|
|
عندما تغيب الثقة |
|
|
|
|
تاريخ النشر
28/09/2009 06:00 AM
|
|
|
في كل الأنظمة السياسية الديمقراطية تشهد الفترات الانتخابية صراعات كبيرة وانتقادات وجدالات حادة تصل أحيانا حد التشكيك بنزاهة أو جدارة الطرف المنافس، وليس ببعيد عنا محاولات الجمهوريين وحتى بعض الديمقراطيين خلال الصراع الانتخابي الرئاسي الأخير في أمريكا إظهار أوباما بأنه لا يمتلك الجدارة والأهلية لإدارة البلاد، ووصل الأمر بأقلية من اليمين المتطرف إلى التشكيك بوطنية الرجل، بل وبكونه لا يحمل شهادة ميلاد أمريكية أصولية، مع ذلك فإن الصراع الانتخابي يظل محصورا داخل حدود تمثل قواعد قانونية ومؤسساتية وأخلاقية تحكمه، وهي قواعد باقية لأنها تجذرت بمرور الزمن واكتسبت مقبوليتها بحكم الممارسة والتكرار والتشريع، والأهم من ذلك بوجود قدر من الثقة الناتجة أصلا من ديناميكية وتجانس النظامين السياسي والاجتماعي، وحيث لا ينظر إلى الصراع والاختلاف على أنه «فتنة» بل ظاهرة طبيعية تقود المجتمعات إلى التجدد بشكل دائم. من هنا يصعب علينا العثور على مواقف هادمة للنظام أو مشككة بجذوره من داخل الطبقة السياسية نفسها، ورغم وجود أقلية من مثقفي أقصى اليسار أو من متطرفي أقصى اليمين ممن يتخذون مواقف راديكالية من النظام السياسي، فإن عموم المجتمع يقبل قواعد النظام بوصفها أفضل الممكن في الوقت الذي تنخرط فيه النخبة السياسية بجلها في عملية سياسية دائمة مفتاحها الثقة بفاعلية النظام وقدرته على التجدد. إذا ما غادرنا العالم الديمقراطي المتقدم إلى عوالمنا التي ما زالت تزدهر بها فرضيات الحق الإلهي والمعصومية وتكفير الانتخابات، فان الانتقال نحو نظام تعددي ديمقراطي يصحبه قدر عال من فقدان الثقة بكفاءة النظام أو من التشكيك بفاعليته أو شرعيته وفق مقولات يتم اجترارها في أدبياتنا السياسية من قبيل لا ديمقراطية في ظل الاحتلال، وكأن الديمقراطية كانت موجودة قبل الاحتلال أو أنها قابلة للحياة بعد رحيله. وعادة ما تعبر حالة غياب الثقة عن شروخ اجتماعية متجذرة، فضلا عن بناء نفسي يميل إلى التشكك والخوف وافتراض الأسوأ، وليس ذلك بغريب على مجتمعات عاشت لسنوات طويلة في ظل حروب خارجية أو داخلية جعلت حياة الإنسان على المحك دائما كما هو الحال في العراق ولبنان وأفغانستان والأراضي الفلسطينية. وبالطبع تتجسد الشروخ والأمراض الاجتماعية في الطبقة السياسية التي تجعلها حالة عدم الثقة ميالة إلى التشكيك الذي نجده في أبسط الأمثلة بعد كل انتخابات، حيث ينبري الخاسرون (وأحيانا بعض الرابحين) إلى التشكيك بنزاهة التصويت، وهي تهمة تكاد تسمعها من جميع الفرقاء كما يحصل في أفغانستان وإيران وكما حصل وسيحصل في العراق، وهناك سببان لذلك: الأول أن ثقافة الديمقراطية غير متجذرة لدى جميع الأحزاب تقريبا، وهي إما أحزاب عشائرية أو عائلية أو ميليشيوية أو متمحورة حول نفوذ شخص واحد تزول بزواله، وليس لدى أي منها تنظيم مؤسساتي حقيقي وإدارة ديمقراطية فعلية، ولذلك فإن تنافسها يحصل في إطار «ديمقراطية بدون ديمقراطيين»، وهي جميعا وبسبب من هذه التكوين والتراث مستعدة لتزوير الانتخابات متى ما أتيحت لها الفرصة لذلك، وهي تسارع إلى اتهام الطرف الآخر بالتزوير لأنها تعتبر الأمر طبيعيا وتحصيل حاصل، وقد أسر لي صديق في مفوضية الانتخابات العراقية السابقة بأن بعض الأحزاب التي جيشت الجيوش ونظمت مظاهرات كبرى بعد الانتخابات الأخيرة ضد التزوير، كانت من بين أكبر المتورطين فيه!!. ثانيا، أن التزوير يحصل فعلا في بلدان لم تعهد اللعبة الانتخابية كوسيلة لبلوغ السلطة، وأن أحدا من المتنافسين أو المنظمين أو المشرفين على الانتخابات لا يتمتع بالأهلية والنزاهة، وهذا يعني أنها أزمة المجتمع بأكمله قبل أن تكون أزمة الطبقة السياسية التي انحدرت منه، وإذا كان الحال أن أحدا لا يثق بالآخر ولا يثق بأي جهة وطنية لإدارة الانتخابات، كما لا يثق بإشراف أجنبي قد يتهم بامتلاك أجندة منحازة، فهل يبقى لتشدقاتنا القديمة بأننا شعوب حضارات وتاريخ علمت البشرية وألهمتها من قيمة غير أنها استمراء للكذب على الذات وتعبير عن النفاق الاجتماعي المتجذر؟ اليوم نسمع بالعراق مثلا أصواتا في مجلس النواب تشكك بنزاهة مفوضية الانتخابات وحياديتها وتدعو إلى تشكيل لجنة لمراقبتها، وليس ذلك سوى انعكاس لمستوى عدم الثقة المستمكن داخل الطبقة السياسية إذا علمنا أن هذا البرلمان نفسه وعبر توافق (وربما تصافق) جميع كتله السياسية هو الذي اختار أعضاء المفوضية الحالية، ولم تنفع دعواتنا بإشراك الأمم المتحدة في عملية الاختيار تجنبا لمثل هذا الطعن في المستقبل، والغريب أن هذا التشكيك يأتي من معظم الكتل المتصارعة التي كانت قد شكلت هذه المفوضية بالتصويت البرلماني، ومعنى ذلك أن مستوى غياب الثقة وصل إلى حد التشكيك بالذات وليس بالخصم فقط، فالبرلمان يشكك باختياراته وأسس هذا الاختيار، وإذا ما تم تشكيل لجنة جديدة عبر ذات البرلمان ووفق نفس التوافقات ما الذي سيمنع من التشكيك لاحقا بنزاهتها ثم الدعوة لتشكيل لجنة أخرى لمراقبتها؟! ومن الآن يمكن أن نتوقع تشكيكا بنتائج الانتخابات المقبلة من قبل من لن ترضيه هذه النتائج، ولكن ليس في الأفق أي بحث جدي بإمكانية بناء آلية تحظى بثقة الجميع، لأن الثقة ليست قيمة فاعلة في سوقنا السياسي. إن دائرة العبث تلك ستظل تنتج الكثير من المفارقات طالما يسود الشك وتغيب الثقة بشكل يفيض عن قدرة النظام السياسي على التحمل، لأنه هو نفسه في موضع التشكيك من خارجه ومن داخله كما كل مؤسساته وآلياته وقواعده. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ د. جابر حبيب جابر
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|