بدا واضحا منذ اللحظات الأولى لإعلان حادثة الزوية يوم الثلاثاء 28/7/2009 ، أننا سنكون أمام مشهد يعكس طبيعة الصراعات القائمة في العراق اليوم، تمهيدا للانتخابات القادمة. وبسبب من الأخبار الكثيرة التي نشرت حول الموضوع، نجد من الضروري متابعة الموضوع من خلال المصادر الموثوقة، أي من خلال البيانات الرسمية بشأن الموضوع التي صدرت في موقع مجلس الرئاسة، وموقع رئاسة الوزراء )المركز الوطني للإعلام)، وبيانات وزارة الداخلية، وموقع مجلس القضاء الأعلى، والمؤتمرات الصحفية.لاسيما أن وضع المعلومات تبعا لتسلسلها التاريخي قد يلقي الضوء على طبيعة الخطابات المستخدمة، وما وراءها. فبعد يومين من الحادثة، أي يوم الخميس 30/8، أعلنت وزارة الداخلية أن الشرطة تمكنت من القبض على ثلاثة متهمين واستعادت المبلغ المسروق "خلال عملية قادها وزير الداخلية نفسه". في اليوم التالي 31/8 صرح السيد وزير الداخلية في مؤتمر صحفي بأن ثمة "جهة" لم يسمها تقف وراء الحادثة. وقد كان واضحا من طبيعة المنطقة التي وقع فيها أنه يشير ضمنا إلى جهة محددة وإن لم يسمها. والأهم من ذلك أنه فتح باب التأويلات على مصراعيه. وفي اليوم نفسه صرح مصدر في فوج رئاسة الجمهورية، أن الفوج هو من سلم المعلومات التي أدت إلى إلقاء القبض على أفراد العصابة بعد أن تم تحديد موقعهم عن طرق كاميرات المراقبة الموجودة في المنطقة. وفي اليوم نفسه صدر بيان عن مكتب د. عادل عبد المهدي تحدث عن "تكريم الضباط والمراتب الذين كشفوا ملابسات جريمة سرقة مصرف الرافدين في الزوية". في اليوم التالي 1/8 أكد مدير مركز القيادة الوطني في وزارة الداخلية هذه المعلومات، ولكنه في الوقت نفسه نفى "تورط جهات متنفذة في العملية". وتحدث عن ثلاثة متهمين: نقيب في الفوج الرئاسي، وملازم أول في الجيش، وشخص ثالث أسمه عبد الأمير. من دون أن نعرف هل هؤلاء هم أنفسهم الثلاثة الذين أعلن القبض عليهم يوم 30/9، وإذا كان الأمر كذلك كيف لم تتمكن الوزارة من معرفة الاسم الكامل للشخص الثالث؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك لماذا يتم ذكر أسماء الهاربين دون ذكر أسماء المقبوض عليهم؟ في اليوم التالي صدر بيان آخر عن مكتب د. عبد المهدي، كرر الحديث عن دور المركز الأمني وفوج الرئاسة في الكشف عن العملية، وجاء فيه: " اطمأن الرأي العام بأن الخيوط الأولى التي كشفتها وحداتنا الأمنية في المركز الأمني والفوج الرئاسي ابتداءً قد تعززت بمعلومات إضافية عن كامل الجريمة والمشاركين فيها والتي استكملناها يوم 1 آب 2009 والتي على ضوئها تحركت القوات الأمنية لإتمام كامل المهمة بتنسيق متكامل بين أجهزة الدولة المختلفة". في يوم 3/8 أعلن مدير مركز القيادة الوطني في وزارة الداخلية، أن قواته اعتقلت خمسة من أفراد العصابة التي أقدمت على سرقة مصرف الرافدين فرع الزوية وسط بغداد، فيما بقي اثنان منهم هاربين. في يوم 5/8 صدر بيان عن وزارة الداخلية بين أن د. عبد المهدي هو الذي " أبلغ دولة رئيس الوزراء السيد نوري المالكي بان عصابة من فوج الحماية الخاص بسيادته كانت وراء ارتكاب الجريمة"، وانه أبدى "استعداده التام لاعتقال أفراد العصابة وتسليمهم إلى وزارة