1: مدخل
(خلال إحدى زياراتي الأولى لبراغ بعد انهيار الحكم الشيوعي عام 1989، قال لي صديق عاش فيها طوال الوقت: إن بلزاك هو ما سنحتاجه، لأن ما تراه هو إحياء للمجتمع الرأسمالي بكل ما فيه من قسوة وسخف، مع فظاظة النصابين ومحدثي النعمة. لقد حلت البلاهة التجارية محل البلاهة الايديولوجية، إلا أن ما يجعل هذه التجربة جديرة بالتصوير، هو أنها تحتفظ بالقديمة طازجة في ذاكرتها، وان التجربتين تتداخلان، وأن التاريخ كما في عصر بلزاك يُخرج مسرحية معقدة لا تصدق). ـ ميلان كونديرا ـ كتاب: الستارة، فصل" الخجل من التكرار".
في قراءة نقدية للدكتور عبد الله ابراهيم في مجلة العربي عدد تموز 2009 دراسة بعنوان:( الرواية العراقية الجديدة: المنفى، الهوية، اليوتوبيا) يتعرض فيها لقراءة واقع الرواية العراقية عبر المحاور الثلاثة المذكورة ويمثل على ذلك الروايات التالية كحقل للقراءة والنقد والتفكيك: 1 رواية حارس التبغ لعلي بدر: هويات أم اقنعة 2 الحفيدة الامريكية، انعام كجه جي، المنفى والهوية المرتبكة 3 رواية المحبوبات، عالية ممدوح، والهوية النسوية 4 رواية السراب الأحمر، علي الشوك، اليوتوبيا بوصفها منفى.
قدم الدكتور لهذه القراءة بـ ( مدخل) يوضح طريقة هذه القراءة وأدوات التفكيك ومسار النقد أو منهجه في القراءة والتحليل مبتدئاً بشرح وتوضيح مفهوم المنفى وتأثيره على الأدب أو ما يعرف بأدب المنفى وهو أدب:( يطفح برغبات الحنين والاشتياق والقلق وهو مسكون بفكرة اعادة كشف موقع الفرد في وطنه وفي منفاه، على حد سواء، لأن المنفى يكرس عجزا عن الانتماء الى أي من العالمين المذكورين" المنفى والوطن" وتعذر الانتماء يقود الى نوع من الترفع الفكري، والرهبنة الروحية، والعقلية) و :( أدب المنفى كونه مزيجا من وهم الانتماء المزدوج لهويتين...) ويستشهد الدكتور برأي الناقد البلغاري الأصل تودوروف عن مفهوم المنفى والمنفي في سياق البحث عن "الأنا" و" الآخر" ويقتبس قول تودوروف:(تشبه هذه الشخصية" المنفي" في بعض جوانبها المهاجر، وفي بعضها الآخر المغرَّب، يقيم المنفي، مثل الأول، في بلد ليس بلده، لكنه مثل الثاني، يتنجب التمثل، غير أنه خلافا للمغرَّب، لا يبحث عن تجديد تجربته وزيادة حدة الغربة، وخلافا للخبير، لا يهتم خصوصا للشعب الذي يعيش بين أفراده) وهذا المنفي غير المهتم بحياة الشعب المقيم بين افراده:( يهتم بحياته الخاصة، بل وبشعبه الخاص) و يواصل الاقتباس من تودوروف:( قد يشكل المنفى تجربة سعيدة لكنه بالتأكيد ليس اكتشافا للاخرين).
ثم يقتبس من أدوارد سعيد حول المفهوم نفسه:( النفي لا يقتصر معناه على قضاء سنوات يضرب فيها المرء في الشعاب هائما على وجهه، بل يعني ان يصبح الى حد ما منبوذا الى الأبد، محروما على الدوام من الاحساس بأنه في وطنه) وفي الوقت الذي وضع الدكتور المنفي في موقع (الترفع الفكري) لكن اقتباسه المبتسر من أدوارد سعيد وضع المنفي في موقع (النبذ) وكما سيأتي في موقع (الهامشية).
ويواصل الاقتباس من سعيد: ( يشيع افتراض غريب وعار عن الصحة تماما، بأن المنفي قد انقطعت صلته كلية، بموطنه الأصلي... ألا ليت هذا الانفصال" الجراحي" الكامل صحيحا) وهو اقتباس آخر يناقض مدخل الدكتور في كون المنفي عاجزا عن الانتماء( الى أي من العالمين ـ المنفى والوطن) لكن الدكتور عبد الله وهو يقتبس من ادوارد سعيد لا يستمر في توضيح تصور سعيد للمنفى ولا يذكر كلام سعيد المستمر عن وجوه المنفى وهو مهم لكنه مستبعد من اقتباس الدكتور لأنه لا يخدم المقدمة أو المدخل المرتكز على أن المنفي يعاني( من عجز الانتماء الى أي من العالمين) وهو ما يرفضه تودوروف نفسه حتى في النص المقتبس منه:( المنفى قد يشكل تجربة سعيدة ـ و ـ المنفي يهتم بحياته الخاصة وبشعبه الخاص) اي انه ليس عاجزا عن الانتماء لكنه عاجز عن الاندماج وهو صورة من صور المثقف الأعزل وغير المنتمي.
