وأنه ( معلم ) أخيه بلند ، الذي يكبره صفاء بخمس سنوات ، ويزيد تعريفا بنفسه : أنه أول شاعر ملاحم في العراق ، ومن روّاد الشعر الحديث ، وأنه بدأ نشر قصائده في مطلع الأربعينات ، وله ثمانية مؤلفات شعرية منشورة هي : ( أوكار الليل ) ، و ( عبث ) ، و ( بابلون ) ، و ( قصائد وطنية ) ، و ( قنوط ) ، و ( قافلة الحريم ) و ( الحب الكبير ) ، و ( وقصائد للوطن ) ، وأعمال نثرية هي : ( الأربعون ) قصة في يوميات ، و ( شذوذ ) قصة طويلة ، و ( يوميات مراهق ) ، وفي سنوات الأربعينات وما بعدها أصدر مجلة ( الأقباس ) ، وصحف ( كل شيئ ) و ( الأصداء ) ، و ( صدى العراق ) ، ثمّ يضيف لك معلومة أخيرة : انه مولود سنة 1921 في تركيا من أم عراقية وأب عراقي كان ضابطاً في الجيش العراقي ، اسمه أكرم الحيدري . وبينما كانت الأصداف تلمع تحت أضواء الشهرة ، كان صفاء ينام مدفوناً تحت تراب بيته في البتاوين ، وكانت صومعته هادئة هدوء المقابر ، ويا للأيام السود التي عاشها في عزلته وحيداً مع كلبه ( بلاكي ) ، وصفاء لا يحبّ السير مع الكلاب في طريق ، ولكن ذلك الكلب ، في رأي صفاء ، أثبت أنه أكثر وفاءً من أبناء ادم ، فكان يصطحبه معه كلّ يوم عندما يخرج للمشي مدة ساعتين من البتاوين إلى ساحة الأندلس ، ومن كهرمانة إلى أبي نواس ، ثمّ يعودان إلى البيت ، وكان يغسل له بالشامبو ، وصفاء و ( بلاكي ) ينامان على سرير واحد ، وكنت أعجب وأنا أراقب المشهد ، كيف لهذا الكلب أن يفهم مشاعر صفاء ، ويبادله أحزانه ، ويسمع كلامه ، ويقوم على خدمة ضيوفه ، فلمّا مات صفاء لم يحتمل ( بلاكي ) الصدمة والفراق ، فمات بعده بيوم واحد !. وصفاء لم يتزوج ، وكان يقول لي : إن الزواج يقتل الحب ، وأن الحب يقتله المال ، ويعتقد أن نظرات الناس ليس فيها ودّ ، ولا حب ، وأنها نظرات متزلفة ، منافقة .. والغريب أنه لم يقع في غرام امرأة في حياته كلها ، برغم إكثاره من كتابة قصائد الجنس ، وبرغم إفراطه من الحديث عن حياة الليل في شبابه بين المراقص ، والجواري الجميلات ، والحانات ، ومخادنة العذارى ، ونساء الطريق .. ولقد قرأت في الأساطير، أن الجنّ أرضعوا طفلاً حتى كبر ، فصار يجمع بين صفات الجن والإنسان !. وفي الحقيقة ، فإني كنت شديد التعاطف مع صفاء الحيدري كإنسان يشعر بغضب عميق على الظروف ، ويجترّ مشاعرها بالمرارة والإحباط ، حتى بدأ يهرب لا من الظروف القاسية فقط ، إنما بدأ يهرب من نفسه أيضاً ، ثمّ يجلس طول الليل ساهراً ، لا يغمض له جفن ، وهو يردّد أغنية : ( يا ليل نجومك شهود على لوعتي.. يا ليل ) ، ثم يقرأ مقطعا من قصيدته ( امرأة بلا شكل ) ، متسائلا مع نفسه ، ومتمردا على ذاته : والآن ماذا أكونْ غداً من الذكرى ؟ ماذا تكون السنونْ منّا هي الأخرى ؟ مرت بنا أيـام لم تسعِ الشكوى كانت بها الأحلام تمتـص ما نهوى كـــنا بلا مأوى ... كان صفاء يجد سلوانه في كأس واحد من الخمر ، وفي البداية كان ميسور الحال ، كثير النفقات ، ثمّ أصبح يعاني من البطالة ، ومن الشحّة ، وخواء الجيوب ، وعلى الرغم من ذلك كان متلافاً إلى حدّ السفه ، باذخ الكرم ، حتى في أشد حالاته عسرا .. وكانت جماعة من الأدباء والصحفيين قد هجرت اتحاد الأدباء ، وأصبحت تستعين بصفاء كلّما دعت الحاجة إلى السهر ، والسمر ، والخمر ، فترتفع في الجو النشوة ، ويتمايل الحضور يمنة ويسرة ، ويعمّ السرور ، ويندفع الجميع في جو كلّه طرب وحبور ، ومن جانبه وجد صفاء في صحبتهم لوناً من الحياة لم يألفه ، وان كان يتمنّاه ، وكان يحكي دائماً في الصباح لكلّ من يلقاه عن أدق تفاصيل السهرة ، ثمّ عندما مات تفرّقوا من بعده ، وأصبح البيت ركناً مهملاً ، تكوّم أطلالا عفا عليه الزمن وجار!. وكان صفاء إذا ضحك يضحك من حنجرته ، ومن بطنه ، وإذا جاش في البكاء فإنه يبدو وكأنه يرغب في أن يغيب عن الوعي إلى ما شاء الله ، ولما كان يائساً من شعره ، وساخطاً على شعراء زمانه ، وقد ضاق صدره بالكلّ ، فإنه كان يحطّ من قدر بعضهم ، ويسمّي النقاد بـ ( النقاقيد ) ، مقتنعاً أنه المغنّي الوحيد وجميع الأصوات نشاز، وشعراء لا يعدّهم الحيدري إلا مع الزعانف والذيول ، وأن فلاناً الفلاني أدبه حقير وفقير ، لما اتصف به شعره من السخف ، وفي السخف مجون ، وكان يقول : هؤلاء الأدباء رأوا رأس الطير الطائر فخافوا على رؤوسهم أن تطير ، ويتساءل : إلى متى يظل الوحوش في الصدارة ، والموهوبون يتخبطون في الظلام ؟!.. وكان يرى نفسه دائماً على حق ، بينما الآخرون كلهم على خطأ ، وأنه أعظم من أنجب العراق من الأدباء ، ومن أمهر الذين صنعوا الأجيال الشعرية اللاحقة ، ويفخر على الدوام أنه كتب أعوام الستينات النشيد الوطني ، الذي تقول كلماته : ( وطن واحد أم كبرى … شعب واحد يأبى الشرّا ) ، وكان هذا النشيد من تلحين روحي الخماش ، وقد ذاع صيته في تلك الأيام !. وكان صفاء مثقلاً بمواريث الماضي ، ولم يكن الحظ حليفه ، وكان على اشدّ الخلاف مع أخيه الشاعر بلند الحيدري ، الذي كان عقدته في الحياة ، ويصفه بأنه ( بلا حميمية ) ، وعندما يعرض إلى ذكره ، ينزف كل ما في شرايينه وأوردته من الدم ، ويقطر ما في روحه من الضياء ، ويعتصر الحديث قلبه ، كما تعتصر ليمونة في كأس ، وتتحدر دموع سخية صامتة على خده . ولا يغفل صفاء لحظة ليتحدث لك عن أيامه في الصبا والشباب ، ويحلو الحديث ، فيفخر أن جدّه من أمه كان شيخ إسلام في الدولة العثمانية ، وأن عمه ( داود الحيدري ) كان وزيراً للعدلية في العهد الملكي ، وان خاله ( نصرت ) كان وزيراً للخارجية هو الآخر ، ولكي تسمع قصة الحيدري فانك تحتاج إلى مقدرة الصبر ، وقوة الأعصاب ، فهي قصة غريبة ، وعجيبة ، ومحزنة أيضاً ، وهو يحكي لك عن ما ورثه من أمه وأبيه ، من أملاك ، وبساتين ، وأطيان ، وعرصات في ديالى ، وفي الأيام الأخيرة من حياته ، كان من عادته أن يخرج كلّ صباح يتفقد هذه الثروة كونه المتولّي على وقفها ، ثمّ اتضح بعد وفاته أن جزءا كبيرا منها لم يكن مسجلا باسمه ، فأضاع الخيط والعصفور ، وأضاع العصفور الذي في اليد ، والعشرة التي على الشجرة !. وإذا كانت عين الرضا عن كلّ عيب كليلة .. وحبك للشيء يعمي ، ويصمّ عن العيوب .. فلقد أحببت صفاء الحيدري ، وربما من اجل الشوك الذي في الورد ، فإننا نحب الورد !. rabah_aljafar@yahoo.com |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ رباح آل جعفر
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|