المسافة بينى وبينها تنهبها الجياد .. تجرجرنى وراءها من رجلىَّ تلك الجياد ، فوق بلاط الشارع ، من أمام بيتنا إلى أمام بيتها .. أمام بوابة السور تفك وثاق رجلىَّ وتنطلق .. تنطلق إلى الداخل جياد الأخيلة .
تجتاز عيناى حيز الياسمين البرى بين السور ونافذة غرفتها المضيئة .. تودعنى عيناى .. تنطلقان من محجريهما وراء الجياد .. تتعلقان بالنافذة .
فى الصباح كنت أجرجر ورائى تلك الجياد ، كما كانت تجرجرنى فى المساء ، أجرجرها من البيت إلى المدرسة .. أمام بوابة المدرسة أحررها وأنطلق إلى حيث يقف مدرس غليظ المشفرين .. يرفع عصاه فى وجهى ويرصنى فى طابور الصباح ، ثم يعقد يديه خلف ظهره ، وقد أسلم وجهه للعَلَم . غالبًا ما كنت أتلهى عن منظره باختصار المسافة بينى وبينها ، وهى الواقفة بوجهها الوضىء قبالتى تمامًا فى الطابور المواجه .
..... الجياد كثيرًا ما كانت تفاجئنى خارجة من السبورة السوداء .. أمتطيها وأرتحل .. أرتحل من الحصة الأولى حتى السادسة ، إلى مدنٍ أخرى ليس فيها غيرى وغيرها ، وبعض السوسنات والقمر .
مرةً .. ولم يكن بينى وبينها غير غلالة وردية رقيقة ، ولم يكن يقاسمنا السكون غير رفيف فراشات ملونة .. ولم يكن غير الـ....... . فاجأنى المدرس بالسؤال عن تضاريس الوطن .. حقيقة .. ومن يومها كرهت التضاريس والأسئلة ، زبقى الوطن خطًّا باهتًا بينهما . ...... عندما كانت مستغرقة فى نومها ، ولم يعد بينى وبينها حتى الغلالة الوردية الرقيقة ، وقد أسلمت ثديها لطفلنا الرضيع ، حاصرنى الليل بالأسئلةعن تضاريس المرتب ، وعن وجبة الإفطار وعن .........
مُوجه اللغة العربية كلف نفسه عناء اختراق الأمكنة .... فاجأنى ـ هو الآخر ـ على سرير النوم : " لا بد أن تبدأ الدرس بسؤال تمهيدى لإثارة أذهان التلاميذ ... لا بد أن تشرح الدرس بطريقة الأسئلة .... لا بد أن .... " .. تلهيت عن منظره باختصار المسافة بينى وبين آخر قطعة جبن فى بيتنا , موضوعة فوق المنضدة الصغيرة بجوار السرير منذ الظهيرة . أيقظتها برفق ... شدت فستانها المشلوح عن أربعة أخماس جسدها .. سألتنى :
ــ هل انتهيت من تحضير دروس الغد ؟
ــ لماذا لم تتناولى قطعة الجبن ؟
ـ السهران أوْلَى .
ــ ولكنكِ ترضعينَ !
ــ كُلْها أنتَ ، ودعنى أنام
سألتها عن شىء بيننا .. اعتذرتْ .. اعتذرتُ أنا عن أشياء كثيرة .. فاجأتنى الجياد . اعتذرتُ لها .. احتضنت الأسئلة .
تمت
فى 3 / 8 / 1995
|