وهو موقف يوضحه أكثر ادوارد سعيد أيضا في وصفه للمنفي في كتاب(صور المثقف)محذوف من اقتباس الدكتور وفي هذا النص يقول سعيد:( "المثقفون" المنتمون مدى الحياة الى مجتمع ما، يمكن تقسيمهم الى مندمجين وغير مندمجين، هناك الذين ينتمون كليا الى المجتمع كما هو دون اي شعور بالتنافر والانشقاق، ومن الجهة الأخرى: "القائلون" لا، هؤلاء الأفراد الذين على نزاع مع مجتمعهم ولذلك فهم غير منتمين و"منفيين" فيما يخص بالامتيازات، والسلطة، ومظاهر الحفاوة، والتكريم). والمسار الذي يوضح المنفي هو المسار نفسه للمثقف اللامنتمي، ويضيف أدوارد سعيد، (والمنفى يعني ان تظل على الدوام هامشيا) والهامشية والنبذ هي خاصية المنفي لكنها ايضا لصيقة بالمثقف غير( المندمج) حتى لو كان بين أفراد شعبه، لأن مجرد عيش المثقف بين افراده لا يبرر الاندماج والشعور بالهوية كما يريد أن يقول في المدخل، بل على العكس ان المثقف غير المنتمي والمندمج، يعيش الهامشية لأنه يرفض السلالة فوق أرضه أكثر مما يعيشها في منفى مكاني قد يكون أهون المنافي، فالهامشية والنبذ والرهبنة الروحية والاغتراب ليست ظواهر يفرزها المكان ولكنها ظواهر تتولد من طبيعة علاقات السلطة والمجتمع ولا يمكن قراءة خطاب المنفي بدون قراءة خطاب السلطة وهذا مستبعد من قراءة الدكتور للأدب الروائي العراقي في الأقل حتى مرحلة الاحتلال.
نص أدوارد سعيد الكاشف يغيب عن اقتباس الدكتور عبد الله ابراهيم لانه يناقض المدخل القرائي بل يقود الى نتائج مختلفة، وهو لا يذكر التكملة لسعيد نفسه في كون هذا المأزق ليس خاصية بالمنفي وحده، اي ظاهرة الانفصال والصدام والانشقاق وعدم الولاء للمجتمع، ولكنها تشمل المثقفين ابناء البلد الذي يتواجد فيه المنفي، لذلك بدل أن يخدم الاقتباس أهداف المدخل نسفها من البداية، ولكن هذه هي القراءة النمطية للدكتور الناقد في قراءات أخرى للنصوص، وما يهمنا هنا هو التعرض لدارسته حول الرواية العراقية من الزاوية الانتقائية التي اختارها وهي لا تصلح لتفكيك وقراءة الرواية العراقية ولا غيرها أيضا كما تشهد بذلك نصوص روائية عالمية.
2: المنفى أم الحرية؟
قراءة الرواية العراقية من زاوية المنفى والهوية واليوتوبيا هي قراءة رغبية لأن الهوية لم تكن معروضة للشك والسؤال والقلق النفسي في الادب الروائي العراقي المنفي بل المعروض هو قضية الحرية والسلطة، وتفسير المنفى كمكان هو تفسير ناقص لأن المنفى هو أيضا استلاب وشعور واحاسيس وليس مكانا فحسب وكما يقول الناقد الفرنسي برنارت فاليت:( إن الروائي من لحظة حمل القلم يدخل في منفى) واغتراب حتى في الوطن، وبما أن الدكتور عبد الله ابراهيم يعمم منهجه النقدي على كل الروايات موضوع النقد والفحص والقراءة، اي قراءتها من زاوية المنفى والهوية واليوتوبيا، فسنكتفي بقراءته لرواية(حارس التبغ) لعلي بدر كنموذج للقراءة النقدية للدكتور لواقع الرواية العراقية الجديدة مع اشارات لقراءاته الأخرى كلما تطلب الأمر، وهي قراءة تقع في مأزق علي بدر نفسه الذي يعارضه الدكتور، اي تفسير أزمة الإنسان العراقي على أساس اضطراب الهوية، ولسبب آخر يتعلق بأساليب الكتابة الروائية للروائي علي بدر نفسه كما سيتضح من السياق القادم.
