سنبدأ من الحدث الأخير، تتعرض اليوم إلى حملة من أحد الأحزاب في العراق. هل بدأت حملة التعرض للكتاب والمثقفين؟ كيف تنظر إلى الأمر؟
-الحملة على المثقفين وأصحاب الرأي بدأت قبل هذه الحادثة، لكنها هذه المرة أشدّ وأكثر وضوحا؛ فلم يسبق أن عمد رجل دين إلى تهديد أحد المثقفين من على منبر الجمعة، ولهذا كان الأمر مختلفا معي. بدأت الحكاية بعد نشري عمودا في جريدة «الصباح» التي أعمل فيها سكرتير تحرير، تحدثت فيه عن جريمة سرقة مصرف «الزويّة»، أشرت فيه إلى أن جهة سياسية ما هي التي كانت وراء هذه الجريمة، لم يكن هذا استنتاجا مني، كنت أستند الى تصريح وزير الداخلية الذي اتهم هذه الجهة بعينها. في يوم نشر العمود قامت القيامة، اتصل مسؤولون كبار بالجريدة أذكر منهم عمار الحكيم وعادل عبد المهدي «نائب رئيس الجمهورية» ثم بعد الضغوطات التي تعرضت لها الجريدة، تقرر إعفائي من منصبي، لكن اتصالا من رئيس الوزراء ومن نائب رئيس الجمهورية أعادني إلى عملي السابق بعد أن رأى السياسيون ردة فعل الوسط الثقافي والإعلامي المساندة لي بقوة.
أعتقد أن أحداث الشهر الفائت ستكون منعطفا لجهة علاقة جديدة للسياسي مع المثقف. أصبح للمثقف صوت أوضح وقدر وافر من الحرية وامتلاك الصوت النقدي.
تقصد بالصوت الأوضح، التظاهرات والدعم التي وقفت إلى جانبك ونددت بتصرفات رجال الدين والسياسة؟ قد تكون ثمة مفارقة، فمن جهة لا تزال عملية الحكم وكأنها ترث – بمعنى من المعاني – الكثير من النظام السابق، ومن ناحية ثانية، ثمة تحرك مدني، يحاول أن يغير وأن يعبر على الأرض، كيف تجد ذلك؟
- صحيح. هناك إرهاصات بعودة نفس ممارسات النظام السابق وتعامله مع الثقافة، أذكر على سبيل المثال مشروع قرار بفرض الرقابة على الكتب، وآخر يدعو إلى فرض الرقابة على مواقع الانترنت ولهذا كان الجو الثقافي معبأ ضد ما يلوح في الأفق من بوادر تعيد ذكرى العسف البائد.
ليست التظاهرات المؤيدة لي وحسب، بل ثمة أمر آخر أكثر أهمية وهو اجتراء المثقفين على نقد الأحزاب الإسلامية، هذه الأحزاب التي هي في الأساس ميليشيا تحولت بعد التغيير إلى ديكور حزب سياسي يتبطن قوة الميليشيا، قوة عضلية لا تتردد في تصفية من يخالفها. اليوم بات انتقادها علنيا في الصحف ومواقع الانترنت.
هذا ما قصدته بصوت المثقفين الواضح، وهو صوت من شأنه أن يسبب الرعب لهذه الميليشيات التي تتهيأ لانتخابات تشريعية قادمة يريدونها تكرارا للتجربة الانتخابية السابقة التي لم يجن العراقيون منها سوى الدم والوعود.
لا بد لكل ذلك أن يطرح أمرا أساسيا حول العراق الذي يتشكل اليوم، أي وكأنه مرّ من نظام إيديولوجي شمولي، عسكري إلى نظام شمولي آخر، لكن بأدوات قد تبدو مختلفة.
- هذا صحيح؛ الحاكم اليوم بقواه المهيمنة لا يمثل مؤسسة، الدولة لا حول لها ولا قوة، هناك فقط تلك الأحزاب المسلحة التي باتت تفرض وصايتها على الجميع: توزع أوراقا تهدد فيها النساء غير المحجبات في مدينة الصدر مثلا، أو تعاقب النساء اللواتي يقدن السيارات في مدينة الدورة، تحاكم المثقفين وترسل لهم قرارات إعدامهم عبر البريد الالكتروني. هذه القوى الارتكاسية أكثر تأثيرا من الدولة، وهي تعمل على تهميش مؤسسات الدولة وجعلها تابعة لها. لهذا أظن أنك على حق: لقد انتقلنا من دكتاتورية الفرد إلى دكتاتورية العقيدة.
