|
|
علي البزّاز... النسيانُ شكلاً للوطن |
|
|
|
|
تاريخ النشر
22/06/2009 06:00 AM
|
|
|
بعد 33 عاماً قضاها في الناصرية فقط، يرحل علي البزاز إلى عواصم عديدة. يترنّح بين موسكو وباريس لكنّ مقعده يستقر في أمستردام، وقد أثقله النزوح والمحطّات والمدن الباردة قرابة عقدين: «أيّها الدربُ لا تغلظ بالنزوح. إذا تريد أن تتهجّى النسيان فبقليل من التنصّل، وإذا كان تعب الدروب لا بدّ من مناداته فلا تضمّنهُ «لماذا؟»». هو «المصاب بالبلاد»، لا يزال «البصيصُ مقمياً بفتيله». هادئُ النبرة في كل شيء. القصيدة تزحف فيه، تعلو على نظراته وتلتبسُ في تماهيه مع الصمت عندما لا يكفّ عن الحديث. ليس من آلته في الشعر الحذاقةُ، ولا التراكيبُ بل هي لحظة مكوّرة تجعل منه «صنيعةَ الغرف المجاورة للمواهب» كما يزعم هو الشاعر الذي «لم يَختَمْ بالوصف» أحسُّ وأنا أقرأ علي البزّاز أنّه يدخل القصيدة مثل طفل في حوض، ويظل يصفِقُ جسدَه برشحات الماء في لعبة ينسى نفسه فيها كأنه وحدَه تماماً قبل الكتابة، وأثناءها، وبعدها. تتراكم الصور والضربات التي تهزّك حدّ القشعريرة أحياناً «حتّى أحجاري تتجرّعُ الطريق المعبّدة بالمجهول... حجارة تسُكُّ الطريق عملات غير نقديّة، الحجارة وأنا ليست الجدران فقط، بل كذلك ما يعتري البياض من هزال... أين الأقدام التي لا تريد أن تشغلَ الانهيار؟». يكتب كمن يرسم بورتريه لنفسه، من دون أن يدري: «هذا الشاعر نسيمٌ منزوعُ الهبوب، رايةٌ من تلك التي تَسبِقُ الناظرَ إليها»... أكادُ أرى علي البزاز نفسه. والقصيدةُ تظلُّ بين يديه، تنتشرُ أمامَهُ، تعيدُ نفسَها «تتريثُ في الدخول» قبل أن تجعل «الحكمةَ على مفترقِ العقل» بين أحلامه التي يبقى معظمُها «في ضيافةِ الممحاة». أعرفهُ لا حيلةَ له في شيء آخر... بالقصيدة فقط يواجه «العطبَ الذي ألحقوه به»، ربّما لأنه الشاعر الذي يحسن «أن يتقاسم سلاماً تستعيرُه الحربُ حيث لا فنارَ يقدرُ على توجيهِ صُراخه بعدما اكتملَ نهبُ رُشْدِه». شاعرٌ يتدفق النصُّ أمامَهُ، يسيل فَيعدو هو وراءَه، لكنّه لا يفارق الصورة التي يرى نفسه فيها لحظة النص: أنّه «شهيد حاجتها»، ولن «ينجو من الخوف المؤدي إلى الجنون»؟ «بعضه سيدوم كالبلدان» عنوانُ ديوانه الوحيد بالعربية لأنّه، وتلكَ بعضٌ من مفارقاتِه، أصدر قبلاً أربعَة مجاميعَ باللغة الهولندية «شمعةٌ ولكنْ تكسفُ الشمس» و«نادل أحلامي» و«تضاريس الطمأنينة» و«صوت في عريشة». أتذكر عندما سألته عن سرّ هذه المفارقة، وقد تعلّم الهولندية بعد 40 عاماً من تعلمه العربية وعيشه في العراق؟ أجابني بقناعتِه الباردة التي أحسست عبرها كأن سؤالي هو الغريب، وليستْ حالته، بأنه يعيش في هولندا وقد أحب الهولندية التي ظهرت له كأنّها «مقشّرة» وطيّعة أمام الصور التي تتداعى عليه عندما يكتب... لكنّه أضاف: «على أي حال ديواني بالعربية جاهز، ولم يطبع بعد. أفكر في ذلك مع ناشر عربي. لكنني بعيد في هولندا والعالم العربي أبعد إليّ من نجوم السماء». هذا الديوان هو الذي أتصفحّه الآن: «بعضه سيدوم كالبلدان» (منشورات الغاوون ـــــ بيروت)، ولا أجد مفرّاً من المفاجأة بشاعريّة ذات ثراء صوري واشتباك في الدلالات اللمّاحة التي تجعل من لُغته مثل شاشة على درجة عالية من الكثافة، كثافة ما تكاد تُمعِن فيها حتى تنبعثَ عن خلجاتٍ وصور ورؤى ذات رخاء شعري. لكن أحياناً قد يسيء إليها ازدحامُها، وارتطامُها بعضها بالبعض الآخر، كأنها تتدافعُ وتتصادم «تلك البلاد المشغولة بنشر أرجائنا على السطوح الغصة هي المياه التي يروفُها القيظ...». بعيداً عن هذا التزاحم الصوري، يمكن نص البزاز أن يمنح أجمل تجلّياته: «صبيٌّ جُرّدتْ يداه عن العشب،/ يُرسلُ أصابعَه في المياه فتعودُ متوّجةً بالحصى/... جرّب ساقيةً أخرى/ فمشت متّكئةً على الرمل». ظل البزاز أكثر من عقدين يجرب «سواقيه» ويعبر من نهر لآخر. هكذا بصمت، وأصداء بعيدة تتلاشى في ما وراء الحدود والعواصم والمدن الباردة. فقد شاء قدرُه الاغتراب إلى موسكو أوّلاً، ثم هولندا، كأنه استكان لهذا الطقس قبل الذهاب إلى أمستردام، حيث تعلّم وكتب بالهولنديّة، ونشر بها قبل أن ينشر بالعربية. وهذه تجربة نادرة، لعلها تلقي الضوء على خصوصيّة الشاعر الذي خرج من «ناصريّته» في جنوب العراق، وكان صديقاً لشعراء من أهل هذه المدينة صاروا معروفين، لكن بعد موتهم، مثل أحمد الباقري وعقيل علي... كأنه الوحيد الذي يحاول الإفلات من قبضة الصمت واللااكتراث التي تعاني منها هذه المدينة عراقياً وعربيّاً. لقد جهدتُ لإقناعه بنشر ديوانه بالعربية وكان يرفض ذلك «احتجاجاً» بطريقته... إن هذا الهامش القسري الذي ينأى تحت وطأته شاعر موهوب كعلي البزاز، هو الذي يُراد حشر الشاعر العراقي فيه. الهامش الذي يُحاصَرُ فيه العراق سياسيّاً منذ صدّام وبعد صدّام! أجدني مضطراً أن أبحث في أسباب لا علاقة لها بالشعر، أسباب للأسف لا تَرقى حتى لأن تُذكر لأنها صارت أكثر من معروفة، وقد طغتْ وتمادتْ تحت قناعِ اللااكتراث تارةً والتندّر أخرى. ابقي ساهرةً... أيتها القصيدة وأنت أيها الشاعر أنّى تمضي أمامكَ تبقى: «مفتوحةً في الصباح نوافذُ البيوت/ المطلةُ على الغريب/ لكن أبوابَها مغلقةٌ/ هذه البيوت مرائية أشكالُها/ تدّعي التسامح/ تقهرُ المجداف». |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ شوقي عبد الامير
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|