إن العراقي يعرض سؤال الحرية في وطنه قبل المنفى ولا يعرض سؤال الهوية لأنها متجذرة وراسخة وعلي بدر في رواية (حارس التبغ) يحاول تكييف الصراع القائم على هذا الاساس والتمثيل بشخصية كمال مدحت عازف الكمان على انه رمز الهوية المضطربة التي لم تستطع العيش في الوطن ولا خارجه فتلجأ لصنع الاقنعة من خلال محاولة التماثل مع شخصية الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا وهو تماثل شكلي ، والدكتور عبد الله ابراهيم كان واعيا بالأمر وهو ان علي بدر يقوم بتلبيس حالات واوضاع من أمكنة مختلفة ومنطقة تفكير أخرى وهويات مضطربة أخرى على الواقع العراقي ويقول الدكتور:( لا يكشف هذا التناظر إلا أقل مظاهر التماثل بين بيسوا الشاعر البرتغالي و كمال عازف الكمان العراقي، فقد انزلق السرد الى منطقة لا علاقة لها بين الاثنين) لكن المنزلق الأخطر الذي يمضي فيه علي بدر هو :( لكن الخطأ الأكبر هو عدم الانتباه الى فارق أشد خطورة، فقد جرى تضخيم الوجوه المقترحة للشخصيات في ديوان شعري ـ ديوان بيسوا ـ لتبرير نزاع الهويات اليهودية، والشيعية، والسنية، وهنا تعرض قضية أخرى لا صلة لها بشخصيات بيسوا. تحدث بيسوا عن نزعات تأملية وتعبيرية كانت تحيل على أنداده أكثر من تقمصاته، فهل الهويات التي اجبر الموسيقار العراقي على الانخراط فيها لها تلك السمات؟) وبقية رأي الدكتور في حارس التبغ هو تنويع لهذا الرأي ونفي لصراع هويات في العراق على خلفيات دينية وهو من طبيعة سياسية وليس:( بسبب الرؤية الى الذات والعالم) ويضيف:( وقعت الرواية أسيرة التصورات الجاهزة لنزاع الهويات وهي أعقد بكثير مما جرى عرضه).
3: وضع الطرابيش العثمانية على رؤوس عراقية
الروائي علي بدر في هذا العمل وفي غيره يقوم بعملية اسقاط مزدوجة: وضع الطرابيش العثمانية التركية على الرؤوس و"السدارات" والعمائم العراقية وتفسير المنعطف العراقي كالمنعطف التركي في عشرينات القرن الماضي حين وجد التركي نفسه أمام مفترق طرق وسؤال الهوية: هل هو عثماني سلطاني خليفي ولي أمر المسلمين؟ هل هو تركي مسلم؟ تركي اوروبي؟ وهذا القلق عكسه الروائي التركي اورهان باموق في رواياته وخاصة رواية( البيت الصامت) وعلي بدر شديد الاعجاب بأورهان باموق وربما التقاه شخصيا في تركيا.
اذن لا يمكن تفسير المأزق العراقي حسب تفسيرات علي بدر في اضطراب الهوية كما لاحظ الدكتور ذلك لأن علي بدر يلبّس تأملات بيسوا الروحية والفكرية على أوضاع الموسيقار العراقي وعلى عموم الشخصيات كما يخلع اضطرابات الهوية لدى شعوب أخرى على الواقع العراقي. لكن في الوقت نفسه لا يمكن تفسير الأدب الروائي أيضا من زاوية المنفى وحده ولا من زاوية الهوية سواء كانت الهوية وطنية(رواية الحفيدة الأمريكية) أو هوية جنسية انثوية(رواية المحبوبات، عالية ممدوح) الا اذا كان الدكتور يقوم على مستوى النقد ما قام به على بدر على مستوى السرد، اي تلبيس مفاهيم نقدية على نصوص مختلفة تماما أو على نصوص منتقاة وجاهزة للتلبيس ونفي الاخرى التي تعرضت لقضايا عراقية متشعبة ليس بينها سؤال الهوية، والمنفى فيها ليس مطروحا كتحد ثقافي او فكري أو معرفي لكنه مطروح كتحد اخلاقي وسياسي واقتصادي ونفسي، والعراقي لا يطرح سؤال الهوية على نفسه في المنفى او في الوطن نظرا للاعتزاز المتعالي والشعور الزائف أحيانا بضخامة الهوية الى الدرجة التي تدفع حتى الشحاذ العراقي يغني متسولا:( هلي ما لبّسوا خادم سملهم) وقد يعود الأمر الى عراقة وصلابة هذه الهوية، لكن الاضطراب لا يمكن تفسيره من باب الهوية المضطربة بل من باب العلاقة المضطربة بين الانسان والسلطة، بين الانسان والعالم، بين الانسان والقمع، بينه وبين مصيره بالمعنى الوجودي.