الدولة حلم إذاً، لم يتحقق بعد، وبين ذلك كله، أين تقف الثقافة كفعل مدني؟ هل تستطيع مواجهة ذلك كله؟
الدولة العراقية تأسست بغياب عنصرين رئيسيين: المرأة والمثقف؛ قامت الدولة بغيابهما، خيضت الحروب والانقلابات بغيابهما ثم تحطمت هذه الدولة عام 2003 وهما غائبان، وبعد أن أعيد تأسيسها ظلت المرأة والمثقف غائبين أيضا. ويبدو أن الحكومات المتعاقبة تستمرئ هذا الغياب، لأنها تخاف من صوت المثقف المسبب للصداع وتتقذر من صوت المرأة «العورة».
هذه محنتنا، نعم قدر العراق أن يظل حلما؛ نتطلع إليه حلما ونحياه كابوسا. المثقف العراقي جريء وشجاع لكنه يفتقد روح المبادرة؛ هو بانتظار من يفتح له الباب للمشاركة، أنت تعرف أننا في الشرق عموما لا يمكن أن نقوم بمبادرة ما لم تصاحبها مغامرة ما، شيء أشبه ما يكون بالفعل الاستشهادي الذي يحرض الآخرين.
أهجس الآن أن الحراك الثقافي أنتج وعيا ناضجا لدى النخبة ووضع السياسيين أمام واجبهم في عدم إدامة غياب المثقف عن الدولة.
ولكن هذا الحراك بحاجة إلى وقت لكي يتبلور. في أي حال، في انخراطك بالكتابة اليومية السياسية يبدو كأنك تريد إعادة التفكير بصورة المثقف حاليا؟
بالتأكيد. إنها محاولة لإعادة التفكير بالمسلّمات الأخلاقية للمثقف إذا جاز التعبير؛ وأجد من الضروري أن يكون المثقف ذا ضمير مثقل بالواجب، واجب أن لا يغمض عينيه عما يحدث، واجب أن يكون طاردا للنسيان، أؤمن بالمقولة المشهورة: إن من ينسى محكوم بتكرار الفشل. العراقيون شعب نسّاء، ننسى سريعا الكوارث التي مرقت من أمام أنوفنا بانتظار كارثة جديدة، اشتغالي، ومعي نخبة فريدة من مثقفي العراق، يطمح أن نكسر المقولة الهزيلة الواهمة التي تنص على أن المثقف ضمير شعبه، وإحلال مقولة أخرى أشد عمقا وفاعلية مؤداها أن المثقف ليس ضميرا بل تأنيب ضمير.
لا «يؤنبك ضميرك» إذاً بالعودة إلى العراق الذي غادرته العام 1989. في أي حال، أين مشروعك الشعري في ذلك كله، فأنت شاعر قبل أي شيء آخر؟
- ربما يؤنبني ضميري لأني غادرت العراق أصلا، عزائي أني كنت، مثلي مثل كل من غادر، مضطرا إلى ذلك. قبل مغادرتي العراق لم تكن تجربتي الشعرية واضحة المعالم، نشرت أربعة نصوص فقط كتب عنها نقاد مرموقون كفاضل تامر وحاتم الصكر وياسين النصير، لكن هذه التجربة بدأت معالمها بالظهور خارج العراق، في سوريا تحديدا ثم في مهجري في كندا، أصدرت ثلاثة كتب، توجز التحولات في مسيرتي الشعرية التي بدأت كأغلب التجارب، غنائية وفيها فائض من الطاقة الإنشادية وانتهت إلى كتابة نصوص تستثمر السرد والقص والحكي في مصهر واحد قد يسميه البعض نصا مفتوحا وهي تسمية باتت شائعة للدلالة على كتابة لم تحظ بعد باسم يصلح لأن يكون اسم نوع كتابي مميز. الشعر، وشعري أنا يدور في أبهاء برزخ لم يسمّ بعد.
