|
|
الدولة ـ الغنيمة |
|
|
|
|
تاريخ النشر
26/10/2009 06:00 AM
|
|
|
توجد في العراق اليوم 33 وزارة وحوالي عشر هيئات غير مرتبطة بوزارة لكل منها طاقم ضخم من المسؤولين والمدراء والموظفين والحمايات بالإضافة إلى موارد وتخصيصات مالية كبيرة تذهب معظمها كمرتبات أو «مصاريف تشغيلية» بحسب اللغة الإدارية العراقية، هذا العدد الهائل من الوزارات قياسا لبلد مثل الولايات المتحدة فيها 15 وزارة فقط لم يأت استجابة لمعطيات فنية أو جدوى إدارية أو أنه انعكس سرعة أو كفاءة في الإنجاز بل كان جزءا من عملية الترضية السياسية المتبادلة في إطار المساومات الطويلة بين الكتل السياسية التي ركزت على توزيع الحصص أكثر من تركيزها على البرنامج الوزاري واستراتيجية العمل، وكما أن كل وزارة أصبحت ملكا للحزب الداعم للوزير بات التنسيق بين الوزارات أمرا غير ضروري طالما أن الوزير مسؤول أمام كتلته والتي تعبر غالبا عن مكون طائفي أو إثني وصارت المهمة الموكلة للوزير هي تعظيم مكاسب الحزب الذي انتدبه، أما نطاق مسؤوليته أمام رئيس وزرائه فهو محدود ولا يتجاوز في الحقيقة أطر المجاملة الرسمية. لذلك من الشائع أن تسمع وزيرا في العراق يقول إنه لا يتفق مع رئيس الوزراء أو يختلف معه بل وإن يتخذ قرارات تنقض قراراته فمسؤولية رئيس الوزراء وفق مفهوم المحاصصة السائد هي أن يمثل المدير التنفيذي للشركة العامة لأحزاب العراق التي تتقاسم تلك الأحزاب أسهمها، بعد أن كان العراق شركة عامة للقائد وعائلته فيما سبق، وقد يقول البعض إن ذلك تعبير عن الديمقراطية، والرد على ذلك هو أننا لا نجد مثيلا له في الديمقراطيات الراسخة لسبب بسيط هو أن مؤسسة الاختلاف والرأي هي البرلمان أما الحكومة فهي مؤسسة تدير الجهاز الخدمي والإداري للدولة وتعبر عن الاتجاه السياسي العام الذي أفرزته الانتخابات بوصفها خيار الأغلبية، وقد لا يكون رئيس الوزراء محقا دائما وربما كان هناك وزراء محقون في اختلافهم معه لكن ما يحصل في الحكومات الديمقراطية هي أن الوزير يختار الاستقالة إن كان غير مستعد لقبول سياسة رئيس وزرائه فهي أهون الشرين من أن تكون للحكومة سياسات متعددة ومتناقضة. لذلك يبدو طريفا اليوم أن هناك من يريد أن يحاسب الوزراء رغم أن الحساب يجب أن يبدأ بالكتلة التي عينت الوزير وهو بالتالي حساب غير محتمل لأن الجميع متورطون ولا يمكن للبرلمان الحالي أن يكون صادقا في محاسبته إن لم يكن حسابا جذريا للمبدأ الذي تشكلت عليه الحكومة. إننا هنا أمام نمط خاص من السياسات العراقية التي حكمتها فكرة الدولة ـ الغنيمة، حيث يؤدي تراكم الموارد النفطية في ميزانية الحكومة المركزية إلى جذب الجميع نحو السعي لانتزاع حصة ما تخدم توظيف الحزب المباشر لموارد تلك الوزارة لتحقيق مصالحه الخاصة عبر التعيينات والإيفادات والتخصيصات والمشاريع، وينتج عن ذلك نمط من الترضيات المتبادلة على شكل خلق وزارة جديدة أو مؤسسة جديدة أو منصب جديد، فطالما كانت الميزانية مليئة فلا بأس من إحداث تشكيل جديد لترضية من قد يشعر بغبن حصته. الشيء نفسه امتد من طريقة تشكيل الحكومة المركزية إلى كافة