في الوقت نفسه لا يمكن تفسير الأدب الروائي العراقي في الخارج من زاوية المنفى وحسب لأن هذا الأدب تعرض لحياة واسعة وقراءته من منطقة الجرح تقود الى نتائج من خارجه، اي قراءة الأدب الروائي قراءة عقلانية وليست جمالية وهو مبدأ يرفضه تودوروف نفسه: وإلا كيف قرأ النقاد في العالم أعمال البير كامو في الجزائر( الغريب) أو رواية كونراد(قلب الظلام) في أدغال افريقيا، أو أعمال جورج أورويل(متشردا في باريس ولندن) أو روايات ميلان كونديرا ، أو الطاهر بن جلون في باريس أيضا وغائب طعمة فرمان في موسكو، بل تودوروف وأدوارد سعيد وغيرهم؟ لأن قراءة الأدب الروائي خارج مكانه من زاوية المنفى يقلص كثيرا من حجم أدب المنفى وحجم المنفى ويحول الأمرين الى أزمة عابرة.
4: قراءة الخطاب الروائي خارج خطاب السلطة
الدكتور عبد الله ابراهيم في قراءته للاعمال الروائية وحتى زمن الاحتلال لم يقرأ هذه النصوص داخل العلاقة المعقدة والمتشابكة بين الانسان العراقي وبين السلطة، وهو في ذلك يلتقي مع علي بدر الذي لم يسبق له ان قرأ هذه العلاقة من هذه الزاوية، مع ان هذه الزاوية محورية وجوهرية في تفسير الأعمال الروائية وغيرها، كما ان الدكتور يعرف أفضل من غيره من النقاد المحليين الايديولوجيين ان المعرفة لا تنتج خارج السلطة سواء بالتضاد أو بالتوافق( ميشيل فوكو ـ سلطة الخطاب) وهذا يعني أن النأي عن هذه القراءة هو استبعاد لا تعود اسبابه لطريقة قراءة الدكتور للنصوص الروائية، خاصة وان اشكالية العلاقة بين السلطة والنص مركزية في منظومة الدكتور النقدية والمعرفية، ولكن هذا الاستبعاد أو الاقصاء لهذه العلاقة هو من طبيعية شخصية وسياسية: الدكتور نأى بنفسه عن هذه القراءة، اذا اذن لنا بكلام واضح، تهربا من هذه القراءة (تماما كعلي بدر حين تهرب من سرد هذه العلاقة حتى سقوط النظام) ويبدو أن الاثنين انتظرا كل هذا الوقت الطويل والسنوات والنصوص المركونة والمهملة التي تناولت هذه العلاقة، لكي يقوم كل واحد منهما بـ( اكتشاف): إن العلاقة بين الانسان والسلطة، بين المعرفة والخطاب، بين السرد والواقع، تقوم على(الاستبداد والاحتلال) بتعبير الدكتور رغم ان الدكتور يذكر ذلك بسرعة ولا يحددها بل على طريقة مرور الكرام وهو رأي متأخر لكنه أقرب الى صورة الواقع من علي بدر الذي فسر العلاقة في(حارس التبغ) على اساس اضطراب الهوية وتداخلها واشتباك أثني عرقي طائفي.
كلاهما لا يريد القفز على سلالمه القديمة بسرعة: رغم عجالة علي بدر الواضحة وقفزه الأسرع لكنه أيضا لا يريد أن يوصم بالابتعاد تماما عن عالمه السردي قبل الاحتلال لأنه سيواجه بسؤال أخلاقي وروائي: (اين كنت؟) ولسنا في مجال محاكمة أحد على مرحلة تتحمل الكثير من المآسي والمواقف، ولا الدكتور ايضا يريد الابتعاد عن منهجه النقدي السابق الذي يدعي قراءة النصوص داخل شبكة علاقاتها الداخلية والتأويلات الدلالية اللغوية والنصية وهو( منهج) منحه لحظة ذهبية في الفرار من مواجهة خطابات الصراع السياسي القائم يومذاك في العراق وقراءة الأدب الروائي القائم على نتائج هذا الصراع، بين خطاب السلطة السردي وبين الخطاب الروائي ـ والسلطة منتج رئيس للسرد والنثر والخطابات والنصوص بالتوافق أو التصادم لأن النثر لا يعني الخروج على الايقاع، بتعبير ميلان كونديرا، بل هو إيقاع الواقع اليومي.