بهذا المعنى، ألم يلعب المكان الآخر أي دور في تشكيل كتاباتك؟ لا أريد أن أتحدث عن كتابة الداخل والخارج، لكن لو حاولنا طرح السؤال بشكل آخر، هل تنتمي إلى جيل شعري عراقي محدد، أم أن الأفق عندك كان أوسع؟
- تاريخيا، وبحسب التحقيب المتعارف عليه في العراق، فأنا أنتمي لجيل الثمانينيات، الذي يضم أسماء شعرية مهمة: باسم المرعبي، محمد مظلوم، خالد جابر يوسف، محمد النصار، نصيف الناصري وسواهم، كنت الأصغر سنا بينهم، وحرصت على أن أتحرر من القيم الكتابية التي كانت مهيمنة آنذاك، كانت الكتابة الملحمية هي السائدة، والنصوص جهدا لفظيا محموما، كأنما الشاعر كان يطمح إلى إفراغ القاموس كاملا على الورقة، يريد أن يقول كل شيء دون أن يقول شيئا في الحقيقة، كتابة تتشبه بالصمت، وربما بسبب الخوف من السلطة آنذاك، رولان بارت قال إن السلطة تخشى من الصمت خشيتها من الكلام الناقد، وربما كانت استراتيجية الشاعر العراقي وقتها هي هذه: عدم الصمت لكن عدم الكلام أيضا من خلال إنشاء نصوص هي والصمت سواء.
أزعم أني كنت أحاول مغايرة هذا الجو السائد، نشرت في العام 1986 نصا بعنوان «الهواء الأخير»، كان فيه وضوح المقاصد والتوفير في القول بما يخالف الشعر الثمانيني الذي كان سائدا.
تجربة المنفى أضافت لي حرية إعادة التفكير في المنجز الشعري العراقي، أولا، واستجماع تجارب ثقافية وحياتية لم تكن ممكنة هناك، في بلدي.
«عقائد موجعة» أول كتاب يصدر لك في العراق ويضم مختارات شعرية لك (1983 – 2003) أولا، ماذا يعني لك هذا الإصدار، ولمَ هو مختارات؟
- أردت أن يكون أول كتاب شعري لي يصدر في العراق عبارة عن مختارات لأن غيابي الطويل عن العراق جعلني شبه مجهول من قبل الوسط الثقافي العراقي خصوصا لدى الجيل الجديد، فوجئت أن أغلب مثقفي العراق يعرفونني كاتب عمود سياسي ويجهلونني شاعرا.
لهذا رأيت أن من الأنسب أن أوجز تجربتي الشعرية في كتاب يصلح أن يكون تعريفا لي بوصفي شاعرا.
«عقائد موجعة» أردته بحثا «شعريا» في العناصر المحرضة على عنف مادي ورمزي وهي عناصر مردودة إلى العقيدة، هذه العقيدة حاضرة في الكتاب. إنه هجاء متصل للعقائد التي أوصلتنا إلى التلف.
أتساءل أحيانا هل يمكن لشعرنا أن يعرف علينا؟
هل الشعر دالّ على شاعره؟ أنا في شك من هذا، لكن صورتنا التي تصل أخيرا هي نتاج هذه المفارقة: إن لا شيء يدل حقيقة على الإنسان. يبدو أن كلام المتصوفة القدامى الناصّ على أن الحرف تحريف، كلام دقيق. نحن في تحريف مستمر لذواتنا. هذا ما تتيحه اللغة، وهذا هو الجرح السري في كل كتابة، وكتابة الشعر تحديدا.
هذا «التحريف» الصوفي، عاد الشاعر الفرنسي هنري ميشو ليقول إنه خيانة، إذ رغبتنا الأصلية تكمن في أن لا نترك أثرا خلفنا لكن ما نفعله هو عكس ذلك؟ أي الخيانات أحبّ؟
- نعم، هذه عبارة عميقة، أؤمن أن الكون في تمام الكمال من التناغم والتطابق مع ذاته، وحده الإنسان يمثل ثغرة وجودية يطل منها العدم والنقص على هذا العالم. أجمل ما يمكن فعله هو ترك هذا التناغم ليلعب لعبته دون تدخل منا. لكن من يجرؤ على ذلك؟ أنانية عميقة تحرضنا على أن نترك بصمتنا على كل شيء، نحن أسرى أنانية حمقاء تملي علينا إعادة استنساخ كلكامش الذي لا يريد أن يموت حتى لو أدى به الأمر إلى أن يكون هو الثغرة التي يطل منها الموت إلى العالم.