يؤدي الحيز المتاح للقاص في القصة القصيرة جدا الى أن تتخذ اللغة أشكالا جديدة وغير معتادة، ففي ق.ق.ج تكون اللغة كالأوكسجين المضغوط في القناني الفولاذية، حيث يتغير سلوكه وشكله. نحاول هنا أن نتخذ من (الموجة) نموذجا تطبيقيا لرصد سلوك اللغة في ق.ق.ج، و(الموجة) قصة قصيرة للقاص العراقي (فرج ياسين) في مجموعته (رماد الأقاويل) المنشورة عام 2007، فقد اعتاد القاص أن يختم كل مجموعة قصصية له بقصة قصيرة جدا، وهذا نص الموجة: (( بنى الصبي قصره على الشاطئ ، جمع العيدان والقش من خريط الأغصان المتناثرة تحت شجيرات الطرفاء ، واحضر الغضار الصلب الدبق من فوهات جحور اليرابيع ، حيث كانت قد قذفته بأرجلها الدقيقة ، ثم أتى بالأعمدة والجسور التي نصبها تحت سقوف الحجرات والمجازات والأبهاء ، من صراة الخليج الراكدة . لقد استل القصب من بين أقدام الضفادع العائمة في الماء ، وقام بتهشيمها ألواحاً ، وانفه يقطر عرقاً . أفلح الصبي في بناء قصره ذاك ، بعد أن سلخ في بنائه ساعات طويلة ، أي فرح كان سيغمر قلبه لو لم تأت تلك الموجة وتمحوه ؟)) تقوم الفلسفة التقنية لدينامية ق.ق.ج ، حسب ما نرى، على إحداث تراكم ملحوظ لحركة لغوية تؤدي منطقيا الى نتيجة متوقعة، لكن هذا التوقع يصطدم بجملة النهاية التي تغير اتجاه المركم، ليشير إلى نتيجة بعيدة تماما عن التوقع الأول. وفي هذه القصة يتمثل المركم في جمل بناء البيت: بنى الصبي قصره على الشاطئ جمع العيدان والقش احضر الغضار الصلب الدبق أتى بالأعمدة والجسور ................. أفلح الصبي في بناء قصره ذاك ونظن أن الجملة الأولى في المركم زائدة، ولو لم تكن موجودة لكانت القصة أجمل، فقد أظهر فيها القاص القصر قبل أن يتم بناءه. ويمكن أن نلاحظ هنا أن جميع جمل بناء القصر جمل فعلية متوازية في التركيب النحوي: فعل ماض+فاعل+مفعول به والحقيقة أن تراكم الأفعال سمة مميزة للغة ق.ق.ج، فقصة (الموجة) تتكون من 97 كلمة فيها 16 فعلا، أي بنسبة 17% وهذه نسبة كبيرة مقارنة باللغة الطبيعية. وكل هذه الأفعال المتراكمة تؤدي الى توقع نتيجة واحدة، اكتمال بناء قصر عجيب، قد يحدث داخله حدث ما، فكل جملة فعلية تضيف قطعة أخرى من قطع بناء القصر، ومن المهم أن نلاحظ إصرار القاص على ذكر مصدر المادة (خريط الأشجار، فوهات جحور اليرابيع، أقدام الضفادع....)، لكن هذه الوظيفة تتغير عند جملة النهاية لتكتسب دلالة جديدة لم يكن من الممكن الإحساس بها قبل إنهاء القراءة، كما سنرى. أفعال البناء التي استخدمها القاص هي (بنى، جمع، أحضر، أتى بـ ، نصبها، استل، قام، أفلح، سلخ) وكلها أفعال تدلّ على ضم الأشياء إلى بعضها، حتى نصل إلى الفعل قبل الأخير (أفلح) الذي يدل على تمام التراكم، وهنا يأتي الفعل الأخير من أفعال جمل البناء ليكسر النسق، فالفعل (سلخ)، على الضد من كل الأفعال السابقة يدل على تفريق الأشياء لا ضمها. وهو يهذا يمهد للتغير الجذري الذي ستحدثه جملة النهاية. يعتمد فرج ياسين على البناء الصوتي، بوصفه