اللقاء بين علي بدر كروائي والدكتور عبد الله ابراهيم كناقد في قراءة أحدهما للآخر هو لقاء بين خطابين موّها صورة الواقع النقدي ـ السردي، وكلاهما إمتلك الفرصة والمكان: خطاب سردي لم يدخل أبدا لا في شكل ولا في صورة العلاقة بين الانسان العراقي وصراعه مع السلطة عبر السرد ولجأ الى قضايا نائية(رواية:بابا سارتر، بيروت2001، وشتاء العائلة، بغداد، دار الشؤون الثقافية 2002) وخطاب نقدي تلبيسي يقرأ النصوص عبر منظومة نقدية من منطقة تفكير مجلوبة من سرديات مختلفة منحت الدكتور فرصة، وليست حرية، المناورة والتملص من قراءات جدية معمقة وهو قادر على ذلك كناقد ولكنه تملص منها، وربما تكون له اسبابه لكن هذه الاسباب لا تصلح قراءة نقدية في قراءة النصوص الروائية، وحتى رواية( الحفيدة الأمريكية) للروائية انعام كجه جي التي اعتبرها الدكتور( تقدم تمثيلا سرديا شائقا لموضوع الهوية المرتبكة) لا تتعرض للأمر من هذا المنظار بل من زاوية أكبر وأعمق وأدق: هي صراع الحرية والاحتلال، بالضبط المواجهة بين الحرية والعبودية بشكلها الجديد، وزينة بهنام الشابة العراقية القادمة مع الجيش الأمريكي كمترجمة لا تعاني من اضطراب الهوية بل اضطراب في وعي قضية الاحتلال الذي فهمته أول الأمر كتحرير لكن التجربة اثبتت لها عكس ذلك ولكثير من الجنود الامريكيين من هوية خالصة، وإلا كيف نفسر انتحار وهروب أعداد كبيرة من هؤلاء مع بقاء الشعور بالهوية سليماً لم يمس عندهم؟
الهوية من منظور الدكتور هي هوية ثقافية أحادية تضطرب وتتحول وتعيش قلق السؤال عن الذات، ولكن الهوية ليست ذاتا ثقافية بل هي جسدية وبايولوجية، اي تتضمن عنصرين: الاستمرار والتحول ويشمل جانبها الثقافي، والثبات ويشمل جانبها البنيوي والعضوي والبايولوجي وهذا الجانب غير قابل عمليا وعلميا للسؤال: من الصعب جدا رؤية انسان يشكك في لون عينيه وشعره وبشرته والخ الا اذا كان هذا الانسان قد وُضع في مناخ عنصري وثقافي وفكري معاد وحتى في هذه الحالة غالبا ما يقع العكس: بدل قلق السؤال عن الهوية يقع التشبث والتمسك حتى بالاصول والأسس والتقاليد المغروزة في المكان الأول: العنصرية والاحتلال لا يلغيان الشعور بالهوية ولا الشك فيها، بل العكس يطوران في هذه الهوية نزعة التطرف والتمسك والتشبث ونحن نعيش تفاصيل ذلك يوميا في المنافي، أو بتعبير امين معلوف: الهويات القاتلة. الهويات القلقة هي التي تعيش تهديد المصير والنفي سواء كان ذلك داخل او خارج الوطن، والمأزق العراقي اليوم ليس مأزق هويات بل مأزق حرية وسؤال الحرية هي سؤال المصير والأرض وليس سؤال الهوية.
هذا الاطار المموه للمأزق هو ما حاول علي بدر أن يقوله في(حارس التبغ) ولم يفلح، فكما توارى على مستوى السرديات عن الكلام عن صراع السلطة والناس بالذهاب الى مجموعة مثقفين وجوديين يعيشون قلقا نفسيا له ما يبرره( بابا سارتر) وهؤلاء لم يكونوا مرغوبين من كل السلط العربية والسلطة العراقية السابقة خاصة ولذلك يسهل شرشحتهم دون خوف، كذلك لجأ مرة ثانية الى تمويه الصراع القائم في العراق اليوم، عبر السرد ايضا، من خلال صراع هويات مزعوم كما في( حارس التبغ).
