ما من نفع في توضيح مقاصد القراءة القياسية (نمو، تقويم، تطهير، متعة، فهم، اندماج) ولا طائلة من الأدلّة التي يضعها خبراء القراءة العالميون (الروائيون والنقاد والمؤرخون), وأعظمها دليل الأرض الممتدة شمالي خط العرض 29، أرض البشر وفوق البشر ودون البشر، البدء والنهاية في تاريخ الملوك والأقوام التي هاجرت من أعلى الهضبة الآسيوية ومن سواحل دلمون واختلطت بسكان بابل وآشور. هذا المزيج من اللهجات العرقية واللغات الأصلية والنصوص الأساسية عن الخلق والطوفان والميلاد الجديد، هو مادة الدليل غير المفهرسة وغير المسجلة في أدراج المكتبة العراقية الضائعة في مكان ما من السهل أو الجبل.
ويوم أن يعثر قارئ ميزوبتاميا على الدليل الأساس لقصة الخلق والطوفان، سيضع إلى جانبه دليله الثانوي الذي فهرس فيه قصص إعادة الخلق والتكوين، واعترافات منتصف الليل، وأحلام الحشود البشرية المتلاطمة حول موقع الدليل الأعظم. كم عدد القراء الذين استدلوا على المادة الأساسية للدليل الذي يحتويه موقع المكتبة العراقية المفقودة؟ إنْ كان ثمة شخص ما قد استرشد بهذا الدليل، فإنّ الدليل الثانوي الذي سيضعه بنفسه لنفسه، سيحيد به عن الموقع القرائي القديم، وسيحدد له عدد المصنفات المخصصة لقراءته وهي لا تتجاوز بأي حال عدد السنين المتبقية من عمره، الحقيقي أو القرائي، كما أنها ليست مؤكدة الحصول وقريبة المنال، وقد تتناقص يوماً بعد يوم. حرصتُ على أن تضع مكتبتي الشخصية تحت يدي ما توفر لها من المعاجم والفهارس والموسوعات إضافة إلى أدلّة القراءة (حتى لتصعب عليّ القراءة والكتابة في غير هذا الموقع المسند بالنظم والقواعد والمراجع) وآخر ما حصلت عليه دليل هارولد بلوم (كيف تقرأ ولماذا؟) المترجم عام 2003 في القاهرة. تصدرت الدليل حكمة من والاس ستيفنز: (لقد أصبح القارئ هو الكتاب، كما أن ليلة الصيف أصبحت أشبه بضمير الكتاب). أما الشرط الذي بنى بلوم عليه مبادئ القراءة فيتلخص بهذه العبارة: (إن أفضل طريقة لمواصلة القراءة الجيدة أن تكون نظاماً ملزماً، وفي النهاية ليس ثمة طريقة غير ذاتك، عندما تكون ذاتك قد تشكلت تماماً). وفي أحسن الأحوال لا تقدم الأدلّة القرائية أقوى من هذه القاعدة: (أن تكون ذاتك حين تختار كتاباً لقراءته)، ولكن كم تبلغ قدرة الذات القارئة على التشكل عندما تكون معزولة عن فضاء المكتبة العالمية ذات الأدلّة الضخمة والمزايا الانطولوجية؟ في الأغلب ستدعم هذه الذات نظامها القرائي بأدلة ثانوية، مخصصة لسد حاجات أكثر الحالات انطواء وفقراً معرفياً. يوماً اقتصر نظامي القرائي على النصوص التي أعجبتني، ووددتُ لو كنت أنا كاتبها. كانت قائمة الدليل طويلة قبل أن أشذبها مع تناقص الرغبة في محاكاتها، ثلاثة من كتب الطفولة وددت تأليفها: الأمير السعيد، وأنا وحماري، وحكايات لافونتين المستمدة من إيسوب، وثلاثة من كتب الشيخوخة كنت أرغب في الوصـــــــــول إلى أمثالها: رسالة الغفران، ومنطق الطير، ومقامـــــــات الحريري، كان دليل الطفولة مغرياً بذكرياته غزيراً بأخيلتـــــــــــــــه، وقد غادرتُ قراءته أسفاً على خلو سلالــــــــــــــــي من قطاف شيء لا يذوي ولا يموت. وكذلك فإن فهرس الشيخوخة ليس دليلاً نهائياً على ثراء القراءة وتشكل الــــــــــــــذات (الذات الكاتبة التي كنت أنشدها من دليل قراءتي). فالأفكار العظيمة غير قابلة للتشكل والمحاكاة، وعلى الدليل أن يغير محتوياتـــــــــه، وأن يحتفظ بمؤثرات القراءة عند أرهف حدّ ممكن. يبحث غيري في روايات مثل (الدكتور زيفاغو) و(وداعاً للسلاح) عن عظمة التاريخ المنتشية بسطوتها على النفوس الصغيرة والضعيفة. بينما أردت من قراءتي هذين العملين تشجيع الذات على بناء المواقف الإنسانية الشبيهة وإسنادها في دراما السقوط والفرار. صنع باسترناك وهمنغواي وغيرهما من أدلاء الرواية الهيكلية عالماً جانبياً صغيراً تنتعش فيه عواطف الحب والرقة والفهم، وتتخفى عن سدنة الحروب وهياكل التدمير، ومثلما امتلأ دليلي في آخر الأدوار بكتب المذكرات والمراجعات المتعلقة بحروب العراق، عدتُ فشطبت على أكثرها كي أحتفظ بتأثير ((خط رهيف)) رسمه رامسفيلد على رمال الجزيرة العربية، فاصلاً بين حدّين متباعدين في تجارب القراءة: حدّ الامتلاء وحدّ الفراغ. حين انتهى ماركيز من رواية ذكريات طفولته في (مائة عام من العزلة) اتجه إلى حكمة شيخوخته في رواية (الحب في زمن الكوليرا)، وملأ الفراغ بين هذين الحدّين بروائعه، ثم اقترب من الخط الذي رسمه لنهاية عجائبه، واستراح مع (كولونيله) من محاكاة الكتب التي قرأها وأحبّا تقليدها، ولو كان الأمر بيدي، ولو عرفتُ عنوان كتابي الأخير الذي ينتظرني محتواه، لما أبقيت في دليل قراءتي شيئاً أتمناه لنفسي وأسعى إليه بنفسي، لا أعتقد أننا سنحتفظ في دليلنا بكتاب نقرؤه بعد انتهائنا من تشكيل ذواتنا. |