المؤسسات والمستويات الإدارية الأخرى، وهناك جيش من المستشارين بعضهم غير خبير في اختصاصاته الاستشارية ولوجودهم سبب واحد هو أن لا «يزعلوا»، في بلد عندما «يزعل» أحدهم على عدم نيل حصته يتحول إلى معارض وطني مناوئ للاحتلال والمحاصصة والنفوذ الخارجي والفساد ويريد تحرير العراق منها جميعا، وهو تحرير عادة ما ينتهي بترضيته بحصة جديدة أو بانصرافه من هاجس إنقاذ العراق إلى عمل أكثر ربحية. هناك أيضا وزارات بلا عمل حقيقي ووجودها مخترع خصوصا بافتراض أننا ديمقراطية لا تحتاج فيها الدولة أن تلعب كل الأدوار التي يحال بعضها للمجتمع المدني، مثلا هناك وزارة المرأة ووزارة المجتمع المدني (كانت دائرة تابعة لوزارة التخطيط) ووزارة الشباب والرياضة ووزارة الأهوار ووزارة البيئة ووزارة شؤون مجلس النواب ووزارة التكنولوجيا في بلد لا يوجد مصنع واحد فيه شغال، وليس في ما أقوله انتقاص من أهمية هذه الأمور أو من شخصيات الوزراء، بل أقول إن البناء الوزاري لا بد وأن يتكيف مع الحاجات الحقيقية للمجتمع، وفي حالة العراق، حيث هناك حاجات أساسية لم تشبع أو مهددة، ربما تكون هناك حاجة لعشر وزارات فعالة تلحق بها بقية الوزارات على الأقل لترشيد الاستهلاك. هناك ثلاث مؤسسات لإدارة الإعلام تتقاطع مع بعضها ولا يعرف أي منها صلاحياته ولكننا نكتشف أن أكثر من 50 وكالة وصحيفة محلية وأجنبية تعمل في العراق بدون ترخيص، لأن تلك المؤسسات ما زالت مشغولة بنزاع الصلاحيات، وهناك مفوضية للنزاهة تورط بعض مدرائها بالفساد والتزوير، وهناك محاكم جنائية يفترض أن بعضها وقتي تحول إلى دائم ويتصارع قضاتها مع بعضهم حتى في الإعلام بشكل يهدد ما تبقى من ثقة بها، وهناك مفوضية للانتخابات تستخدم المال العام لدفع خدمة الإنترنيت لأولاد مفوضيها بل ولترميم مراحيض بيوتهم عندما يحصل فيها انسداد! أما مجالس المحافظات فهي تمارس اللعبة ضمن مستوياتها الإدارية فلكل محافظ نائبان، وأحيانا لكل مدير نائبان، وربما لكل نائب نائبان، وهذه المجالس تبدأ أعمالها بأجندة تتصدرها قضايا مثل إعمار المحافظة وبناء المستشفيات وجامعة جديدة وشوارع جديدة واستثمارات ضخمة ومطارات.. وتنتهي غالبا على نزاع حول عدد رجال الحماية والسيارات لكل عضو، وهكذا سمعنا كثيرا عن مترو بغداد العتيد الذي تحدث عنه كل محافظي بغداد قبل أن يرحلوا دون أن نرى شيئا منه، سمعنا عن مطارات كبرى ستبنى في مدن لا يملك سكانها ماء صافيا وعن مجمعات تجارية ضخمة في أماكن تمس حاجتها لسكن مناسب يؤوي فقراءها. هل سيتغير الحال إن تغير الأشخاص، لا أعتقد، فالبداية في أن يتغير العراقيون ويحسموا صراعهم حول السلطة والنظر للدولة كغنيمة، وهو أمر بحاجة إلى تغير ثقافي يمتد لأجيال، وهو ما قد لا يحدث قبل أن تفرغ الميزانية مما تحتويه وتصبح الدولة عندها عبئا لا يريده أحد، وكل ما يمكن أن نرجوه هنا هو أن نؤسس لحكومة فيها حجم معقول من الإهدار والفساد كما هو شأن حكومات العالم الأخرى. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ د. جابر حبيب جابر
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|