5: استعارة المعمار الروائي والبناء على نموذج جاهز
ملاحظة الدكتور لعلي بدر في هذا الموقف تستحق الاهتمام ليس لطبيعتها النقدية وحسب بل لأن الدكتور نفسه يعرف هذه الحقيقة الثقافية والمعرفية كخطاب منسي وملغي ومسكوت عنه من تجربته كناقد ويعرف طبيعة الصراع في العراق أفضل من علي بدر: لكنهما يشتركان مرة أخرى في كونهما: يلبسان مفاهيم نقدية من خارج النصوص كما هي حالة الناقد و علي بدر يلبّس الثنائية التركية العثمانية وغيرها في لحظة منعطف على الوضع العراقي استنادا الى قراءة اورهان باموق،كما استند من قبل في رواية (الركض وراء الذئاب ـ 2007) على روايتنا( سنوات الحريق ـ 2000) وتحولت شخصيات سنوات الحريق من ثلوج أسكندنافيا الى أدغال أفريقيا في الركض وراء الذئاب: التعريف الترويجي لرواية علي بدر يقول ان هذه الرواية تتعرض:( لثوار عراقيين ينتهون الى الجنس والتشرد والضياع بعد سقوط الثورة ووهْم الايديولوجيات وزيف الثورات الخ) كما لو ان الثورة تتعارض مع الجنس، أو كما لو ان فشلها قاد الى الجنس كتعويض، وفي التعريف السائد عن روايتنا (سنوات الحريق) انها رواية تتعرض لحياة يساريين عراقيين هاربين في دول اسكندنافية وأوروبا ومصائرهم وانتهوا بعد فشل حلم الثورة الى التشرد والضياع وليس مطروحا الجنس كتعويض ولكن كممارسة حياتية سوية طبيعية أو كانحراف (تاريخ صدور رواية الركض وراء الذئاب 2007 ـ الفارق سبع سنوات) وكل ما قام به علي بدر هو نقل هؤلاء الى غابات افريقيا( من ثلوج اسكندنافيا في رواية سنوات الحريق) مع كل الخلاصات والاستنتاجات والمعايشة والتجربة المرة في الوطن والمنفى والعزلة والتأمل ومئات المقالات عن الأمر ومواجهات طويلة استُخدمت فيها ترسانة لغوية من خارج حقل الأدب والنقد والاخلاق، وقد ساهمت العزلة في طمس النصوص في العتمة في مناخ ثقافي اخواني سياسي حزبي لا يُقرأ فيه الأدب بشروطه الأدبية.
ليس من المعقول لروائي لم يتعرض لقضية نقد السلطة السياسية ونقد السلطة الاجتماعية ونقد سلطة المعارضة، وليس لديه أي موقف سياسي وفكري من المعارضة السابقة لا على مستوى السرد ولا على مستوى السياسة أن يقوم(فجأة؟)بعد الاحتلال باصدار سلسلة روائية تقوم على هذه التعارضات ما لم يكن يستند على ترسانة مخمرة ومعتقة من خلاصات وتأملات جاهزة وتجارب مريرة لمرحلة قاسية ومنشورة لكتّاب كتبوها بأقدامهم (النثر الماشي) قبل أن تتموضع في نصوص وبصورة مبكرة ونُشرت يوم كانت السلطة قائمة في الداخل والمعارضة موجودة في الخارج وكان لها معنى الكشف والاستباق والنبوءة والمواجهة: أتحدث، تحديدا، عن ان الروائي علي بدر استعار البناء الهيكلي الروائي الجاهز، اي أنه اشتغل على نموذج مسبق كما يفعل مهندس معماري على مخطط هندسي جاهز لكنه غيّر في تفاصيل النوافذ والابواب وشكل الحديقة وغير ذلك لكن الأعمدة الرئيسة نفسها والمعمار الأصلي واحد.
وكما حدث مع رواية( سنوات الحريق) وصورتها المقابلة( الركض وراء الذئاب) حدث مع رواية( عزلة أورستا ـ سرقوا الوطن، سرقوا المنفى 2001) التي رحّل علي بدر جزءا منها الى( حارس التبغ 2008 ـ الفارق بينهما سبع سنوات ايضا) فصار الشاعر العراقي اليهودي ابراهيم عوبديا( وهو صديق حتى وفاته في حيفا قبل سنوات قلائل) في رواية عزلة اورستا الى عازف الكمان في رواية(حارس التبغ): ابراهيم عوبديا في عزلة اورستا شاعر عراقي يهودي يهرب أواخر الاربعينات الى ايران بسبب عنف سياسي مبرمج ومعروف ثم يعود الى العراق لكنه يهرب مرة ثانية الى ايران ويعمل في حزب تودة( الشيوعي) ثم يهرب الى اسرائيل لكن الشاعر عوبديا المتمسك بهويته العراقية وانتمائه السياسي اليساري والمتفهم لهويته الدينية بلا توافق نظرا لأفكاره ومعتقداته السياسية لم يُطرح في روايتنا كموضوع لإشكال وقلق وازدواج الهوية بل على العكس ان مفوض الشرطة العراقي المسلم هو الذي حذره من صدور أوامر بالقبض عليه، اي انه كان يفهم