تقنية من تقنيات بناء المستوى الشعوري، ويمكن أن نلاحظ هنا الالحاح في تكرار صوتين، هما الصوتان الأولان من الكلمتين (بنى قصره) الواردتين في الجملة الأولى. وهما (الباء والقاف)، حيث يمكن ملاحظة تكرارهما اللافت، فثمة ثمانية عشر باء، وستة عشر قافا، جاءت بتشكيلة إيقاعية واضحة، حيث وردت بهذا التناوب: ب ب ق ق ب ب ق ب ق ق ب ق ق ب ب ق ب ق ق ب ب ق ق ب ق ق ب ب ق ب ب ق ب ومن الواضح أن هذه المتتالية تظهر الحرص على تناوب أزواج من كل من الصوتين ما أمكن ذلك، لتكون صورة مكررة لكلمتي الجملة الأولى (بنى قصره). هذا يعني أن المركم الذي أشرنا اليه، لا يراكم الأفعال حسب، بل ثمة تراكم صوتي أيضا يساند السلسلة الفعلية المتراكمة ويؤازرها في بناء التوقع. ويمكن أن نلاحظ كيف اكتسبت البيئة دورا فاعلا، فالمحيط الذي وصفته جمل بناء القصر، لم يوصف لمحض رسم المشهد القصصي، بل إن البيئة ذاتها كانت موجودة لتكون عنصرا مهما في عملية البناء، فالأحجار والطين والضفادع واليرابيع وغيرها كلها كانت موجودة ليكون لها وظيفة محددة بدقة في عملية البناء، إذ تحولت الى أعمدة وجسور ومجازات وأبهاء. ثمة سمات عديدة تغيرت في سلوك اللغة في جملة النهاية، وهي السمات التي أعطتها القدرة على إجراء عملية تحويل دلالي على كل الجمل السابقة، يمكن إجمالها بالآتي: 1- كل الجمل فعلية الا جملة النهاية فهي إسمية. 2- كل الجمل خبرية إلا جملة النهاية فهي جملة طلبية (استفهام). 3- كل الجمل بنيت على فعل ماض الا جملة النهاية التي بنيت على فعل مستقبل غير متحقق (سيغمر).
وتكتسب الجملة الشرطية في النهاية أهمية كبيرة تتضح لو أعدنا كتابة جملة النهاية بالصيغة القياسية لجملة الشرط: لو لم تأت تلك الموجة وتمحوه، أي فرح كان سيغمر قلبه؟ فالفعل (سيغمر) لم يتحقق ليس لأنه بصيغة المستقبل فحسب، بل لقد أمعن القاص في إبعاد إمكانية تحققه بوضعه في جواب شرط (لم) التي يمتنع تحقق جوابها لامتناع تحقق شرطها. ويمكن أن نلاحظ أيضا أن الجملة المنفية الوحيدة في القصة هي (لم تأت تلك الموجة وتمحوه) فهذا حدث لم يكن مرغوبا فيه، غير أن نفيه ملغى بـ(لو) إذ وقعت الجملة في شرطها لينقلب النفي إثباتا (مجزوما) بصحته. جمل البناء عند القراءة الأولى توحي بنشاط الصبي وحركته وسعادته بالعمل على تشييد هذا القصر، ويبدو أن هذه هي وظيفتها الدلالية، غير أن جملة النهاية تقلب الموازين وتجعل القارئ يغير رأيه وانطباعه، فبدلا من مشاركة الصبي سعادته تتحول دلالة جمل البناء الى تصوير جهد مضنٍ استلزم مدة طويلة من الزمن بطرفة عين. وقد كان للفعل (سلخ)- بما يعبر عنه من دلالة الفصل بين الأشياء وتفريقها وارتباطه في الوعي العربي بسلخ الذبيحة، بما في ذلك من قسوة- دور بارز في تهيئة مجرى الأحداث الى الانقلاب الكلي، وهكذا يمكن أن نتصور أن الفعل (أفلح) يمثل أعلى نقطة في خط متصاعد رسمته أفعال البناء، وأن الفعل (سلخ) يمثل لحظة انحدار رأسي للخط باتجاه القاعدة التي انطلق منها. |