عن نقاش : المزارعون ومربو الماشية في شط العرب يندبون حظّهم في هذه الأيام، فعلاوة عن الأزمات اليومية التي اعتادوا مكابدتها، من نقص في الكهرباء والخدمات والمعدات الزراعية والأعلاف، جاء انخفاض منسوب المياه في شط العرب ليجهز على ما تبقى من آمالهم.
قبل ثلاثة أشهر، أرسلت بعض المجالس البلدية في قرى قضاء الفاو (90 كلم عن مركز محافظة البصرة) إشارات الخطر الأولى، وأعلنت عن ارتفاع نسبة الملوحة في أنهار القضاء التي تصب في شط العرب نتيجة انخفاض منسوب المياه، وحذرت من تأثر الزراعة، ونفوق الماشية جراء شربها المياه المالحة. لكن "اللسان الملحي" امتد أخيرا ليصل حتى إلى منطقة العشار قرب مركز محافظة.
مدير زراعة البصرة عامر سلمان صرّح أن دائرته على وشك إعلان البصرة "منطقة منكوبة" في مجال المياه لأن "نسب الملوحة بلغت وضعا يجعل من المدينة غير قادرة على زراعة أية محاصيل أو تربية اي من الحيوانات"، سيما في مناطق الفاو والسيبة وابي الخصيب جنوب شرق البصرة حيث طغت مياه البحر المالحة على قناة شط العرب بسبب انخفاض مستوى المياه فيها.
مصادر مسؤولة في مجلس المحافظة عزت أسباب انخفاض منسوب المياه في دجلة والفرات إلى "سياسات تركيا وسوريا المائية وعدم توفير حصة العراق المائية المتفق عليها". وأضافت المصادر أن "إقامة السدود داخل محافظات العراق وتحويل الإيرانيين لمجرى نهري الكارون والكرخا اللذين يصبان في شط العرب إلى داخل الأراضي الإيرانية ساهمت هي الأخرى في تفاقم الأزمة".
وأقامت سوريا وتركيا وايران مجموعة من السدود على نهري الفرات ودجلة وروافدهم أدت إلى انخفاض منسوب المياه إلى حدود غير مسبوقة.
ويعد شطّ العرب الممر المائي الستراتيجي الذي يربط العراق بالخليج العربي وهو امتداد لالتقاء نهري دجلة والفرات منطقة القرنة (56 كم شمال البصرة) ويبلغ طول الشطّ 204 كم طولا وعرضه نصف كيلومتر، وتنتشر أعداد كبيرة من أشجار النخيل على ضفافه، ويشكل رافدا اقتصاديا مهما لسكان المنطقة.
ويعتقد متابعون أن ارتفاع نسبة الملوحة الناتجة عن شحة المياه قد تؤدي إلى إتلاف معظم بساتين النخيل في مناطق الفاو وأبي الخصيب، كما ستقضي على معظم مزارع الثروة السمكية. في حين يرى مسؤولون محليون أن انخفاص منسوب المياه ساهم في شلل الحياة الاقتصادية لسكان المنطقة وفي الانقطاع المتواصل في التيار الكهربائي.
وكان مدير محطة النجيبية اكبر محطة لانتاج الكهرباء في الجنوب العراقي قد أعلن أن "انخفاض مناسيب المياه في شط العرب أثر وبشكل سلبي على محطات إنتاج الطاقة الكهربائية في المحافظة وساهم في انقطاع التيار الكهربائي معظم ساعات النهار".
واوضح جمال غلام لوسائل إعلام محلية ان "محطتي النجيبية (جنوب غرب البصرة) والهارثة (شمال البصرة) قد تتعطلان وبشكل نهائي عن العمل بسبب شحة المياه".
وأضاف مدير المحطة ان "انخفاض منسوب المياه ادى الى سحب الاسماك النهرية الصغيرة والنباتات المائية الى فلاتر تبريد المحطة مايتسبب بانسدادها" وأن "موظفي المحطة ينظفون الفلاتر اكثر من مرة في اليوم الامر الذي يعطل محطات توليد الطاقة الكهربائية عن العمل ولساعات طويلة جدا".
وتبدو الحلول والبدائل المقترحة متواضعة اما حجم الأزمة المتوقعة. فقد دعا عميد كلية الهندسة الدكتور صالح اسماعيل نجم إلى وضع "خطة طوارئ" من خلال اعتماد طريقة تحلية المياه على وفق المعايير البحرية. وقال نجم لمراسل نقاش أن "علينا التفكير بطريقة مختلفة كتحلية المياه واستثمار المياه الجوفية لأغراض الزراعة".