مستوى الصراع ونوعه، ولم نجد الحاجة لوضعه في اطار بوليسي أو فكري مضخم وفي مواجهة لعبة اقنعة سطحية مع شاعر مثل بيسوا لكي نمرر وجهة نظر عن صراع طائفي أو هوياتي أو إثني مزعوم، ولكنه حين صار عازف كمان في( حارس التبغ) وهرب الى طهران وعاد الى العراق ثم هرب الى ايران ثم اسرائيل ودمشق وعاد عبر حكاية بوليسية الى العراق بعد الاحتلال ليُقتل بعد تبديل مستمر للاسم والعنوان والأمكنة، عازف الكمان هذا الذي اراده علي بدر صورة لصراع هوياتي طائفي عرقي اثني هو اعادة صياغة لشخصية الشاعر ابراهيم عوبديا( مرة أخرى: استعارة البناء الهيكلي الجاهز ايضا والعمل على نموذج وتطويره وهي حرفة شاقة وماهرة) الذي عاش الصراع بمستواه السياسي حتى يومه الأخير في حيفا وكنت على علاقة مستمرة معه حتى لحظة وفاته والبروفيسور شموئيل موريه( سامي) استاذ الادب العربي في الجامعة العبرية في القدس وهو قاص وناقد وباحث عراقي معروف وصديق لكثير من الادباء العرب بل استاذ لكثير من الطلاب الفلسطينيين كان شريكاً ومطلعاً على هذه الصداقة وهو نفسه لم يعان من سؤال الهوية وقلق الانتماء ويعرّف نفسه حتى اليوم في كتب كثيرة بالعبارة التالية: عراقي ـ يهودي.
علي بدر اختلق وليس خلق حكاية الشاعر البرتغالي الاشكالي فيرناندو بيسوا ليس من باب التماثل بين شخصيات حارس التبغ وعازف الكمان وبين الشاعر الاشكالي لأن التطابق بينهما سطحي بل ومعدوم ايضا بشهادة الدكتور عبد الله ابراهيم، ولكنه حاول تلبيس حالة حارس التبغ على حالة بيسوا وهي طريقة علي بدر المعروفة من أجل منح الرواية عمقا غير موجود كما حاول منح الصراع عمقا متوهما كصراع هويات وقد انطلت هذه السذاجة على بعض الهواة، فغرقوا في تحليلات صبيانية مسطحة لا تتحدث عن الرواية بل عن شخصيات روائية مجلوبة من منطقة قراءات مختلفة وقاموا، كما فعل الروائي بدر نفسه، بتلبيسها على الرواية، لأنهم هم أيضا يحتاجون وهم التضخيم الشخصي للاعلان عن حضور نقدي أو ثقافي لم يعد بحاجة اليوم الى مشقة أو موهبة أو كفاءة بل الى شطارة وصنعة ودهاء.
بيسوا لم يكن يعيش أزمة هوية وإلا لما كان بيسوا الذي عرفه العالم بهذه القوة والجدارة بل من مأزق كوني عميق وأزمة روحية ووجودية جعلته يرى الوجه المقلوب للعالم، اي الوجه الحقيقي المرعب فغاص في داخله، وكانت حياته سردية مبهرة، بل حتى موته كان طقسا فريدا، وكما يذكر أحد أقرب اصدقاء بيسوا وهو الروائي الايطالي انتونيو تابوكي إن آخر عبارة قالها الشاعر على فراش الموت هي:( أعطوني نظارتي) فحتى الموت هو سفر وقراءة ونص يحتاج الى نظارات ورؤية وعيون مفتوحة. كان بيسوا هو من دفع تابوكي للكتابة الروائية فكتب سيرة فيرناندو بيسوا في روايته(هذيان) وهي سيرة ذاتية متخيلة للشاعر: أي الحقيقة عبر الخيال.
6: الوصول الى البقعة البيضاء والقفز فوق الموانع الأخلاقية
قد نفهم علي بدر أكثر اذا رجعنا الى روايته: (صخب ونساء وكاتب مغمور) وهي تشرح بصورة دقيقة مسيرة علي بدر الروائي وبلغة مكشوفة، والراوي هو المؤلف نفسه والرواية بضمير المتكلم وهي سيروية بصرف النظر عن العنوان. يقول المؤلف وهو روائي عراقي طموح وماكر في هذه الرواية بجرأة ووضوح انه مصمم على أن يكون روائيا مهما كلف الأمر وروائيا مشهورا على نطاق واسع ولو تجاوز كل الموانع والمحرمات ولكنه لا يجد سببا لتبرير ذلك :( كيف يمكنني أن ابرر كل هذا. كنت أقفز من فوق الموانع الاخلاقية نحو أشياء تجريدية بسرعة. اضرب على صدري مثل همنغواي وأقول ولكني كاتب. ساكتب شيئا عظيما سيطربق الدنيا ص 132) و: ( اذن كل ما أفعله مبرر... طالما أنا كاتب يريد الوصول الى البقعة البيضاء والمضاءة من هذا العالم ص 133) و:( اذن عليّ أن أبحث عن الحبكات الحمراء، حبكات أجواؤها فاضحة، ساخنة، فهي وحدها المرغوبة والمشتهاة، فهي وحدها التي لها هذه الجاذبية التي لا تقهر وان كانت منفرة... حتى وان كانت داعرة ص 113 ) وهكذا فعل.
