|
|
كامل شيّاع... المثقّف القتيل يترجّل : قدّاس تجهيزي في ذكرى اغتياله الأولى |
|
|
|
|
تاريخ النشر
03/09/2009 06:00 AM
|
|
|
«قدّاس إلى صديقي كامل» Requiem For My Friend Kamel عنوان يشير إلى خصوصيّة العمل التجهيزي الذي يقدّمه الفنان العراقي عباس الكاظم في الذكرى الأولى لاغتيال الكاتب والباحث والناقد العراقي كامل شياع (1954ــــ 2008). نظرة متفحصة إلى العمل، تكشف عن نظرة مستعادة إلى الحكاية الجارحة القديمة نفسها: «اغتيال المبدع». العنف السياسي في مواجهة المثقف الأعزل إلا من فكره وإنسانيته. النزعة الدمويّة المرعبة إلى إلغاء الآخر، الصراع بين الظلام والتنوير... بين الطغيان والحريّة. لا يتخيّل القتلة أبداً أنّهم يُسبغون على ضحيّتهم إجمالاً نعمة الخلود؟ يوظّف عباس الكاظم في عمله العديد من الرموز التي تأخذنا إلى عمق التاريخ. العنوان الذي تضمّن كلمة «القدّاس» ومفهومها التاريخي منذ قصة العشاء الأخير للمسيح، يمثّل دعوة صريحة إلى الالتقاء مجدداً بالروح التي صعدت إلى السماء، إضافةً إلى الكرسي الذي يظهره العمل حيث المصباح المضيء يستكين إلى سطحه الخشبي الأملس. كرسي يذكّرنا بعمق التاريخ، بتلك الأشكال والنقوش التي ورثناها عن أجدادنا، أبناء الرافدين والنيل. متانة الكرسي المرمري ورسوخه ولونه «العتيق»، يمنح المكان البارد وحشةً مضاعفة. ولو تأملنا تكوينه قليلاً، لوجدناه أقرب إلى شكل قبر تنتصب شاهدته بمحاذاة الجدار الموحش. يقول عباس الكاظم: «عملي صرخة مكبوتة داخلي منذ نصف قرن. حين سمعت بنبأ اغتيال كامل شياع، تساقطت أمامي كنتف الثلج وجوه وأسماء من سبقوه من أهل الفكر ودعاة التنوير ورجالات الفن والثقافة، من فرج فودة وحسين مروة ومحمد باقر الصدر وفرج الله الحلو ومهدي عامل وسمير قصير وجورج حاوي وسلام عادل وغسان كنفاني وقاسم عجام إلى جبران تويني وكمال عدوان وشهدي عطية والقائمة تطول. وهذا العمل ينادي بوقف هذا النزف المفجع الذي يستبدّ بتاريخنا العربي». يحتوي عمل عباس الكاظم على العديد من الرموز التي تأخذنا إلى عمق التاريخ العمل يحوي مصدرين للضوء. الأول آتٍ من المصباح الراقد على الكرسي، والمنفلت عن حامله بفعل «قاتل» ويمثّل الفكر والثقافة والمفاهيم التقدميّة التي كان يحملها الراحل... وكانت السبب المباشر لاغتياله. تلك الأفكار التي طالما قالت بالحوار وتقبل الآخر، بغضّ النظر عن الاختلافات على أنواعها: «كل مَن لا يتمكن من خلع جلده، ولو موقتاً، من أجل أن يرى الآخر الذي هو غريم له في الفكر ومناقض له في التفكير... لا أعتقد أنه جدير بإنسانيّته. الهوية نفسها هي القدرة على الخروج من الذات والاقتراب من الآخر». يستعير عباس الكاظم جملاً وردت على لسان شياع خلال لقاء أجراه الفنان مع الكاتب الراحل في بروكسيل، ويستخدمها مادةً أساسية في بناء عمله. أما المصدر الضوئي الثاني الذي يمثل التأثير الإنساني والفكري الذي تركه شياع في نفوس من عرفوه، فهو ذلك الأزرق المنبعث من الصورة في عمق التكوين. وهي الصورة التي يظهر فيها شياع لحظة اغتياله كما تخيّلها الكاظم: «لحظة الاغتيال، والجلبة التي أحدثها القتلة بحركاتهم الهستيرية، دعت الشهيد إلى التركيز والإمعان. وبحركة كان معتاداً عليها، عمد على تقريب عدسة نظارته كي يرى بوضوح المشهد الأخير من حياته. والحقيقة أنّ هذه الحركة تشبه حالة تمسّك الجندي بسلاحه. هذا المثقف العراقي لا يمتلك سوى نظارته سلاحاً، لذا تراه في حالة استعداد للمواجهة». كان كامل شياع شخصاً عادياً، رغم علمه وتمايزه الفكري والأخلاقي. شهداء الحريّة يشبهوننا، يشبهون الناس العابرين في المشهد اليوميّ. يشبهون الحياة. نلمس في تجهيز عباس الكاظم محاولة لتجسيد ذلك الانتماء إلى الحياة، وتلك الخصوصيّة: كان الراحل لمن يعرفه مؤثراً ومتفرداً بهدوئه وسكينته وعمق تفكيره. شخصيته تركت أثرها على كل مَن عرفها أو قرأها، شخصية تنأى بنفسها عن الشعارات والأحلام البعيدة عن الواقع، فقد كان يرى الواقع كما هو، ويترجم حقيقته: «بغداد التي أحببتها وحلمت بها لعقدين ونصف، لا تبدو لي بغداد التي انتظرتها أو توهّمتها. إنها مدينة أخرى. ربما كان هذا ثمن المنفى، ربما كان هذا ثمن السنوات الطويلة التي قضيناها في الخارج ونحن نتخيل الوطن في ربيع دائم كما يقول نيرودا. لكنّ العودة أظهرت أنّنا إزاء مدينة أخرى، إزاء بشر مختلفين. حين دخلت بغداد وشاهدت بيتاً بغدادياً مبنياً من الطابوق، قلت: هذه هي بغداد، لقد وصلتها. فبغداد ليست المدينة الملأى بالأسلاك الشائكة والحواجز الإسمنتية، المدينة الملأى بالخوف واحتمالات الغارات من كل مكان. إنّ هذا البيت الوديع القديم المتآكل المنخفض، هو بغداد». نقف أمام العمل التجهيزي، ونفكّر أن هذا القالب الفنّي المعاصر يشبه كامل شيّاع كثيراً ويتسع لذكراه... مع انقضاء عام (23 آب/ أغسطس) على تلك الظهيرة البغداديّة المشؤومة التي شهدت وقوعه في كمين مسلّح، على طريق العودة من شارع المتنبّي حيث ذهب لابتياع كتاب... |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ حسين السكاف
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|