فوزي كريم قصيدة علي جعفر العلاق تُطمْئن القارئ، بفعل عناصر ثلاثة: الرشاقة، الحميمية، والإتقان. الرشاقة والإتقان عنصران فنيان، يساعدان على تحقيق حميمية يستشعرها القارئ، حتى في القصيدة الغاضبة. ولذا يبدو توزيع القصيدة على الصفحة أحياناً كثيرة استجابة غير موفقة لإيقاع الجملة الشعرية، ولموسيقاها: "من تُرى جاء بهذا النصِّ ملتفّاً، كما الأفعى، على ماضيه؟"
لأن النموذج الأمثل لهذه الاستجابة، في أماكن أخرى، قوي الحضور: "..وأنا أترنّح مستسلماً لانثيالات قافيتي ما أزالْ" هذه الرشاقة ليست وليدة إتقان فني فقط، بل وليدة لحن كامن في جملة علي الشعرية. لحن يسعى لأغنية قد تكتمل، إذا ما كانت قصيرة: "أذهلتنا/ طريقتُها في الغيابْ/ لم تودّع أخاً،/ لم تودع حبيباً،/ أو ابناً،/ وما فتحتْ/ للمغيثين بابْ.../ زمنٌ يتبدّدُ/ كالماء، بين أصابعها،/ لهبٌ عالقٌ/ في الثيابْ." أو تنطلق القصيدةُ للقارئ بالغة الغموض، وكأنها لحنٌ يبحث عبثاً عن اكتمال، فلا يقع عليه. علي العلاق يُحسن اللعب على البحور الصافية، وغير الصافية. والأخيرة تستدعي، عادةً، نفَساً لجملة شعرية طويلاً: "ماذا ستكتبُ عنك الريحُ؟/ قال: وهل لهذه الريحِ/ غيرُ الرملِ:/ تكتبه حيناً، وتمحوه/ حيناً،/ مثل عابثةٍ تعطيك/ جمرتها في الليلِ،/ ثم إلى سواك تمضي.." ولأن الشاعر ارتضى لنفسه أن يظلّ غير مؤدلج، لا ينطلق من فكرة بعينها، أو يهدف إلى فكرة بعينها، تحرص قصيدته على أن تكون سيدة نفسها، تختبئ داخل الاستعارات المتلاحقة، وتتوشح بالغموض. الرشاقة والإتقان يجعلان الحميمية، التي تتسم بها القصائد، نتيجة متوقّعة. نحن نعرف أن المتحدّث داخل القصيدة عراقي على درجة عالية من الألم، وخيبة الأمل. نعرف أنه يحلم بتحقيق أمان وتماسك (كم تحاول أن تتحقق في بنيان القصيدة!)، وانه يواجه ضحايا أمام عينيه، وفي ذاكرته. وانه يواجه جلادين. في قصيدة "الغراب" يخاطب عدوا آتياً من العتمة، من كفنٍ يتآكل، ومستسلماً للضغينة. "كيف جئت؟/ ومن أي ليلٍ أتيت؟..." ولكن هذا العدو يتوزع داخل صور القصيدة، إلى الحد الذي لا يتوفر على مطعن، أو هدف إصابة، بالرغم من أنه ينتهي بهيئة غراب، ولكن واضح الرمزية. العداءُ هنا غاضب، وهذا الغضب يحلّ محلَّ الهجاء العربي، الذي لم يرث منه الشاعر أي عنصر من عناصر الكراهية. صوت المتحدث داخل القصيدة هو صوت الشاعر بالتأكيد. وهذا يحقق "غنائية" علي العلاق الأثيرة. أحياناً يحاول هذا الصوت أن ينتسب للقصيدة، ويستقل عن الشاعر، ليحلو له الحديث عن الأخير بإكبار، على هوى العرف التقليدي في قصيدة الفخر: "كونٌ/ من القلق الدامي:/ تضيق به/ حياتُه، فيناديه الخرابُ، له/ في كلّ يومٍ جنونٌ.." حين يتوحد صوتُ القصيدة بصوتِ الشاعر يوهم، في الوهلة الأولى، بأنه يقدم نفسه للقارئ بتباهٍ: "أنا ابن الماء،/ لي ذاكرةٌ تغلي.."، ثم سرعان ما يفلت الخيط من يد الشاعر المرتبك، الباحث. وتغيم الرؤية عبر تداعيات توحي بأن الشاعر يلاحق شبح امرأة غامضاً، يتداخل مع شبح القصيدة الذي لا يقل غموضاً، بل توحي بأن الملاحقة خالصة للقصيدة المتمنّعة، التي يحلم الشاعر بولادتها: "ـ قد تأتي القصيدةُ، هكذا،/ طوعاً، بلا ضوءٍ شحيحٍ،/ دون صيادين.. ـ قد تقبل أنثاك/ تقول الطيرُ،/ من أقصى أنوثتها". علي جعفر العلاق شاعر منتج بثراء. هذه قراءة موجزة لمجموعته الأخيرة "هكذا قلت للريح" (المؤسسة العربية). سبقتها مجموعة "سيد الوحشتين"، ومجموعتان في المقالة النقدية. وعلي حريص على هذا التساوق بين العطاء الشعري، والعطاء النقدي. يجد أن صوت أحدهما لا يستقيم دون صدى الآخر فيه. |