ما من أحد يمنع علي بدر من الوصول الى تلك (البقعة البيضاء) والمضاءة من هذا العالم، ولو عبر حبكات (منفرة وقبيحة وداعرة) وبسرعة، لأنه يعلن في الصفحات نفسها أنه يشعر بـ (الاختناق) من كل شيء ويستعجل الوصول الى الشهرة بكل الطرق، وهو أمر شاركه فيه كثيرون أيضا في الحروب والحصار، حتى لو تطلب الأمر القفز(فوق الموانع الأخلاقية) لكن الوصول الى تلك البقعة البيضاء المضاءة لا تتم من خلال استعارة أرق الآخرين وحناجرهم المحتجة ومشيهم حفاة وهم يكتبون رواياتهم عبر حدود عدة دول، اي كتبوا نصوصهم، من أجل تلك البقعة البيضاء المضاءة ايضا، بأقدامهم أولا، ثم على الورق، ثانيا.
كتب علي بدر، بعد الاحتلال، روايات على نماذج جاهزة ومعلبة مع خلاصاتها الفكرية، وخلفياتها النفسية، وصوتها المحتج بخطاب صريح متواصل حتى اليوم: على السلطة والمجتمع والمعارضة والمجسد في نصوص منشورة، وتجارب مريرة عاشها كتّاب، ومثّلوها في سرديات قبل سنوات من ذلك، لكن بعد أن ركّب عليها حكايات مفبركة عن مؤسسات اعلامية ترسله مرة الى أفريقيا لمتابعة مصائر يساريين هاربين ومرة ثانية الى طهران لمتابعة حياة عازف الكمان، وحكاية المؤسسة الاعلامية تتكرر لدى علي بدر داخل النص لتبرير نقص التجربة الحقيقية ( كتطبيق لمبدأ "الحبكات الحمراء" و"القفز فوق الموانع الاخلاقية"و" حتى لو كانت قبيحة وداعرة") لأنه لم يعش أوضاع المنفيين في الخارج سواء في افريقيا أو في ايران، بل انه لا يعرف خارطة مدينة طهران( وربما أديس أبابا أيضا) جيدا لأنه لم يسافر، ويكتب من دليل سياحي يوفر كل المعلومات عن المدن وأحوال الطقس والمطارات والطبيعة والفنادق والشوارع والمتاحف وبيوت اللهو وغيرها لدرجة يمكن كتابة روايات من الدليل ومعرفة مدن العالم أكثر من ساكنيها الأصليين ومع ذلك لا يعرف أن( مقهى نادري) لا تقع في شارع ولي عصر كما جاء في(حارس التبغ) بل تقع في شارع جمهوري اسلامي وكنت أحد جلاّسها مع مجموعة من المنفيين العراقيين وقد ذكرتها في السيرة الذاتية الروائية (الأعزل) على انها (مقهى النخبة الايرانية المثقفة) وهو التعبير نفسه الذي استعمله علي بدر في حارس التبغ.
لكي لا ننسى( الأعزل ـ 2000 ) التي تعرضت أيضا لشخصية اليهودي العراقي شاؤول، فإن رواية علي بدر(بابا سارتر 2001) تعرضت لشخصية اليهودي ولكن كان اسمه شاؤول ايضا كما لو ان علي بدر لا يترك شيئا دون أن يأخذ حصته منه بعد التلوين: البناء المعماري الروائي، الخلاصات والاستنتاجات، وكذلك النقد الثلاثي المركب والمبكر: السلطة، المعارضة، المجتمع، ثم اليهودي. هل الأمر مصادفة؟ ممكن اذا عرّفنا المصادفة بطريقة جديدة على انها التراكم والتكرار. هل هذا ممكن؟.
علمت، دون أن أكون متأكدا من الأمر بنفسي، ان علي بدر مارس هذه الاستعارة من كتاب آخرين ومن بينهم نجم والي، ومن يدري قد يكون الأمر كله حكاية متخيلة من سرديات علي بدر أو هذيان بيسوا العراقي الباحث عن بقعة بيضاء مضاءة في هذا العالم رغم كل الموانع، عالمنا الأرضي، وليس بيسوا البرتغالي الباحث عن نظّارات وهو في الطريق الى ممرات الموت المظلمة. |