إذا كانت قلوب وعقول نساء العراق مع العراق أينما كنّ، فالعراق بخير مهما كان. وكيف لا يكون البلد بخيرٍ وبين نسائه من تُحوِّل الفجيعة الشخصية والعامة إلى "أوديسة" الطبخ العالمي؟ هذا الوصف أطلقه الكاتب الأميركي "رالف بلومنثال" على كتاب الباحثة العراقية نوال نصرالله "لذائذ من جنائن عدن"Delights From the Garden of Eden. وإذا كان الكتاب الذي يقع في 650 صفحة من القطع الكبير يستحق المقارنة بالملحمة الإغريقية، فإن ظروف تأليفه، وحياة مؤلفته يمكن أن تقارن بملحمة "كلكامش" العراقية.
نتعرف على ملامح هذه الحياة في مقالة بلومنثال في صحيفة "نيويورك تايمز"، حيث يروي كيف تركت نوال نصر الله عملها كمدرسة أدب إنكليزي في جامعة بغداد، وغادرت العراق مع أطفالها الثلاثة للالتحاق بزوجها الذي كان يدرس الدكتوراه في جامعة "إنديانا" بالولايات المتحدة. ولمواجهة نفقات عيش الأسرة، اضطُرت نوال إلى العمل في مهن لا علاقة لها باختصاصها، مثل كي الملابس في حانوت خياطة، ورئيسة طباخين في مطعم. وأدى نحولها وإجهادها الشديدين إلى الإصابة بسرطان الثدي عام 1994، وبعد ذلك بسنتين توفي ابنها بلال، ذو الثلاثة عشر ربيعاً بعد نزيف في الدماغ شخصّه الأطباء الأميركيون خطأ كداء الشقيقة.
والعراقيات لا تأكلهن الأحزان، بل يأكلنها. وهذه ملحمة ست سنوات قضتها نوال نصرالله في تأليف الكتاب. لكن من ينشر كتاباً عن المطبخ العراقي عندما كانت دور النشر تتسابق في الحصول على حصتها من ملايين الدولارات المخصصة للترويج لكذبة "أسلحة الدمار الشامل"؟ اضطرت المؤلفة لطبعه على نفقتها. وكانت أول جائزة يفوز بها الكتاب هي جائزة المؤلفين، الذين يطبعون على نفقتهم الخاصة. وفي العام الماضي فازت عن ترجمة وتحقيق كتاب "الطبيخ" لابن سيار الورّاق بأرفع جائزة عالمية في نشر كتب الطبخ والغذاء Gourmand World Cookbook Awards.
والطعام العراقي بلسم عمره أكثر من خمسة آلاف عام. ماذا نختار في العيد من 400 وصفة طعام يضمها الكتاب؟ هل نختار مرقة "السُمّاقيات"، التي تتكون من قطع لحم غنم مكتنزة منقوعة بعصير "السُماق"، وكانت الطبخة المفضلة لدى هارون الرشيد، وتحمل اسمه "هارونيات"؟.. أم مرقة "سكباج"، ملكة الأكلات كما يصفها في القرن العاشر الميلادي ابن سيّار الوراق؟ تُصنعُ الأكلة من لحم مطبوخ بمرق مثّخنٍ باللوز المطحون، ويسميه الأكديون "لوزو"، ومُطّيب بالخل والعسل والتوابل. أو نختار "فطيرة" طير الدراج التي كان البابليون قبل ثلاثة آلاف عام، يصنعونها من طبقات عدة من عجين، وثريد، ومخيض منقوع الشعير، وكراث وثوم وعسل وزبدة. توضع الطبخة في وعاء فخاري داخل التنور، وهي من أصناف "التنوريات" كما كان يسميها البابليون. ومن لا يشتهي في العيد أنواع المرق، التي تحمل اسم الخليفة المأمون "المأمونيات" أو اسم بوران زوجته "البورانيات"، أو طبخة "الرُّمانية" أو "الليمونية"... وكلها مذكورة باسمائها العربية في أول كتاب إيطالي صدر عن الطبخ في القرن الخامس عشر؟!
والطعام العراقي ليس وصفات فحسب، بل قصائد، وحكايات، وأمثال، ووصايا صحية. نصيحة الفرنسيين، "أكل الجبن بعد طعام ثقيل يساعد على الهضم"، يعرفها البغداديون في القرن العاشر الميلادي، وقد سبقوهم بأكثر من عشرة قرون في تقديم صحون عدة لإطالة وقت الطعام، حسب نصيحة الحسن بن علي بن أبي طالب "أطيلوا الجلوس على الموائد وأكثروا من الحديث، فإنها أوقات الفراغ من أعماركم". هذه العبارة تزين كعب غلاف الكتاب، وقد رسمها بخط "الطُرة" الكوفي زوج المؤلفة الدكتور شاكر مصطفى، الفنان في الخط، وأستاذ الأدب في "جامعة بوسطن".