الداخلية وإعادة الأموال المسروقة التي في حوزتهم، وعلى ذلك تم الاتفاق مع دولة رئيس الوزراء نوري المالكي". وأضاف البيان أن "رئيس الوزراء كان يجري الاتصالات مع فخامة نائب رئيس الجمهورية و وزير الداخلية ليلة العملية الإجرامية من اجل تسليم المجرمين، وقد تم إلقاء القبض على خمسة من المتورطين في العملية والأموال المسروقة فيما هرب المسؤولان المباشران عن العملية من قبضة العدالة إلى جهات مجهولة خارج العراق". في يوم 6/8 صدر بيان آخر عن مكتب د. عبد المهدي يؤكد على " إن شخصا واحدا فقط (من سارقي مصرف الزوية ببغداد) من مجموع تسعة أشخاص هو من ينتمي إلى فوج الحماية المستقل أما البقية فهم ينتسبون إلى وحدات ومؤسسات أخرى". (موقع رئاسة الجمهورية) في يوم 9/8 صدر بيان عن مكتب د. طارق الهاشمي تحدث عن لقاء بين د.الهاشمي ود. عبد المهدي استعرضا فيه ملف ملابسات قضية مصرف الزوية، وان الهاشمي قال بهذا الشأن إن الحملة الانتخابية المقبلة "ستكون من أشد الحملات إذ بدأت بعملية كسر العظم بين السياسيين." وأعرب عن قلقه من وجود " أجنده سياسية سرية ستعمل على إسقاط الرموز السياسية العراقية". في يوم 10/8 نشر موقع المركز الوطني للإعلام، المرتبط برئاسة الوزراء، نص إجابة السيد رئيس الوزراء على سؤال بشأن حادث الزوية، جاء فيه: "لقد أوضحت وزارة الداخلية حقيقة ما حدث في مصرف الزوية. لم نكن نحابي أحدا. وكان السيد نائب رئيس الجمهورية أخبرني بان من نفذ عملية الاعتداء على المصرف هم مجموعة من فوج الحماية الخاصة. وقال إن المجرمين والأموال تحت اليد فطلبنا منه أن يقوم باعتقالهم وتسليمهم إلى الجهات المختصة. فأعيدت الأموال إلى الدولة لكن الجناة لم يسلموا إلى الأجهزة الأمنية المختصة، فباشرت وزارة الداخلية عملية ملاحقة الجناة وألقت القبض على بعضهم، وهرب آخرون". في اليوم التالي 11/8 صدر بيان عن د. عبد المهدي تحدث عن "تلاعب" محرر الموقع بكلام رئيس الوزراء، وأن هناك "تدخلاً مقصوداً لإعطاء القضية أبعادا غير موجودة فيها ولأغراض لا تحمل سوى الفتنة". ونشر البيان أسماء المتهمين التسعة. وجاء في البيان نفسه أن الفوج الرئاسي المستقل والمركز الأمني هو الذي ألقى القبض "على 3 من المتهمين وهم عبد الأمير لازم وبشير خالد وعلي عودة وسلموا إلى وزارة الداخلية وفر النقيب جعفر"، وأنه هو الذي قام "بإبلاغ الداخلية بأسماء احمد خلف ضمد وعلي عيدان مجيد ومهند عبد الصاحب ومحمد كاصوصة. فألقت الداخلية القبض على اثنين وفر اثنان". وكم ثم أكد البيان على ان "جميع الأسماء أعلاه، سواء من القي القبض عليهم، او من هرب، قد تم الوصول إليهم من قبل الفوج الرئاسي المستقل والمركز الأمني، ومن هذه الجهة فقط". في اليوم التالي 12/8 نقلت صحيفة الشرق الوسط عن مدير المركز الوطني للإعلام نفيه حصول أي تلاعب بكلام السيد رئيس الوزراء، وأن المركز " يتقيد بكلام رئيس الوزراء ولا يمكن تحريفه أو تعديله". في يوم 13/8 نقل موقع رئاسة الجمهورية عن د. عبد المهدي قوله في لقاء جماهيري في بغداد "إن التحقيقات الجنائية أثبتت أن جريمة سرقة مصرف الرافدين في الزوية لم تكن وراءها أي جهة سياسية على العكس مما روج له بعض المسؤولين