أما إدارة محافظة البصرة، فقد بادرت إلى تسيير قوافل حوضيات الماء الحلو إلى مناطق الفاو التي يزيد سكانها على 95 ألفاً، مع إطلاق وعود بإنشاء 10 محطات لتحلية المياه من قبل الحكومة المركزية. غير ان الفلاحين يشيرون إلى عدم كفاية تلك المبادرات.
ويقول كريم حميد الذي يملك ارضا في قضاء الفاو لمراسل "نقاش" أنه يفكر بالهجرة من أراضي القضاء والاتجاه صوب مركز المدينة" ويضيف أن "اكثر من 150 عائلة هاجروا من قضاء الفاو إلى مركز المدينة والبقية يشعرون بالإحباط بينما تغرقنا الحكومة بوعود تحتاج لسنوات كي تتحقق".
وعبّر عدد من الفلاحين التقتهم "نقاش" عن استغرابهم من صمت الجهات الحكومية حيال ما أسموه "التجاوزات الإيرانية" على شط العرب، مشيرين إلى حقوق العراق الشاطئية في الاستفادة من مياه الكارون والأنهار الأخرى النابعة من داخل إيران. وقال كريم حميد: "المشكلة تفاقمت بسبب غلق نهر الكارون وتحويل مجراه من قبل الإيرانيين، واذا بقيت الحكومة مكتوفة اليدين فلا أمل لنا في البقاء في أرضنا".
بينما يتوقع الفلاح احمد عبد الحسن من اهالي الفاو نهاية مأساوية لبساتين القضاء وهلاك أشجار الحناء التي اكتسب قضاء الفاو شهرته منها قائلاً لمراسل "نقاش": "لقد تحملت أشجار الحناء احلك الظروف البيئية لكنها هذه المرة لن تصمد أمام ارتفاع نسبة الملوحة الغير مسبوقة".
وأعرب مدير زراعة البصرة عامر سليمان عن مخاوفه من فشل الموسم الزراعي المقبل في حال استمرار منسوب المياه على وضعه الراهن وارتفاع نسبة الملوحة في شط العرب وقال لمراسل "نقاش" أن "مستقبل الزراعة في البصرة ينذر بالخطر وسيقرأ عليها السلام إذا ما استمرت الأمور بالتدهور".
من جانبه أعلن مدير مياه البصرة عبد المنعم خيون ان "نسبة الملوحة في الأشهر الأخيرة تضاعفت خمس مرات تقريبا" متوقعاً ارتفاع النسبة في الأيام القادمة بسبب الملوحة المتدفقة من مياه الخليج العربي.
وتعقيباً على الموضوع يقول مصدر مسؤول في محطة البراضعية لتنقية الماء التي تغذي مناطق سكنية واسعة من البصرة حبّذ عدم ذكر أسمه إن "نسبة الملوحة التي نرصدها في محطة البراضعية وصلت الى 6015 جزء من المليون (TDS) وهي نسبة خطرة وتنذر بكارثة حقيقية في مياه الشرب" مشيرا إلى أن "النسب السابقة كانت لا تتعدى 1000 جزء من المليون".
وأضاف "أن ارتفاع نسبة الملوحة تسبب بتآكل الفلاتر والمغذيات في محطات الإسالة التي تستلم الماء مباشرة من شط العرب وقد يضطر المواطن البصري قريبا إلى الشرب من مياه البحر".
ولا تقتصر معاناة المزارعين على ارتفاع نسبة الملوحة، فبيئة البصرة عانت أساساً من إهمال وتدهور خطير خلال العشرين عاما الأخيرة جراء الحروب والنزاعات السياسية، وزاد عليها استغلال مهربي الوقود في الأعوام الستة السابقة قناة شط العرب الملاحية في تهريب المتشقات النفطية إلى إيران. وكان من شأن تسرب الوقود وغرق بعض الحمولات المهرّبة إلحاق المزيد من الضرر بالحياة البيئية وانتشار العديد من البقع الزيتية على سطح المياه.
علاوة عن ذلك، ذكر مدير بيئة البصرة طه ياسين القريشي لمراسل "نقاش" أن نسبة 70 % من المجاري الصحية وقنوات تصريف المياه الملوّثة في البصرة تصب في شط العرب. مضيفا أنه وفي الآونة الأخيرة "تقوم بعض المصانع الإيرانية برمي نفاياتها السامة في مياه الشط". |