و"الدردشة" حول المائدة من أفضل مشهيات الطعام. وما أشهى دردشة المؤلفة، والتي تشرح بالتفصيل، كأي ربة منزل عربية، وصفات الطعام، مكوناتها ومقاديرها وموادها، وطريقة حفظها أو خزنها، على طريقة البابليين قبل ثلاثة آلاف عام، أو البغداديين في القرن العاشر الميلادي. تتحدث على سبيل المثال عن النعناع، واسمه الأكدي "نينو"، وتشير إلى أنواع مختلفة منه، كالريحان، و"البطنج" الذي يجففه العراقيون وينثرونه فوق صحن الباقلاء (الفول) المسلوقة. وتروي كيف عثرت على "البطنج" في جداول مائية في الولايات المتحدة ، وترّجح أن يكون هذا هو السبب في اعتباره "نعناعا نهريا". ولعل طعمه الحاد يفسر النصيحة الشعبية في العراق بزرع "البطنج" أمام المنزل لطرد الحية، والمثل الشعبي يصف شخصين ينفر أحدهما من الآخر تلقائياً: "حيّه وبطنج"!
وتتسلل الحكايات والنوادر حتى إلى معجم المصطلحات في نهاية الكتاب، والذي يستشهد عند الحديث عن خلطة توابل "البهارات" بوصف المؤرخ الإغريقي هيرودوس العراق: "البلد كله يفوح برائحتها، ويضوع بعطرها الحلو الرائع". وتستدرك الباحثة: "إنك إذا تمشيت اليوم في سوق الشورجة المكتظ في بغداد قد تفعمك شذا الروائح نفسها التي شمّها هيرودوس قبل نحو 2500 عام. إنها شذا خلطة البهارات التي تتكون من الهيل، والقرفة، التي يسميها العراقيون (دارسين)، وماء الورد، والمستكي، وهذه بعض مكوناتها فقط".
وقبل هيرودوس بألفي عام، دعا ملك بابل "قداسمان إنليل" فرعون مصر "أخناتون أمنحوتب الرابع" لحضور وليمة خاصة بمناسبة بناء قصره الجديد. ويمكن تصور المستوى "الإمبراطوري" للوليمة من رقعة الدعوة، التي تذكر: "تعال بنفسك للأكل والشراب معي وعدد المدعوين خمسا وعشرين امرأة وخمسة وعشرين رجلا"!
وملكة "الدرشة" عن الطعام، وبلا منازع، هي شهرزاد، بطلة "ألف ليلة وليلة". ماذا نختار من حكاياتها التي تطرز بها الباحثة كتابها؟ تسحرني قصة الوليمة الوهمية التي دعا إليها خدمُ ثريٍ بغدادي نجاراً صادف مروره أمام المنزل. انضم النجار للمائدة مستبشراً لكنه وجد الضيوف يتناولون بشهية بالغة أنواع شراب وطعام وهمية في صحون خالية، ويتمطقون بها ويقرعون الكؤوس الفارغة. نفد صبر النجار، وأصابه الطعام الوهمي بدوار الجوع الشديد، فأسرع خارجاً، وفي طريقه لطم صاحب الدعوة على قفاه، ولما احتج على فعلته، اعتذر النجار: "اللوم على نبيذك الذي أسكرني"!
ونوال نصرالله نفسها شهرزاد، وهذا هو سحر الكتاب الذي يستهل بمشاهد من لهوها وهي طفلة مع أترابها في شارع بغدادي صغير، تظلله أشجار الكالبتوس. وعندما يحل وقت الظهيرة يتسابق الأطفال في حزر روائح الطعام المنبعثة من البيوت. وغالباً ما يحمل أطفال البيت الذي تنبعث منه رائحة طبخة زكية صحوناً من طبيخهم إلى الجيران، على عادة البغداديين في تبادل الطعام.
العراقيات لا تأكلهن الأحزان، بل يأكلنها، يصنعن منها "بوارد" و"نواشف" و"كوامخ" و"صبغات" و"مخللات" و"مفتوتات"، و"مزّات"، أي ما نتمزمز به، و"مزوّرات"، وهي أطعمة يعتبرها العراقيون مزوّرة لأنها تحتوي على خضروات وأعشاب فقط، من دون لحوم، وهذه كلها أسماء "مُشهيات"، أو "مُقبلات"، أو "نُقول"، كما كان يدعوها العراقيون في القرون الوسطى، أي صحون يُتنقل بينها، ومنها صحن "ربيذة" ويتكون من أسماك صغيرة مخللة، أو جراد مُخلل، يُنقع وهو حي بماء الملح والتوابل، ويُحفظ في وعاء فخاري مختوم بالطين، لحين الأكل! |