وبعض وسائل الإعلام". في اليوم نفسه 13/8 صدر بيان صحفي عن مجلس القضاء الأعلى بشأن حادثة الزوية، جاء فيه: " أنجزت محكمة تحقيق الرصافة بالقضية الخاصة بمصرف الرافدين/فرع الزوية وأحالت أوراق المتهمين الخمسة الذين القي القبض عليهم الى محكمة الجنايات بقصر العدالة في الرصافة بموجب قرار الإحالة المرقم 614 في 12/8/2009 وعين يوم 23/8/2009 موعدا ً لإجراء محاكمتهم وفق المادة الرابعة /1 من قانون مكافحة الإرهاب. فرقت أوراق تحقيقيه بحق المتهمين الهاربين وصدرت قرارات من قاضي التحقيق المختص بمنع سفرهم وحجز أموالهم المنقولة وغير المنقولة وتعميم أمر القبض والتحري الصادر بحقهم".
لنراجع معا بعض المعلومات المقدمة: ـ وزارة الداخلية تعلن إلقاء القبض على ثلاثة متهمين بعملية قادها وزير الداخلية شخصيا. وبيان مكتب د. عبد المهدي يقول إن الفوج الرئاسي المستقل والمركز الأمني حصرا هما من قاما بإلقاء القبض على عليهم وسلمهم إلى القوات الأمنية، وأبلغا عن المتهمين الآخرين. والسيد رئيس الوزراء يعلن أن فوج الحماية الخاصة قام بتسليم المال المسروق فقط دون المتهمين، وان عمليات القوات الأمنية هي من ألقى القبض على المتهمين. ـ ما عدد المتهمين الفعلي، سبعة أم تسعة؟ ـ تحدث بيان مكتب د. عبد المهدي يوم 5/8 عن قيام عصابة من فوج الحماية الخاص بالعملية، وتحدث السيد رئيس الوزراء عن مجموعة من فوج الحماية الخاص، ثم يتحدث بيان مكتب د. عبد المهدي يوم 6/8، أي بعد يوم واحد من البيان الأول عن تورط فرد واحد فقط من الفوج بالعملية. ـ أشار بيان مكتب د. عبد المهدي يوم 2/8 إلى أن " التنسيق والتعاون السريع الذي جرى مع دولة رئيس الوزراء بشخصه، وباعتباره القائد العام للقوات المسلحة، ومع رئيس مجلس القضاء، ووزير الداخلية والمالية ووزارة الدفاع والأمن الوطني وقيادة قوات فرض القانون وعمليات الداخلية قد لعب الدور الحاسم في سرعة انجاز المهمة خلال فترة قياسية وهو ما ساعد على استعادة المال العام" (موقع رئاسة الجمهورية). كل هذا التنسيق العالي من اجل القبض على متهمين وأموال في مكان معلوم تم تصويره بالكاميرات كما ذكر من قبل!!!
إن مراجعة التصريحات والبيانات تكشف عن مناخ التسييس الذي حكم الجميع، اتهاما أو دفاعا، والغريب أن ذروة هذا التسييس جاء من السلطة القضائية، أولا من خلال توقيت المحاكمة، وثانيا من خلال مادة الإحالة. فقد تم إحالة المتهمين وفق المادة 4/1 من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005، وليس وفقا لقانون العقوبات، وتحديدا المادة 406 من قانون العقوبات وعقوبتها الإعدام. بمعنى آخر فإن القضاء لم يصنف الحادثة على أنها جريمة جنائية!!! لقد ظلت السلطة القضائية تشكو عدم كفاية المحققين والقضاة لحسم القضايا المحالة اليها، وبعض هذه القضايا الخاصة بالمعتقلين استمرت لسنوات قبل أن يتاح لها الإحالة إلى المحكمة. وظلت تقارير بعثة الأمم المتحدة في العراق تؤشر هذه الحقيقة في عمل السلطة القضائية. ولكن مجلس القضاء يفاجئنا بأن موعد المحاكمة لن يتجاوز أحد عشر يوما فقط لا غير!!! المسألة الأخطر كانت مادة الإحالة، فقد أحيل المتهمون وفق المادة 4/1، والتي تنص على: "يعاقب بالإعدام كل من ارتكب – بصفته فاعلا أصليا أو شريك عمل أيا من الأعمال الإرهابية الواردة بالمادة الثانية والثالثة من هذا القانون، يعاقب المحرض والمخطط والممول وكل من مكن الإرهابيين من القيام بالجرائم الواردة في هذا القانون بعقوبة الفاعل الأصلي". فهل ينطبق وصف الإرهاب على هذه العملية؟ يعرف القانون المذكور الإرهاب في مادته الأولى بأنه: " كل فعل إجرامي يقوم به فرد أو جماعة منظمة استهدف فردا أو مجموعة أفراد أو جماعات أو مؤسسات رسمية أو غير رسمية أوقع الإضرار بالممتلكات العامة أو الخاصة بغية الإخلال بالوضع الأمني أو الاستقرار والوحدة الوطنية أو إدخال الرعب أو الخوف والفزع بين الناس أو إثارة الفوضى تحقيقا لغايات إرهابية". فهل ينطبق هذا الوصف على العملية؟ أي أنها فعل جماعة منظمة استهدف مؤسسات رسمية بغية الإخلال بالوضع الأمني، أو الاستقرار والوحدة الوطنية، أو إدخال الرعب بين الناس، أو إثارة الفوضى، من اجل غايات إرهابية؟ (طبعا لن نقف هنا عن صيغة التعريف التي تعرف الإرهاب بأنه كل فعل لتحقيق غايات إرهابية!!! فقد وقفنا في مقالة سابقة عند إشكالية صياغة القوانين في العراق). أما المادتان 2 ,3 من القانون التي جاءت في قرار الإحالة، فإنهما أيضا لا يمكن بأي حال أن تنطبقا على العملية، فالمادة 3 تحدد الأفعال الإرهابية بأنها الأفعال التي تأتي "تنفيذا لمشروع إرهابي" (2/1)، أو "العلم بالتهديد والعنف ... بباعث زعزعة الأمن والاستقرار" (2/2)، أو "عصابة مسلحة إرهابية" (2/3)، أو "العمل بالعنف والتهديد على إثارة فتنة طائفية أو حرب أهلية أو اقتتال طائفي وذلك بتسليح المواطنين أو حملهم على تسليح بعضهم بعضا بالتحريض أو التمويل" (2/4)، أو "الاعتداء بالأسلحة النارية ... بدافع إرهابي" (2/6)، أو "استخدام بدافع إرهابي" (2/7). أما المادة 4 فتتحدث عن جرائم أمن الدولة وتحددها بأنها: "كل فعل ذو دوافع إرهابية من شانه تهديد الوحدة الوطنية وسلامة المجتمع" (3/1)، أو "كل فعل يتضمن الشروع بالقوة أو العنف في قلب نظام الحكم أو شكل الدولة"، أو " كل من تولى لغرض إجرامي قيادة قسم من القوات المسلحة أو نقطة عسكرية أو ميناء أو مطار أو أي قطعة عسكرية أو مدنية بغير تكليف من الحكومة"، أو " كل من شرع في إثارة عصيان مسلح"، أو " كل فعل قام به شخص كان له سلطة الأمر على أفراد القوات المسلحة وطلب إليهم أو كلفهم العمل على تعطيل أوامر الحكومة". فهل تنطبق أي من هذه الأفعال على حادثة الزوية؟ هذا ما نجده من تصريحات وبيانات رسمية، ومن الواضح أننا أمام كم كبير من الروايات المختلفة، والتناقضات، وعدم الوضوح، يكشف بشكل صارخ طبيعة الدولة/السلطة في العراق اليوم، وطبيعة العلاقة بين جناحي السلطة التنفيذية، والعلاقة بين الأخيرة والسلطة القضائية. إن أي محاولة للمقارنة بين هذه التصريحات، والتصريحات التي أعقبت حادثة خطف موظفي دائرة البعثات في وزارة التعليم العالي في 14 تشرين الثاني 2006، تكشف عن أننا أمام إشكالات بنيوية حقيقية، على الرغم من أن الكثير كان يسوغ ما حدث يومها بكون البلاد في أتون صراع أهلي دموي، وكان الجميع لهم سهم في ذلك. فما هو التسويغ الذي يمكن أن يقدم اليوم؟ |